أواصل اليوم سلسلة كتابات عن قصص الأغاني وحكاياتها وما إذا كانت عبّرت عن حالة شخصية، سواء للمؤلف أو المطرب والمطربة أو الملحن، وأيًا كانت الحكاية والرواية فقد تكون الأغنية تجسيدًا لقصة حقيقية بداية من الكلمة والأداء واللحن، وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا، ولكننا نبدأ اليوم بالأغنية الوطنية وهي بالتأكيد لا تأتي سوى تجسيد لحالة معنوية يمر بها الشعب -أي شعب- استلزم الموقف حينها بث تلك الأغاني لرفع معنويات الشعوب، لتجعلها متحمّسة لتقبل ما يمر به الوطن، سواء حربًا أو تحركات سياسية فارقة في تاريخ الأمم. والأغنية الوطنية ليست بدعة حديثة العهد عند الشعوب؛ لأنها قديمة قدم التاريخ نفسه، إذ يروي التاريخ أن الشعوب قديما كانوا يعزفون موسيقى ترتبط بهم في وقت المحن والشدائد أو ذهاب جيش القبيلة الى قتال قبيلة أخرى أو في حالة الذود عن أرض القبيلة، وتقول بعض القصص إن نسوة القبيلة هن اللاتي كن يعزفن تلك الموسيقى؛ نظرًا إلى انشغال الرجال في أرض المعركة. فالموسيقى هنا حتى وإن ارتبطت بكلمات فهي تشارك في شحذ همم الرجال وشباب القبيلة آنذاك؛ لتحفز الجميع على المشاركة في الحرب وعدم التخلف عنها.
وكمثال للأغنية الوطنية النشيد الوطني لكل دولة في العالم، نرى الموسيقى تُعزف مثلاً في أثناء مراسم استقبال ملك أو رئيس دولة أجنبية، وحتى لو ربطنا هذا بالبروتوكول فثمّة قيمة أخرى للنشيد الوطني لكل دولة، وهو ما يظهر جليًا في المبارايات الدولية التي يشارك فيها المنتخب الوطني لهذه الدول أو تلك، فنرى اللاعبين يضعون أياديهم على صدورهم ويرددون كلمات النشيد الوطني ومعهم جمهورهم الذي لا يفارقهم، بل إن الجمهور نفسه أحيانًا يلجأ إلى النشيد الوطني لتحفيز لاعبيه على تحسين مستوى أدائهم في الملعب أو لدفعهم إلى تقديم أقصى ما لديهم من جهد.
وقبل أن أتحدث عن الأغنية الوطنية أو الحماسية في مصر تحديدًا التي يكتب لها الريادة في هذا المضمار، لا تفوتني هنا الإشارة الى المطربة اللبنانية جوليا بطرس، فهي من أكثر مطربات العصر أداءً لمثل هذه الأغاني، فشدت بأكثر من أغنية وطنية لوطنها لبنان إبان انسحاب الجيش الإسرائيلي من مناطق الجنوب عام 2000، وبعدها بشهور كان صوتها هو العامل المشترك في كل إذاعات فلسطين مع بداية انتفاضة (سبتمبر 2000) عقب فشل مفاوضات الفلسطينيين والإسرائيليين في مدينة كامب ديفيد الأمريكية برعاية الرئيس الأمريكي وقتها بيل كلينتون، والقصة معروفة فقد اقتحم الإرهابي الإسرائيلي أرئيل شارون -رئيس الوزراء لاحقًا- المسجد الأقصى، ما تسبّب في غضب سكان القدس الشرقية لتندلع الانتفاضة في قطاع غزة والضفة الغربية، وهي الأحداث التي بدأت باغتيال الطفل محمد الدرة، وكان صوت جوليا بطرس هو المحفز الأول للشباب الفلسطيني على المشاركة في هذه الانتفاضة التي لم تهدأ إلا بعد سنوات. فكانت أغنية «وين العرب وين» الشرارة التي ألهبت الحماس الفلسطيني من جميع الأطياف والتوجّهات لمواجهة الجيش الإسرائيلي بأعتى أسلحته ودباباته وطائراته، ويكفي أن تبث أي إذاعة فلسطينية هذه الأغنية صباحًا حتى ترى الشباب متوجّهين بالآلاف الى مواقع الاشتباكات مع الجيش الإسرائيلي.
أما الأغنية في مصر فهي حالة خاصة بين كلماتها مؤلفها ومؤديها وملحنها مع الشعب، ويكتب حديثًا أن ثورة 30 يونيو شهدت مولد أغانٍ وطنية جديدة ألهبت الجماهير المصرية ضد حكم الإخوان، والجديد هو أن المطرب هذه المرة لم يكن مصريًا، فأشهر الأغاني الوطنية التي اندلعت من رحم تلك الثورة كانت من نصيب المطرب الإماراتي حسين الجمسي، مثل «بشرة خير» التي كانت أيقونة أغاني الثورة، ثم «متخافوش علي مصر، بحبك وحشتيني، رسمناك، تحية مصر، أجدع ناس، سيادة المواطن، هذه مصر، فرحان بمصر»، وغيرها.
وإذا رجعنا قليلاً إلى وقت ثورة 30 يونيو، فكانت المطربة الراحلة شادية هي مطربة هذه الثورة رغم عدم ظهورها وقتها لاعتزالها، لكن صوتها كان الأبرز وقتها وهي تشدو أغنية «يا حبيبتي يا مصر» التي كانت تُذاع في كل مدن مصر وقراها، واعتقد أن جماعة الإخوان المسلمين كرهوا شادية بسبب هذه الأغنية التي قلبت عليهم الشعب المصري، فكلمات الأغنية الحماسية ألهبت المتظاهرين من الأعمار كافة في مطالبتهم برحيل الإخوان عن مصر. هذا عن قبل 30 يونيو وفي اليوم نفسه، ولكن بعدها كانت شادية أيضًا هي مطربة الثورة بأغنية «مصر اليوم في عيد» بعدما تأكد المتظاهرون من نجاح الدولة المصرية في الإطاحة بالإخوان الى غير رجعة.
أما الذكرى الأبرز للأغنية الوطنية المصرية فترتبط تحديدًا بثورة 23 يوليو فهي أكثر المناسبات التي غنى لها المطربون، حتى أن بعضهم عرج إلى مدح مفجّر تلك الثورة وهو جمال عبدالناصر باعتباره زعيم الأمة ومفجّر القومية العربية. ويُعد ناصر من أكثر الرؤساء المصريين الذين غنى لهم مطربو مصر وعلى رأسهم عبدالحليم حافظ وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، فكان عبدالحليم وفريقه المكوّن من الشاعر صلاح جاهين والملحن كمال الطويل صاحب السبق في أداء أغنية وطنية لكل مناسبة تقريبا مرّت بها مصر وقت حكم عبدالناصر. ولهذا يُعد عبدالحليم في أذهان المصريين مطرب الثورة، إذ جسّدت أغانيه وجدان شخصية الشعب المصري، وكانت الكلمة واللحن وسيلة حماسية في التأثير بشكل إيجابي على المصريين وتجعلهم يتقبلون بصدر رحب كل قرارات الثورة أو قرارات ناصر، لو شئنا الدقة.
وبما أن الأغنية الوطنية لها تأثير كبير على الشباب وحثهم على حب وطنهم، فهي تُعد تجسيدًا للتاريخ، وثمّة بعض المؤرخين الذين يحبّذون كتابة تاريخ الأوطان من خلال الأغنية والوطنية وتطورها ومتى نشطت ومتى تراجعت أهميتها، وهي بالتأكيد تُعد معيارًا للحالة الوطنية في البلاد خاصة في وقت الحروب، فهي تلعب دورًا مهمًا وترفع الحالة المعنوية لدي الشعوب، وللدلالة هنا نشير الى قيمة أغاني عبدالحليم حافظ وأم كلثوم، ليس في الشعب المصري فقط بل لدى كل الشعوب العربية، فقد تركت بصمة كبيرة في حياة المصريين والعرب.
وتُعد الكلمة من أهم مقومات الأغنية الوطنية، فلولاها لن تجد مستمعين، فالكلمة هي التي تداعب عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، ثم يأتي دور الموسيقى التي تبث الحماس والوطنية في النفوس، ثم ثالثا وأخيرا من يغنيها سواء كان مطربا أو مطربة، ومن هنا نجح الثلاثي صلاح جاهين مؤلفًا وكمال الطويل ملحنًا وعبدالحليم حافظ مطربًا، فكم ألهبت إبداعاتهم حماس الشعب المصري والعرب وخلقت جوًا حماسيًا في أوقات الحروب، فتوحّد الشعب وراء قيادة عبدالناصر، وإذا كان العدوان الثلاثي هو بداية نكسات مصر للنيل من زعيمها، فالأغنية الوطنية وقتها خلقت رابطًا قويًا بين ناصر وشعبه، فوقف بجانبه وآزره وسانده، فخرج ناصر بعدها منتصرًا ولو نصرًا سياسيًا ومعنويًا، والأغنية هنا كان لها مفعول السحر في هذا النصر، ولهذا نشطت الأغنية الوطنية في عهد ناصر لأنه أدرك أهميتها له ولشعبه وللعرب، فكان عصره هو العصر الذهبي لهذا النوع من الأغاني إذ شهدت تألقًا لا نظير له من المطربين كافة، وعلى رأسهم محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم الذي كان له النصيب الأكبر من تلك الأغاني، إذ قدم لوحده نحو 67 أغنية عبّرت كلماتها عن الفرح بنجاح الثورة وانتصاراتها ثم انتصار حرب أكتوبر، ومن أشهر أغانيه العالقة في ذهن الجماهير:«صورة، يا جمال يا حبيب الملايين، ناصر يا حرية، احنا الشعب، بالأحضان، حكاية شعب، موال النهار، ابنك يقول لك يا بطل هات لي النهار، صباح الخير يا سينا، و أحلف بسماها وبترابها، اضرب، السد العالي»، وغيرها. ولم يكن عبدالوهاب وأم كلثوم وحليم وحدهم البارزين في هذا المضمار، إذ شاركهم تقريبًا كل المطربين والمطربات المصريين وقتها.
وإذا كان عبدالحليم هو مطرب ثورة يوليو، فسيد درويش هو رائد الأغنية الوطنية في مصر، إذ بدأ بالأغنية الأشهر «قوم يا مصري» لتكون ملهمة ثورة 1919، وتلاها بنشيد «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي» الذي أصبح النشيد الوطني لمصر.
في النهاية، يلعب الفن دورًا مهمًا في حياة الشعوب، فهو يوثق اللحظات التاريخية المهمة للأوطان ويقف سدًا منيعًا في مواجهة النكسات حتى تأتي الانتصارات، ليكون شاهدًا عليها.