بعد أعوام من الإهمال والتجاهل تلقى مكالمة هاتفية من مدير برنامج سياسي في التلفزيون الرسمي يقترح عليه المشاركة في ندوة تلفزيونية، تحدد الموعد وعنوان الندوة وأسماء الضيوف المشاركين، انتشى قليلا، ولكن بدأت التساؤلات تطرق رأسه: هل بدأ عهد الصفح والتسامح ونسيان الماضي حقيقة؟ ام انه خطا خطوة إيجابية باتجاه السلطة فتلقى ردا مماثلا وسريعا؟ قال في نفسه: لا يصح الغاء المعارضين سواء كانوا سابقين او لاحقين، ان الدولة تحتاجهم دوما وخصوصا في زمن التحولات والانعطافات الكبرى لتعظيم اتباعها وتعزيز ديموقراطيتها الوليدة ذات الاطياف المتعددة، ولإغراء الممتنعين والمترددين كي يلتحقوا بركبها، كان النظام السياسي قد طرح رؤية سياسية شاملة تتضمن اعترافا بالمعارضة " النوعية " وبأهمية وجودها ودورها في دعم النظام ومؤازرته وفي تقويمه واصلاحه اذا اقتضت الضرورة ، فاختار الانضواء تحت جناح هذه " المعارضة الجديدة فاحتمى تحت مظلتها وكرس كتاباته ومناقشاته لإقناع الجماهير بها .
دخل صالة الاستديو، ممتلئا بالأفكار الإيجابية، سجل في مفكرته الصغيرة النقاط والامثلة والتطبيقات التي سيتناولها والتي سبق له ان طرحها في منتديات سابقة، سيقول انه لم يعد يؤمن بالمعارضة الثابتة الدائمة كما تفعل المعارضات التقليدية، انما بتلك المعارضة المرنة المستوعبة للتغيير الدائم، فان استحسنت من النظام - فعلا ايدته، وان استقبحت امرا عارضته، هي معارضة لا تعادي النظام على طول الخط، بل معارضة تنتقل بسهولة من ضفة التأييد الى ضفة المعارضة حسب المواقف والظروف.
نظر الى المشاركين، فشعر بالانتشاء، قال في نفسه: هؤلاء لا يسهل التفوق عليهم فحسب بل اكتساحهم بمداخلة واحدة، وتبيان حجم البون الشاسع الذي يميزه عنهم علما وثقافة، لقد أمضي حياته مكرسا كل وقته للعمل السياسي وللقراءة والكتابة ونشر الروايات ودواوين الشعر ومراسلة الصحف والمجلات الخارجية على إثر منعه من الحضور والتشارك في الشأن المحلي في الداخل، وذلك قبل ان ينتهي الى السجن ويمضي عقوبة طويلة
ما ان بدأت الندوة حتى تجلت صحة شكوكه، فالمتحدثون الثلاثة بدوا له في غاية الركاكة وهزالة الطرح، اين عمره الثقافي والسياسي وتجربته التاريخية ولغته البليغة وغزارة معلوماته وجرأته مقارنة بهؤلاء الشباب الاغرار المصنعين الذين جرى تحفيضهم ما يراد قوله قبل الدخول الى الأستوديو بلحظات.
لم يكن اول المتحدثين، بل ان المذيع اقتطع لنفسه مساحة صغيرة تناول فيها بعض المحاور باختصار قائلا انه يفضل تخصص الوقت الكبر للمشاركين
انطلق المتحدثون، دوَن في مفكرته بعض الأفكار التي يود التعقيب عليها
مضت ربع ساعة ولم يأت دوره، مالهم يسهبون في الحديث بلا أي حساب للوقت المخصص لهم، قد يعود السبب الى اجتهاد خاص من هذا المذيع لإبراز شخصياتهم ومنحهم فرصة أكبر للظهور على خلفية طراوة عودهم وحداثة تجربتهم السياسية .
حدق في ساعته بانفعال، رمق المذيع بنظرة صارمة ووجه متجهم، عله يراه ويقر بوجوده، تحرك المذيع صوبه مستجيبا لإلحاح نظراته وحركاته ، الا انها فرصة لم تتجاوز الدقيقة الواحدة والتي لم تسعفه على قول شيء مما رسم في مخيلته، قطعها صوت المذيع بسرعة معلنا: "فاصل ونعود "
غادر كرسيه واندفع نحو المذيع بالسؤال:
· ماذا افعل هنا؟
اجابه بهدوء:
- سيكون الوقت كله لك بعد الفاصل انشاء الله.
، شحن نفسه مجددا بالأمل، لكنه شعر بالانقباض والاهانة، هم الذين تواصلوا معه وهم الذين طلبوه، وهاهو يستجدي الفرصة للحصول على الكلام
انتهى الفاصل فاعتدل في جلسته ونفض ثوبه وأعاد ترتيبه وتهيأ للبدء في الكلام، عاد المذيع الى إدارة دفة الحديث بين الضيوف الثلاثة وراح ينتظر دوره
وبينما كانت الكاميرا تتجه نحو الضيوف متجاهلة إياه، تلقى قصاصة ورق صغيرة من خلف الكواليس مذيلة باسم المذيع، جاء فيها:
" ستعطى كل الوقت في الخمس دقائق الأخيرة، فاستعد "
هذا صنف جديد من الحوارات التلفزيونية لم يعرفه قبلا، قال في نفسه
وراح يستعرض في ذهنه الأفكار التي سيضطر الى تلخيصها في عدة كلمات، قال في نفسه: الشطارة كل الشطارة في التلخيص، ولكنه سيستهل الكلام بالإشارة الى الظلم الذي وقع عليه نتيجة تهميشه وتجاهل وجوده في اول لقاء له مع الجماهير وعلى الهواء مباشرة ، وهو الذي جيء به للحدث عن أهمية وجود الراي المخالف والناقد والمعارض في الحياة السياسية ،من الضروري قول ذلك انصافا لحقه ولحق جمهور المشاهدين الذين كانوا ينتظرون دوره بالتأكيد ،ان وجود اسمه على برنامج سياسي كفيل بجذب الجماهير ورفع نسبة المشاهدة كما يرى نفسه دوما ، لكنه عدل عن الفكرة متذكرا انه قرر التحلي بالإيجابية الى الشوط الأخير ،لا ضرورة لاستعراض أي مظلمة وقعت عليه او على غيره محبذا البقاء في حديث المستقبل ومناقشة قيم التسامح والمصالحة ونسيان الماضي والبدء من جديد تناغما مع زمن مختلف ومعارضة نوعية ومختلفة .
كان يتأرجح في افكاره عاجزا عن إيجاد جواب لما يحدث حوله، وما هي الا لحظات حتى استيقظ من غفوة تأملاته على وقع طقطقة اغلاق الأجهزة والانوار الكاشفة، والمذيع يشكر المشاهدين معلنا انتهاء الحلقة، ساد الظلام لعدة لحظات، سمع أحد افراد الطاقم الفني يقول " يعطيكم العافية جماعة، كانت حلقة حلوة "
عدل غترته وعقاله، انطلق الى الخارج قبل غيره محاولا تجنب رؤية الحضور، هرب الى سيارته المركونة في زاوية مظلمة للانفراد بنفسه واستعادة توازنه.
هاتف زوجته التي يشعر دوما انها تجلده بسياط نقدها القاسي، من المهم قبل كل شيء ان يجد وسيلة لمواجهتها، لن يغمض له جفن قبل مصارحتها بما حدث له في هذه الليلة الكالحة، لا قدرة له على تلقي المزيد من الأسئلة والتعليقات الذي لا طائل منها، قبل ان يبادر بالحديث استبقته بالسؤال:
· كيف كانت الندوة، ثم اردفت: معذرة .... لم يسعفني الوقت لمشاهدتها.
انقذته بجوابها المفاجئ فعاجلها بالرد:
- كنت متوعكا بعض الشي، واحمد الله انهم كانوا متعاونين جدا معي.