كان الأقدمون يؤمنون بأن التواصل بينهم يزيدهم لحمة وألفة ومودة، أجدادنا وآباؤنا تعوّدوا أن ينتهزوا الفرص للتزاور فيما بينهم، أهل الحد يزورون أقرباءهم في النعيم وسلطة أو قلالي والمحرق، وأهل المحرق يزورون أقرباءهم وأصدقاءهم في المنامة أو في المدن الأخرى والقرى، وكذلك كان يفعل أهل المنامة والقرى، وعندما ضمّت مدينة عيسى منذ افتتاحها منذ خمسين عامًا تقريبًا أهل المدن والقرى، كان سكان المدينة في تواصل مع أهاليهم من سكناهم الأصلي، وكذلك فعل قاطنو مدينة حمد عندما انتقل إليها سكان مدن وقرى البحرين، فكانت الحركة لا تهدأ، وتوافرت وسائل المواصلات الخاصة والعامة لنقل الزائرين وكأننا نعيش في حركة دائمة يوميًا. صحيح أن هذه الزيارات قصيرة، لكنها مفيدة لتقوية أواصر اللحمة بين الأهل.
رحم الله جداتنا عندما كن ينتقلن إلى أهلهن في المحرق أو المنامة أو الرفاع أو في قرى البحرين المختلفة، فقد كن يمكثن لثلاثة أيام وليالي، وعندما كنا صغارًا لم نبدأ المدرسة بعد كنا معهن نعيش تلك اللحظات الأسرية ونسعد باللعب مع الأطفال الذين هم في سننا، وكان على الأهل أن يعرّفوننا بصلة القربى بيننا وبينهم من أبناء العم أو الخال أو العمة أو الخالة إلى غير ذلك من صلة القرابة، وكنا نفرح بأن نحمل من عندهم ما تشتهر به مدينتهم أو قريتهم، كما نجلب إليهم ما تشتهر به قريتنا أو مدينتنا.. هي زيارات قصيرة لكنها كانت مفيدة في تقوية العلاقات الأسرية بين الأهل على اختلاف صلة القرابة، وكانت بمنزلة فرص سانحة للتعرف عن قرب على عناصر القوة في أسرنا والبناء عليها.. بالتأكيد كان للتواصل مردوده على تقوية الأواصر، خصوصًا أن الأسر المستضيفة تحاول أن تُعرّف الجيران على القادمين إليهم من المدن والقرى، فيتعارفون ويتبادلون الأحاديث، وتتاح الفرصة للأطفال أن يشاركوا الآخرين في الألعاب التي كانت متاحة لهم في وقتها..
تغيرت الأوضاع في عصرنا الحاضر وباتت مجالات التعارف محصورة إما في المدارس، أو في العمل والوظيفة، أو في المناسبات أفراحًا ومواساة، وبات الأمر مقتصرًا على زيارات طارئة أو الاكتفاء بالمكالمات التلفونية أو بوسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، وأحيانًا الزيارات المحدودة ولسويعات قليلة.
من يعيش هذه اللحظات في وقتنا لا يتصوّر ما كان عليه مجتمعنا في زمان مضى، وعندما نقصّ عليهم حكايات ذلك الزمان يتصوّرون أنها من قصص الماضي السحيق ولا يشعرون بقيمتها وأثرها الاجتماعي، ولا يتصوّرون أن تقوم الجدات بالبقاء عند الأهل لمدة ثلاثة أيام أو أسبوع، ويعتقدون أنه من المستحيل أن يحدث هذا في هذا الزمان، ومعهم الحق في ذلك.
فإيقاع الحياة قد تغيّر، ونمط المعيشة فرض بعض القيم والمعطيات التي لم يدر في خلدنا أن يحدث ذلك في مجتمع يتعارف أهله في المدن والقرى، بل إن صلة القرابة بينهم متأصلة، وفي بلد حباها الله بالأمن والاستقرار والتفاهم والألفة.. وهل نستطيع أن نعيد عقارب الساعة بكل تجلياتها وقيمها ومعاييرها؟! سؤال صعب الإجابة عنه، ولكنه سؤال مشروع علينا أن نحاول أن نجيب عنه ولو على سبيل الافتراض المبني على معطيات الماضي وقيمه، ولنحاول جميعًا التفكير في ذلك في هذه المساحة البسيطة، فقوة أي مجتمع هي في تكاتف أبنائه ولحمتهم ومشاركتهم أفراحه والتغلب على الصعاب التي تواجهه، وكلما تعاونا وتبادلنا الزيارات وتشاورنا فيما يعود علينا بالنفع والفائدة كلما واجهنا التحدي الحضاري بثبات وثقة وراحة ضمير وإحساس بالجماعة، والشعور بالآخرين والمشاركة الوجدانية معهم تشعرنا بالأمان والاطمئنان، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن بعض الأسر مازالت تعتبر يوم الجمعة من كل أسبوع هو ملتقى الأسرة كلها في بيت الوالد أو الجد مهما تنوّعت أماكن سكناهم في المدن أو القرى، فـ«البيت العود» الذي يحلو للأجيال التي سبقتنا تسميته بذلك به كل معاني الألفة والمحبة والترابط الأسري، ويعتبر مدرسة يتعلم منها أبناؤنا وأحفادنا أهمية صلة القرابة بينهم، والمحافظة على هذا التقليد فيه من المعاني والعِبر ما يجعلنا نتمسّك به ونحرص عليه ونعلّم الأجيال بضرورة التشبث به وتوارثه جيلاً عن جيل، فهذه السويعات من التواصل علّها تكون ثمرة للمستقبل يتم من خلالها تقوية أواصر المحبة بين الأبناء والأحفاد وبما يحفظ أمنهم واستقرارهم وتعلقهم بتراب الوطن.. تظل اللحمة بين الأهل ركيزة أساسية في تقوية مجتمعنا الشرقي الذي يؤمن بقيم الترابط الأسري، والتكاتف والتعاون والتعاضد لما فيه خير الوطن وأهله، وعلينا كآباء ومربين أن نغرس هذه القيم في مجتمعنا المعاصر وأن نذكر الأجيال بقيم عاش عليها الأجداد والآباء، ومهما تغيرت معطيات العصر والزمان فإن إرادة البقاء والمحافظة على قيم الترابط والألفة والمحبة تحتاج إلى جهد ومثابرة ونية صادقة ومخلصة، وأملنا كبير في أبنائنا وأحفادنا إن نحن تعاونا معهم في تحقيق كل ما يصبو إليه مجتمعنا من أمن واستقرار وبناء ونماء.
وعلى الخير والمحبة نلتقي