كنا صغارًا نحلم بدراجة هوائية تنقلنا من مكان إلى آخر، شعورًا بالاستقلال في اتخاذ قرار المسير اليومي، وبشعور الانعتاق من قيود الحركة البطيئة وبالقدرة على الوصول إلى أماكن لم يتسنَ لنا زيارتها بمفردنا.. وزاد الشعور عندنا لما كان يتحتم علينا الذهاب إلى المدرسة الابتدائية مشيًا على الأقدام، وضرورة مجارات زملائنا ممن تعلموا ركوب الدراجة وصاروا أساتذة في السير بها في كل الظروف وبسرعات بهلوانية وشطط وطيش الشباب.
كان الوالد إبراهيم يرحمه الله مشفقًا عليَّ من ركوب الدراجة خشية حدوث ما لا تحمد عقباه، ثم أنه بثمن الدراجة يستطيع أن يقيم أودنا من الطعام والشراب، فأشفق علىَّ وعلى حاجتي جدي لأمي يرحمه الله حسن بن علي بدر، فاشترى لي دراجة هوائية وكانت أكبر من سني مما جعل عمي صالح الله يعطيه طولة العمر يجد فيها ضالته وسعى أيضًا لتدريبي على قيادتها.. كنت مزهوًا بدراجتي الهوائية متباهيًا بها بين أقراني، وقعت من فوقها أكثر من مرة، أصابتني الرضوض وتعرضت لجروح ولكن الفرحة بها لا تعادلها فرحة فهي رمز الشباب والاعتماد على النفس.
اليوم عندما أجد أحفادي وقبلهم أبنائي وهم يركبون الدراجة الهوائية لأول مرة تعاودني الذكرى بتلك المرحلة من الطفولة الأثيرة إلى نفوسنا جميعًا. بعد التخرج من الجامعة والعمل في وظيفة الصحافة بمجلة «صدى الأسبوع» البحرينية الأسبوعية التي كان يرأس تحريرها وصاحب الامتياز الأستاذ علي سيار رحمه الله وغفر له، وجدت نفسي بحاجة إلى سيارة على قد الحال أستطيع من خلالها الانتقال من البديع، حيث سكني إلى مدينة المنامة، حيث مقر المجلة وأوفر على نفسي المشوار اليومي بالنقل العام من خلال الباص الخشبي الذي وجدت صعوبة في الوصول إليه أحيانًا عندما نتأخر ليلاً في تسليم العدد الجديد من المجلة إلى المطبعة مما أضطر أحيانًا للمبيت في المنامة إما في المطبعة أو في مبنى المجلة.
كان العمل في مرحلة الشباب متعة فهو شعور بالاستقلال المالي والاعتماد على النفس ومعرفة رجال كان لهم باع طويل في العمل والخدمة الوطنية، ثم إن إنجاز تحقيق صحفي يجد صداه في المجتمع مبعث فرح وسرور لصحفي مبتدئ يشق طريقه في مجتمع به قامات صحفية لها تاريخها المعروف. عمومًا كانت الرغبة في شراء سيارة تسبقها مرحلة لابد منها وهي تعلم السياقة وما فيها من صعوبات وعقبات مالية ولوجستية والخوف من الرسوب لأول مرة مع شدة وحزم ضباط المرور الذين اشتهر عنهم وقتها بالشدة والحزم حرصًا منهم على أن تكون السياقة آمنة وقدرة المتدربين على الإتقان والإجادة.. كانت تجربة لابد من الشروع فيها وقبول كل التحدي ووفقت ولله الحمد بالتدرب على يد أحد أمهر المعلمين ومن بين أكثرهم تجربة وخبرة وحرص على قدرة المتدرب على السياقة الآمنة وهو المعلم حمد بن الشيخ الذي فارق دنيانا منذ وقت قريب يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته. وعندما اجتزت امتحان السياقة إزدادت الرغبة في اقتناء سيارة لأنتقل من خلالها إلى مرحلة أخرى من التجربة الحياتية، وكنت وقتها قد غادرت مجلة صدي الأسبوع والتحقت بوزارة الإعلام بدار الحكومة للعمل في إدارة الصحافة، وبعدها إلى الشؤون الثقافية.
كانت أسعار السيارات في متناول الجميع حسب نوع السيارة وحجمها ومصدر صنعها، وكانت التسهيلات لشراء سيارة متوفرة عند تجار السيارات البحرينيين الذين أدركوا بحسهم الوطني إمكانيات وقدرات الشباب فلم يبالغوا بالدفع المقدم ويسروا قيمة الأقساط بما يتناسب مع المداخيل للشباب المقبلين على الحياة، فكان الحاج إبراهيم خليل كانو يرحمه الله وكيل تويوتا في البحرين سمحًا وعندما ذهبت إليه في مقر الشركة المقابل لقلعة الشرطة سابقًا وزارة الداخلية حاليًا رحب بي وأمر الشخص المسؤول في المحل بالتسهيل عليَّ ما أمكن، فكانت سيارتي الأولى التي أصبحت بمثابة أعز ذكرى يمكن أن يحتفظ بها إنسان، وقد سررت عندما علمت حتى وقت متأخر أن السيارة كانت لا زالت موجودة رغم تعدد المشترين..
اليوم تغيرت الظروف، فطموح الشباب أصبح مرتفعًا، والرغبة في اقتناء السيارات الفارهة وذات السرعات العالية مطلوبًا، ورغم ذلك فلا يمكننا – والحق يقال – التعميم، فهناك من يجد الحاجة الماسة للسيارة، وهناك من يجد الحاجة الماسة لأكثر من سيارة ومن كل الأنواع والأحجام.. كان تعاملنا مع السيارة مبني على إمكانياتنا الذاتية في تغيير زيت السيارة وإصلاح بعض الأعطال فيها، وكذلك صيانتها وتنظيفها بشكل يومي من خلال عرق جبيننا، فكانت تربطنا بسيارتنا علاقة مودة، فكانت الصيانة الدورية لازمة ومهمة، ما نعجز عنه طبعًا تكون من مهمة ميكانيكي السيارات. أما الأمور الروتينية فقد تدربنا عليها أو نستعين بصديق صاحب تجربة وخبرة، ما أجمل تلك اللحظات التي نتفرغ فيها لصيانة سيارات بعضنا بعضًا فقد كان هذا نوعًا من التكافل الاجتماعي، وكنا الأحرص على فهم أسرار السيارات ومعرفة إمكانياتها.. نحتاج في وقتنا الحاضر للتعامل مع ما نملك من أجهزة حديثة بعين الفاحص المدقق الفاهم لأسرار التقنية لكي نستطيع أن نستفيد منها الاستفادة القصوى ونوفر على أنفسنا الكثير من المال والجهد والتأخير والتسويف.
الله يرحم الآباء عندما كانوا يخدمون أنفسهم بأنفسهم حتى عندما اقتنوا السيارات وغيرها من الأجهزة الكهربائية، سعوا جاهدين لمعرفة أسرارها وإصلاح بعض الأعطاب البسيطة التي لا تحتاج إلى المختصين وبذلك شعروا بأهمية جهدهم وتفكيرهم ووفرا على أنفسهم الجهد والمال...
وعلى الخير والمحبة نلتقى