من صيد البحر ونحن صغار تعلمنا الصبر والانتظار، نرمي «بالخيط» أو السنارة كما تسمى في اللغة وننتظر أن تأتي سمكة لتفرحنا بتجاوبها، فنتفاعل معها ونجذبها إلى اليابسة ونتفنن في رفع الشص عنها بطريقة لا تؤلمها، لنسعد بمنظرها وهي تسبح في الماء الذي أعددناه لها لحين تأتي لها زميلة أخرى... كانت فرضة البديع وقتها تعج بالصيادين الصغار الذين تفننوا في طرق صيد الأسماك الصغيرة، بينما الأجداد والآباء خاضوا غمار البحر بحثًا عن الصيد الوفير والأسماك في الخور الجبلي، حيث يقطعه الآن جسر الملك فهد شرقًا وغربًا أو بواسطة «الحظور» المنصوبة في البحر في منطقة «سهيلة» وغيرها من المناطق، أو برمي «القراقير» أو «الدوابي» جمع «دابوي»، وهو قفص الصيد الكبير، مع الانتظار ليوم أو يومين كي تأتي الأسماك إليه، والكل كان يعرف تحديدًا مكان هذه الأقفاص رغم اتساع البحر، ولكن خبرة البحارة أهلتهم لمعرفة الموقع تحديدًا.
قد يكون هناك تعدٍّ خطأ أو عمدًا لكن البحارة بينهم عقد وميثاق غير مكتوب، لغة التفاهم سائدة ومفهوم العفو والمعذرة مقدر ومحترم... كانت فرحة هؤلاء البحارة لا تقدر إن كان الصيد وفيرًا، وحزنهم وأساهم كان بالغًا إن جاء الصيد على غير ما يرام... لقد تعودنا انتظار البحارة وعودتهم سالمين، شعورًا منا أن على أيديهم يكون الخير..
البحر رغم ما فيه من مخاطر، إلا أنه كان مصدرًا للرزق منذ قديم الزمان، تعاقبت أجيال وظل البحر الأثير إلى أهل البحرين في المدن والقرى. ذهبنا إلى المدارس وقبل ذلك إلى الكتاب فتعلمنا الصبر على حفظ القرآن الكريم وتلاوته، وذقنا حلاوة الفهم والاستيعاب وفرحة الملا بإجادة قراءتنا للقرآن الكريم، وكذلك فرحة الأهل بحفل ختم القرآن ومرورنا بالبيوت في الحواري والفرجان معلنين ختمنا للقرآن، وفرحين بما تجود به أنفسهم لنا من هدايا.
وذهبنا إلى المدارس الابتدائية مشيًا على الأقدام مستقبلين علمًا نافعًا ومقدمين على مجتمع جديد، عبارة عن مدرسة ومبنى وإدارة وهيئة تعليمية وموظفين وطلبة من كل القرى المحيطة، إنه أول مجتمع أو قل نواة لمجتمع يتشكل، تتم فيه المعرفة والتعاون، ومجتمع يفرض عليك التعاون والتكاتف والأخذ والعطاء بكل ما يحمله من حب وبغض وتجاوب وتفاهم، كي تستقيم الحياة في مجتمع لا بد أن يتشكل ويفرض نفسه، فتعلمنا أن نكون متحابين متعاونين، نقلد من هو بمثابة القدوة والمثال فطنة وذكاءً، ونتجنب من هو كسول وغير مبالٍ.. تكونت صداقات جديدة ذابت الفوارق، تلاشت المناطقية وأصبح الولاء للمدرسة والوطن رغم تعدد القرى، حتى إذا ما دخلنا المرحلة الإعدادية والثانوية تشكل أيضًا مجتمع جديد من الجسم الطلابي فتم الاختلاط بأهل المدن وطرأ على مفهومنا تأثير المدينة على أبنائها، وتأثير القرى بقيمها على أبنائها أيضًا، فتشكل مجتمع يؤمن بأن الخير للوطن وبأن الجميع من أجل خدمة الوطن ورفع شأنه تمهيدًا وانطلاقًا أما للدراسات العليا في جامعات العالم العربي والأجنبي أو العمل في الوظائف المتاحة وقتها لحملة الشهادة الثانوية، وكانت المجالات وقتها معقولة وتستوعب أعداد الخريجين.
وتعلمنا في الوظائف التي جمعتنا بعد مراحل التخرج المختلفة بأن التعاون في الوظيفة الواحدة بين منتسبيها ضروري ولازم، والاستفادة من بعضنا بعضًا واجب وحتمي، فآمنا بضرورة التطوير والتحديث خدمة للوطن، وشعرنا بأن من واجبنا أن نعلم الأجيال التي تأتي لتواصل المسيرة، مع شعورنا الدفين بأن المستقبل بالنسبة لهم سيكون بإذن الله أفضل شريطة أن يؤمنوا بقيمة العمل وضروريته وحتميته، وأن يتحلوا بالصبر والأناه والأمانة والإخلاص، فمع الوقت تشعر بأن الوظيفة التي اخترتها أو اختار القدر لك أن تكون فيها هي وظيفة أمانة عليك تسليمها لأجيال تأتي وهي بكامل قوتها وعطائها.
وتعلمنا أننا لسنا مخلدين في وظائفنا وبأن التقاعد سنة الحياة، والخوف من سن ما بعد التقاعد خوف مشروع ففيه كل السلبيات المتوقعة وغير المتوقعة، ولكن التكيف مع هذه المرحلة يحتاج إلى صبر وأناة، ولكن العزاء دائمًا في أن الواحد منا ترك أثرًا في وظيفته السابقة يذكر هذا الأثر الطيب بعد بلوغه سن التقاعد المفروض.
وسيظل الواحد منا متعلقًا روحيًا بالوظيفة التي شغلها وهي تظل شاغله لفكره وعقله حتى بعد التقاعد منها، فهي ليست وظيفة والسلام لكنها وظيفة نجد فيها الوطن وتقدمه ورقيه وبلوغه الأهداف المبتغاة والغايات المرادة..
سنظل نتعلم من الحياة بما تحمله من صعاب ومشاق وفرص ضائعة وفرص تم الاستفادة منها، سنتعلم من بعضنا بعضًا، أفرادًا وجماعات، مهما اختلفت أساليب تربيتنا وتحصيلنا العلمي والمعرفي... سنتعلم كيف نعيش مع بعضنا بعضًا في وفاق وأمن وأمان، سنتعلم أنك لا تستطيع أن تعيش وحدك وأن الآخرين يتقاسمون معك الهواء والغذاء ويلتحفون بسماء واحدة ويشربون من نفس الماء الذي تشربه، وأنك في البدء والنهاية إنسان تعيش مع الآخرين ومن أجل الآخرين، فالحياة أخذ وعطاء، وما دمنا نعيش فمن ضرورات العيش أن نتواضع في آمالنا وتطلعاتنا، وأن ترتفع عندنا الأحاسيس بقيمة الوطن وأهله وأن نبذل الغالي والنفيس من أجل عزته وكرامته.
وعلى الخير والمحبة نلتقي