والتفتت نورة ليطالعها وجهها في المرآة .. تأملت قسماته .. لا حظت خطوط جديدة رسمتها يد الزمن على وجهها .. إلا أنها لم تستطع أن تمحي جمالاً تميزت به في شبابها ... مالها تشعر بكل هذا الضيق .. حتى هواياتها ما عادت تمتعها مثلما كانت تفعل في الماضي .. الملل والفراغ حولها يمتص كل إحساسها بالحيوية والرغبة في الحياة .. شعور غريب لم تشعر به من قبل إلا نادراً... الا إنه كان يرحل بعد ساعات أو يومين .. لكنه في هذه المرة استمر معها أسبوعاً .. ويأبى الرحيل .. وفجأة .. رن جرس الهاتف ... لينتشلها من أفكارها .. نهضت لترد ..صوت ابنتها هدى يتسلل إليها .. لا بد أنها شعرت بانها متضايقة .. كم هي حساسة ورقيقة هذه الأبنة .. غريب أن تتصل بها دائماً عندما تكون في حاجة إليها.
تسلل صوت هدى إليها
"أمي كيف حالك ؟ ..لا أدري لماذا خطرت ببالي شعرت بالقلق عليك .. هل أنت بخير .؟"
وتظاهرت نورة أنها في أحسن حال حتى لا تقلق عليها ابنتها "
ولم يخدع صوتها ابنتها .. كانت نبراته ثقيلة .. عادت هدى تلح مرة أخرى
" أمي ما بك .. أخبريني بصراحة .. هل أنت مريضة..؟
أجابتها نورة فوراً لتبدد قلقها عليها
" لا لا... لا تشغلي بالك بي .. كيف حال سامي والأولاد؟
وعادت هدى
"بخير ... لا تهربي يا أمي من سؤالي .. بالي مشغول عليك ..لا أعرف لماذا؟ ... ماذا تفعلين الآن ..؟ الساعة تقترب من العاشرة صباحاً...؟"
وسرحت نورة بأفكارها .. ماذا يهم يا أبنتي .. التاسعة او العاشرة صباحاً الوقت يمر بطيئاً مملاً .. أيامي متشابهة .... حتى أشغال الإبرة التي كنت أتمتع بها كرهتها .. مللت القراءة ... مللت كل شيء ... الملل يكاد يخنقني .. وأريد أن ابكي
وتمالكت نفسها حتى لا تبكي فعلا ً فيزداد قلق ابنتها عليها.
وعادت هدى تسأل
"مالك سرحت يا أمي أين ذهب تفكيرك ؟"
وردت فوراً
" لا .. لم أسرح أنا بخير"
وأنقطع صوتها.. لم تعد قادرة على مقاومة البكاء ..الضيق يكبس على أنفاسها ... ولا تدري الى أين تهرب
وانبهرت هدى عندما سمعت شهيق أمها .. كانت تبدو أمامها دائماً متماسكة قوية .. لا تتذكر أنها رأتها تبكي أبداً إلا عندما توفى والداها .. ترى .. ما بها اليوم ..؟ ما الذي يدفعها للبكاء؟ ..... لقد لا حظت منذ أيام ملامح الضيق مرسومة على وجهها ... لكنها لم تعلم أنها كانت متضايقة الى هذا الحد .. فكرت في طريقة تملأ بها فراغ حياتها بعد رحيل والدهم ..
فاقترحت على أخوها محمد أن يطلب من والدته أن تعمل معه في مؤسسة والدها التي أصبحت الآن مؤسستهم جميعاً .. وقبل أحمد الفكرة فوراً
قالت هدى
" لماذا تخفي ضيقك عنا ..؟ الم تحملي همومنا دائماً ؟"
ردت أمها وسط دموعها.
"أشعر بالضيق يا ابنتي منذ عدة أيام .. حاولت أن أطرده بزياراتي لكم .. بالقراءة ومشاهدة التلفزيون .. وبأشغال الابرة .. لكنه يأبى أن يقارفني ...ربما يكون بسبب الفراغ الذي أعيشه .. الخدم يقومون بكل شيء ... تعودت أن أكون مشغولة دائماً في حياة والدك .. بودي لو أعمل ... ليتني بدأت العمل قبل رحيله .. حتى لا أشعر بهذا الفراغ الرهيب... لم أحسب حساب لهذه الأيام .. لم أتوقع أن يتركني ويرحل ولم تستطع نورة أن تتمالك نفسها ... فبكت" ..
وتسارعت ضربات قلب هدى خوفاً على أمها ...
" أنا قادمة يا أمي مسافة الطريق فقط وأكون عندك ..."
كانت هدى دائماً أقرب أبنائها إلى طبيعتها .. وأكثرهم إحساساً بها ... لكنها الآن مشغولة بعملها وأسرتها .. لم تعد معها دائماً مثل الماضي ....
أما كان الأفضل لها لو أن زوجها ساعدها على بناء حياة خاصة بها تشغل تفكيرها الآن .. وتذكرت أن ابنة ليلى مريضة .. فنهضت لتتصل بها وتطمئن عليها ... لا تجد غير أبنائها تهتم بهم بعد رحيل أباهم .. والفراغ الكبير الذي تركه وراءه .. حتى صديقاتها اللواتي تربطها بهن صداقة سطحية لأنها لم تفكر أبداً أن تكون لها صداقات عميقة .. بسبب انشغالها الدائم بمحمود وحفلاته التي لا تتوقف .. أصبحت
لا تميل الى أحاديثهن لأنها مكررة ومملة لا تنتهي .. أغلبها يدور حول الطبخ والموضة ومشاكل الأبناء اليومية .. لقد تعودت على القراءة .. لكنها لا تجد إلا القليل من النساء حولها من يهتم بالقراءة .. كل ما يهمهن هو آخر خطوط الموضة .. وآخر تشكيلات الألماس التي نزلت إلى الأسواق .. أما الثقافة فلا تجد لها مكان في قاموس حياتهن اليومي
وإلى الحلقة القادمةوالأخيرةة