وشعرت نورة بالملل من جلستها في الحديقة .. فدخلت البيت تتجول في أنحائه .. الأثاث حولها فاخر جداً .. وهي وحيدة مع خدمها .. ووجدت نفسها تنهار على أحد الكراسي وتبكي بحرقة يأسها ووحدتها ... ماذا حدث لها هذه الأيام .. كلما زاد إحساسها بالضيق .. تجد نفسها تنهار باكية. ..
لا بد أن تتصل بطبيب نفسي لتسأله عن سبب هذا الضيق المتواصل الذي تشعر به .. وسبب بكائها السريع , ربما أصيبت بالاكتئاب بسبب وحدتها الطويلة .. وحياتها الفارغة المملة .. وتذكرت ابنها محمد كم تشعر بشوق إليه
هذا الأبن الطيب .. ليته لم يترك البيت بعد أن تزوج ..لقد افتقدت روحه المرحة .. ورنين ضحكاته .. كان قريباً من نفسها عاطفياً , يتضايق عند رؤيتها حزينة .. حمل مسؤولية أعمال والده بجدية , تفوق سنوات عمره الخامسة والعشرين ,بعد أن أنهى تخصصه في إدارة الأعمال والتسويق بإحدى جامعات إنجلترا .. وقد تطورت المؤسسة على يده كثيراً .. بذكائه التجاري .. وحسن معاملته للزبائن ..وكذلك بسبب تطبيقه لأحدث الطرق الحديثة في إدارة الأعمال .. كما أنه يخصص جزء من أرباح المؤسسة كل عام لأعمال الخير .
كم حاولت أن تقنعه هو و زوجته سارة التي أحبها في الجامعة .. وتزوجها بعد تخرجه أن يبقيا معها ..
قالت له " البيت كبير .. سأكون سعيدة جداً بك وبزوجتك وأولادك
لكنه أجابها بروحه المستقلة التي زرعتها في نفسه
" الأفضل يا أمي أن يكون لنا مسكناً خاصا بنا ... حتى نتجنب المشاكل العائلية وأعتقد أن سارة تفضل ذلك أيضاً سنزورك دائما ً..
ولم تصر نورة على رأيها .. فهي تريد سعادتهم .. وما دامت راحتهم ستكون في استقلالهم بمسكنهم .. فهي راضية .. لكنها ملت وحدتها في هذا البيت الكبير .. كم تمنت لو أن محمود معها الآن بعد أن كبر أبنائها .. هي بحاجة إليه الآن أكثر من أي وقت مضى ...بعد أن كبروا واستقلوا بحياتهم .. ترك ثروته التي حرمتها منه وهو يكافح لينميها .. ورحل. ...
سمعت نورة خطوات ابنتها هدى .. وخرجت لتستقبلها .احتضنتها بشوق .. وشعرت
بالراحة تسري في أوصالها .. إلا أن أبنتها لا حظت حزنها فبادرتها قائلة
"ماذا بك يا أمي .. لم أرك بهذا الحزن من قبل إلا بعد وفاة والدي "
أجابت نورة وهي حائرة بماذا تجيب؟
"أنا نفسي لا أعرف ماذا حدث لي .. أرى نفسي حزينة .. وأشعر بالفراغ والملل وبالضيق من كل شيء ... لا أريد أن أكون عبئ عليكم
ولم تستطع أن تكمل ... فبكت
ضمتها هدى بلهفة وهي تغالب دموعها
"الفراغ ممل يا أمي و بسببه تشعرين بهذا الضيق .. لماذا لا تعملين مع عماد في مؤسسة والدي .. لقد درست من قبل إدارة أعمال .. ولم تستفيدي من تخصصك "
قالت نورة" لقد مضى على شهادتي ربع قرن ..هل سأستفيد منها الآن لأعمل ؟"
ردت هدى بحماس لتقنع والدتها لتعمل
"ولم لا.. ستدرسين بعض الدورات التدريبة حول الطرق الحديثة في إدارة الأعمال .. وستمارسين عملك بمهارة .. لقد اقترحت على محمد هذه الفكرة , عندما ذكرت لي منذ أسبوع أنك متضايقة من الفراغ .. ورحب بها ..
لم يخطر ببال نورة أن تعمل في المؤسسة التي آلت إليها وإلى أبنائها بعد وفاته ربما لأن محمود زوجها لم يشجعها أبداُ على ذلك .. بسبب عدم ايمانه بعمل المرأة وعاد ذهنها إلى ابنتها"
قالت
" أعمل في هذا السن !! هل تمزحين ..؟""
" ولم لا .. أنت لازلت شابة وحيوية .."
قالت نورة " هل تحاولين أن ترفعي معنوياتي .. أبعد الخامسة والخمسين بقى شباب
ردت هدى في حماس " أمي .. ألم تسمعي عن سيدات الأعمال والكاتبات في الدول العربية ،و أوروبا وأمريكا اللواتي بدأن بعد الخمسين .. وهن الآن ناجحات في أعمالهن الخاصة .. الشباب يا أمي هو شباب القلب والروح
قالت نورة " أنت دائماً هكذا تدخلين البهجة على قلبي بكلامك اللطيف .. لم أجد أبداً أي تعب في تربيتك .. كنت دائما ً هادئة مطيعة ..
..هل توافقين على عملك مع أخي عماد .. هو رحب بالفكرة .. بقي أن تقبلي أنت فقط ... وغداً سيكون مكتبك في انتظارك ...."
" هل أنتم جادون ..؟"
ردت هدى
"بالتأكيد"
وسرحت نورة ... أما كان الأفضل لها لو كان لها حياة خاصة بعيدة عن الواجبات الزوجية .. تشغل تفكيرها بعد أن كبر أبنائها وتوفى زوجها .
قالت هدى : " مالك سرحت .... هل أنت موافقة ؟"
أجابت نورة" دعيني أفكر .. أعتقد أنني بحاجة إلى أن أعود إلى كتب الإدارة الحديثة ... لكن ألا تعتقدين لو أني أنشأت قسماً للعلاقات العامة في الشركة سيعمل على تحسين صورتها ومنحها سمعة طيبة "
ضحكت هدى قائلة :
" ها أنت بدأت تفكرين .. وهذا يعني أنك قبلت"
ونهضت هدى لتتصل بأخيها هاتفياً لتخبره بموافقة والدتهم
وخرجت هدى بعد أن تناولت طعام الغداء مع أمها بعد أن اعتذرت لزوجها من عدم تمكنها الحضور إلى البيت لإحساسها بحاجة أمها لها وأيدها علي ذلك بقوله :
" هي في حاجة اليكم اليوم .. ابقي معها"
قالت هدى : " أتعلم أنا فعلاً محظوظة بك ... وأحبك" "
ضحك سامي قائلاً
"أرجو أن يظل هذا الشعور إلى الأبد"
وجلست نورة وحدها تفكر .. ها هو الأمل بدأ يتسلل ليضيء حياتها ..كم هي محظوظة بأبنائها لقد أحبتهم وكانت دائماً إلى جوارهم .. تهتم بتفاصيل حياتهم .. وهي اليوم فخورة بهم وسعيدة بحنانهم وحبهم ..وغداً ستبدأ عملها مع ابنها في مؤسستهم المعروفة .. وهي عازمة على أن تثبت كفاءتها حتى لو تطلب منها عملها أن تلتحق بدورات تدريبية حول مجال عملها الذي اختارته .. هي لا تدرى الآن على ماذا سيستقر رأيها .. المهم أنها بدأت تشعر بالحيوية منذ اللحظة التي قررت فيها العمل .. وغداً يوماً جديداً في حياتها القادمة التي ستحاول أن تحقق من خلالها الطموح والإشباع النفسي كامرأة وإنسانة .. ولا يهم هل تنجح أو تفشل .. المهم فقط أن تبدأ.