آخبار عاجل

إصرار على النجاح .. بقـــــلم: سلوى يوسف المؤيد .. " الجزء الأول"

08 - 12 - 2019 8:55 5187

طبع على نفقة

السيد يوسف خليل المؤيدعام ١٩٨٩

وخصص ريعه لبيت العجزة

 

المقدمة: .............

 

قلت لنفسي ذات يوم و أنا أتأمل الشمس تختفي تدريجياً بين أمواج البحر: لقد غربت هذه الشمس و أشرقت ملايين المرات و أكثر ، و بين إشراقتها و غروبها حملت ملايين الأعمار.ومن لم يسجل ما مر به من أحداث و تجارب سنوات عمره ، ذابت في عمر الزمن، و نستها ذاكرة التاريخ.

   عندئذ قررت أن أحقق أمنية والدي و أكتب كتاباً يدور حول تجربته كرجل أعمال، أختار التجارة كمهنة أحبها من أعماق قلبه، و مارسها منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره.من خلال العمل  الجاد المخلص، و المبادئ الأخلاقية في ممارسة هذه المهنة و الإصرار على النجاح.

لقد خاطر والدي بحياته في سن الشباب عندما ركب الطائرات في بداية اكتشافها١٩٤٦ ليصل إلى إنجلترا و أمريكا من أجل إنجاز صفقاته التجارية. ونام على ارصفة الشوارع عندما لم يتمكن من الحصول على سكن له في أحد الفنادق بتلك الدول، وواجه جميع المصاعب و العقبات، بإيمانه بالله و بثقته بنفسه وحبه لعمله و رغبته في التفوق و النجاح.

   و اليوم تقف (( مجموعة شركات يوسف خليل المؤيد و أولاده)) كعلامة بارزة في مجال الأعمال التجارية الحرة لتصبح شعلة مضيئة يقتدى بها كل شاب اختار العمل التجاري الحر الشريف.

 ولازال والدي رغم تجاوزه سن السبعين عاماً يدير مؤسسته بمساعدة أبنائه .. فهو كما أخبرني يوماً لا يشعر بالسعادة و الرضى عن ننفسه إلا من خلال مزاولته

للمهنة التي أختارها من أكثر من خمسين عاماً، ولا يستطيع إلا أن يكون في محيطها إلى آخر يوم في حياته

    إلا إن أبي لم يغفل عن بلاده البحرين. وهو يمارس عمله كرجل أعمال .فهي النبع الذي استقي منه مبادئ الخير و الصبر  و الولاء، و ستظل دائماً المصب الذي يسري في مجراه وفائه وحبه لوطنه .. سواء من خلال خبرته كرجل اقتصاد في البنوك التي يشغل  بها عدة مناصب في مجالس إدارتها ، أو بعمله في اللجان الاجتماعية، فيوجهها مع من يعمل معه من البحرينيين إلى إقامة مشاريع وطنية تساهم في تقدم وطنه، أو من خلال أعمال خيرية اجتماعية، ينفق عليها من ماله الخاص، من أجل بناء مستقبل أفضل للمواطن البحريني. كما أنه يعتقد كما قال لي بإنه عندما يسعي و يسعي معه كل رجل أعمال مقتدر من أجل إنشاء المشاريع الوطنية الخيرية التي تخدم المجتمع البحريني، فإنهم يقومون بواجبهم نحو بلادهم التي أعطتهم  من خيراتها الكثير ليكونوا سواعد قوية ترفعها مع النفوس المخلصة إلى مدارج التقدم و الرقي بين دول العالم.

الجذور

لم يستطيع أجدادنا العرب أن يواصلوا حياتهم في أقليم نجد بعد أن بخلت عليهم السماء بأمطارها زمناً طويلاً ، وجفت الواحات في الصحراء ، ونضبت آبار المياه بها، و فرشت المجاعة بؤسها على هذه البقعة من جزيرة العرب لتدفع الباحثين عن حياة أفضل إلى الهجرة في بلاد الله الواسعة.

ولم يكن قرار رحيل هؤلاء الأجداد يسيراً عليهم. بل كان مؤلماً وقاسياً. إذ كيف يتركون أرض آبائهم و أجدادهم إلى بلاد غريبة لا يعلمون عنها شيئاً.. لكنهم قوم تجار، فطروا على حب المغامرة و لا يهابون المجهول. لذا بدأوا في شد الرحال للهجرة. وبعد سفر شاق و طويل، وصلوا إلى أقليم الدشتية على الساحل العربي الفارسي من الخليج العربي. وعندما استقروا به، لم يجدوا أفضل من الجد عبدالله لكى يكون مسؤلاً عن أحوال القبيلة، و لقبوه ((عبدالله الرئيس)) و عندما فكر هذا الجد بعد عدة سنوات في الزواج لم يجد أفضل من قبيلة الجواسم المعروفة في ذلك الإقليم ليتزوج إحدى فتياتها.

مضت الحياة به مع زوجته و أبناؤه الثلاثة سهلة يسيرة. إلا أن الحنين إلى أرض آبائه العرب ظل يملئ قلبه بالحسرة و الأمل في أن يستقر يوماً هو و أبنائه في بلد عربي آخر. و كأن الله سبحانه أراد أن يحقق هذه الأمنية لأبنائه، عندما اقتضت الظروف أن يرحل أجدادنا فيما بعد إلى البحرين، ليستقروا بها.

و لم يمتد العمر بالجد عبدالله، ففي عام (( ٨٧٠هـ))توفي عن عمر يناهز الثمانين عاماً. ثم مضت حقبة طويلة لم يتم تسجيلها تاريخياً، حتى استقر أحد أجدادنا و يدعي ((حسن)) في مدينة ((دسفول)) بفارس .

كان الشيخ جبارة النصري وهو من آل مذكور قد بسط نفوذه في تلك الفترة على معظم دول الساحل الشرقي المطل على الخليج العربي، ومنها البحرين التي استولى عليها هذا الشيخ قبل حكم آل خليفة وظل مسيطراً عليها أكثر من ثلاثين سنة.

وكان هذا الحاكم أثناء توليه الحكم يقرب إليه العرب (الهولة)الحولة، ، ومنهم بعض أفراد قبيلتنا، فكان يتصل بهم في مدينة دسفول و يكرمهم عند زيارتهم إلى البحرين وفي يوم اقترح الشيخ جبارة النصري على أجدادنا أن يهاجروا إلى البحرين وكانت فرصة رائعة أمامهم لكي يحققوا حلمهم و حلم آبائهم بالعودة إلى بلد عربي .. يذكرهم ببلاد أجدادهم ((نجد)) التي رحلوا عنها يوماً بسبب المجاعة. إلا أن القدر لم يسمح لهم بتحقيق هذا الحلم، فقد قام السلطان نادر شاه بعزل الشيخ جبارة النصري وهو في طريقه إلى الحج. ولم تتم الهجرة مثلما أرادوا.

و مرت فترة زمنية لم تتوفر لدينا حقائق مدونة عنها إلى أن هاجر لظروف خاصة الجد عبدالله بن حسن إلى إقليم كشكناز طالباً حماية حاكم الإقليم الشيخ عبدلله الحرمي، الذي منحه إياها و وافق على زواجه من شقيقته التي كانت تنتسب إلى قبيلة المداجية المعروفة في ذلك الاقليم..

وقد أنجبت له هذه الزوجة أبناً أسماه ((حسن)) حيث نشأ في ظل أخوانه من قبيلة المداجية التي عرفت بحب الخير و مساعدة المحتاجين.

و بسبب اعتزاز هذا الجد بقبيلة والدته تزوج إبنة خالته و كانت تدعي(( المنه نباش)) و أنجبت له أجدادنا إبراهيم حسن عبدالله الذي لقب فيما بعد ((ابراهيم الأول)) نظراً لتعدد أسماء إبراهيم بين أبناء العائلة و يوسف حسن عبدالله المعروف بإسم ((يوسف الشتر)) وقد لقب الأخير الشتر بسبب طول قامته و قوة بنيته تشبهاً بالخشب أي ((الشتر بالفارسية)).

ولد الجد ابراهيم عام( ١٢٢٠هـ)قبل ولادة شقيقه يوسف بسنتين.. و اختار أن يظل طوال حياته في إقليم كشكنار و تزوج من إبنة عمه التي كانت تقيم في إقليم الدشتية، وقد خلف ثلاثة بنات منهن آمنه التي أصبحت فيما بعد والدة جدنا أحمد بن ابراهيم ، وفاطمة والدة الرئيس مبارك الذي قام بزيارة البحرين.. وقام الشيخ عيسى بن علي حاكم البحرين بضيافته ثلاثة أيام في القلعة مقابل ضيافته لسموه عندما كان يزور فارس أثناء العيد.

   ولد أحمد بن إبراهيم في إقليم كشكنار شعبان (١٢٣٨هـ) وتوفي في البحرين بتاريخ ١٤ محرم عام (١٣١٤هـ) بعد أن هاجر إليها.

   كان جدي أحمد بن ابراهيم محبوباً من حاكم إقليم كشكنار محمد الحرمي و كذلك آل الحرمي و آل مذكور بسبب استقامته و اعتزازه بنفسه و شجاعته، لذلك لم يخبر جدي الشيخ محمد الحرمي بموعد رحيله عندما اضطرته الظروف أن يهاجر إلى البحرين ، و رحل تحت ستار الظلام إلى البلاد التي أصبحت فيما بعد بلاده و بلاد أبنائه و أحفاده من بعده.

   وكان عمه يوسف الشتر قد هاجر إلى البحرين قبله قادماً من الزبارة بعد أن استقر بها فترة زمنية عندما رحل من إقليم كشكنار، وقد ربطت بينه وبين الشيخ عبدالله بن حمد الفاتح صداقة قوية كما واكبت هجرته إلى البحرين دخول الشيخ أحمد الفاتح مؤسس إسرة آل خليفة منتصراً ليتولى الحكم عليها.

   بعد أن استقر يوسف الشتر في البحرين تزوج بإمرأة بحرينية و وأنجبت له ولدين ، كان إسم الولد الأول عبدالله و الثاني سمي حسن، أما الإبنتان فقد سميت الأولى آمنه، ثم توفت بعد ولادتها لجدي ابراهيم مباشرة وكان ذلك في عام (١٢٧٢هـ)، أما الإبنة الثانية وكانت تدعى فاطمة فقد تزوجت محمد كانو و أنجبت منه ((ابراهيم كانو الكبير)).
تزوج الجد أحمد بن ابراهيم بعد وفاة زوجته آمنه بإبنة محمد حاجي الذي كان يعد من كبار التجار في فارس و البحرين آنذاك. وذلك في عام (١٢٧٦ هـ) وقد أنجبت له إبنه حسن بن أحمد ثم شيخة التي أصبحت فيما بعد والدة ((قاسم وعلي بن أحمد كانو)).

   إهتم أحمد بن ابراهيم يتنمية تجارته التي حصرها في مجال الأخشاب و صناعة السفن وقد ساعده في تعلم أصول البيع و الشراء و المعاملات التجارية والد زوجته محمد حاجي، وهكذا نمت تجارته وتطورت بسبب استقامته و تواضعه، و ميله للخير حيث كان معروفاً بمساعدته للتجار الصغار من خلال نقله لاخشابهم دون مقابل. و قد أخبر جدي ابراهيم والدي خليل أن أكثر ((نول)) أو (( ربح)) الخشب كان يذهب مجاناً للفقراء، وكان جدي أحمد بن ابراهيم قد خاض في مرحلة شبابه عدد من المعارك المعروفة في تاريخ البحرين مثل واقعة (( قزقز)) ضد سلطان عمان سعيد المسقطي عندما هاجم البحرين، و معركة (( الدولاب)) ضد قبيلةآل بوعينين التي هاجمت البحرين بعد أن تولى حكمها  عائلة آل خليفة 

   ونظراً لما كان يتمتع به هذا الجد من هيبة  واحترام لدى الناس و الحكام فقد قربه الشيخ فهد بن أحمد الخليفة، خال سمو حاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن علي، وكان يمتدحه دائماً و يشهد برجولته و شجاعته في المعارك.

   ورغم عدم إجادة جدي أحمد بن ابراهيم للقراء و الكتابة إلا إنه كان يميل إلى مجالسة الفقهاء و العلماء في البحرين.

   وفي يوم ١٤ محرم عام (١٣١٤هـ) انتقل هذا الجد الفاضل إلى رحمة الله عن عمر يقارب السابعة و السبعين عاماً.

ولد والدي خليل بن ابراهيم في ١٤ شعبان عام (١٣٠٨ هـ)، ولقب فيما بعد ((خليل ابراهيم المؤيد ))لإنه اختار إسم ((المؤيد)) لقباً لأفراد عائلته بسبب المشاكل التي كان يسببها اختلاط الأسماء بينه و بين  قريبه خليل بن ابراهيم (والد ابراهيم خليل )الذي كان يعمل في التجارة أيضاً و أصبح يلقب رسمياً فيما بعد ((خليل ابراهيم كانو)).

 

   و كان والدي قد اختار إسم المؤيد ، بسبب إعجابه بجريدة ((المؤيد)) السورية المعروفة حينذاك..ولقب إبن عمي ((مؤيد أحمد المؤيد)) بهذا الإسم تيمناً بلقب العائلة الجديد ، ثم أصبح إسم العائلتين يكتب رسمياً في الأوراق الخاصة بكل منهما

   التحق والدي(( خليل )) بكّتاب ((يوسف خنجي))مع شقيقه ((علي)) الذي رحل عن الدنيا عندما كان طفلاً صغيراً.. كان والدي يتمتع بذكاءً حاد و ذاكرة قوية و شخصية اجتماعية جذابة و لساناً صريحاً مما جعله ذلك قريباً من قلب والده ((ابراهيم)) وجده لإمه ((أحمد كانو))، وكان إلى جانب ذلك يميل إلى مجالسة المثقفين و كبار السن رغم صغر سنه.

 

   عرف والدي السفر في عام (١٣٢٠ هـ) عندما ذهب مع عمه حسن (والد المرحوم أحمد بن حسن) المعروف في تاريخ البحرين الفكري،

و الذي أصبح فيما بعد خالي بسبب زواج شقيقته عائشة (والدتي) من أبي خليل.. وذلك لكي يكتسب المعرفة و يزداد بها نضجاً و فهماً.

 الا إنه في السنة التالية أي عام (١٣٢١هـ) بدأ يزاول التجارة ببضاعة صغيرة من اللؤلؤ وقد كان موفقاً في هذه الرحلة لذلك قرر أن يذهب أيضاً في العام التالي إلى الهند ببضاعة من لؤلؤ البحرين بلغت قيمتها (١٠٠،٠٠٠) روبية وقد أثار ذلك دهشة من حوله.

 إذ كيف يستطيع شاب صغير أن يتحمل مسؤلية السفر ببضاعة تصل إلى هذه القيمة المرتفعة مع صعوبات التنقل في ذلك الوقت.. بينما لا يجرؤ على ذلك إلا القليل من الرجال.

 تزوج والدي بزوجته الأولى عائشة أحمد بهزاد في عام (١٣٢٤هـ)، وأنجبت له ٦ أبناء رحل منهم أثنان و هم أطفال..وكان في أثناء ذلك كثير التنقل من أجل تجارة اللؤلؤ التي كان يتعامل بها مع والده.. وقد نال التوفيق في جميع رحلاته التجارية، إلا أنه أنفصل عن والده مع أخوته الذكور في عام (١٣٤٧هـ)، وواصل العمل على تنمية تجارة اللؤلؤ التي تطورت بسبب حسن سيرته وصدقه في معاملة زبائنه.

 

   تزوج والدي بوالدتي((عائشة حسن)) التي أنجبت له إبنة توفاها الله صغيرة ،ثم أنجبتني في (( ٢١ رمضان ١٣٣٧هـ))أي (( ٧ يوليو ١٩١٨م)) ثم أصيبت بمرض عضال رحلت على أثره عن الدنيا و هي في الثامنة و العشرين من عمرها وكنت أنا في الثانية من عمري

 

   ثم توالت زيجات والدي.. وإنجابه لإبنائه حتى وصل عددهم إلى ٣٤ إبناً وإبنة..لم يكن والدي رغم ذكائه الفطري إدارياً ناجحاً في حياته التجارية و الخاصة.. ولم يكن ينظر إلى المستقبل نظرة وافية.. إلا أنه كان رحمه الله محباً لفعل الخير و مساعدة المحتاجين وتلبية احتياجهم لدى المسئولين بسبب مكانته العالية لدى حاكم البحرين الشيخ ((سلمان بن حمد آل خليفة)) الذي كان بمثابة أخ و صديق لوالدي يحترمه ويستمع إلى آرائه الصريحة التي عرف بها، و يتقبل منه انتقاداته بروح سمحة مرنة مستجيباً لما فيه صالح المواطنين.

 كما كان والدي إلى جانب سخائه و تبذيره لماله الخاص، ذا نفس عالية إذ لم يكن يعلم أحد بأزماته المادية حتى أبناءه.

وكان  معروفاً أيضاً بخفة روحه وأحاديثه الممتعة و شخصيته الإجتماعية الجذابة المثقفة المنجذبة دائماً إلى مجالسة الشعراء و الأدباء، أو الساعية من خلال أحساسها الوطني إلى تقدم المجتمع البحريني ، من خلال مشاركته للجهود الأهلية التي برزت في تلك الفترة من أجل بدء التعليم  رسمياً حيث كان ذلك عام (١٩١٩م) للبنين، حيث انضم إلى لجنة من التجار كان يرأسها السيد مجبل الذكير و الخال يوسف أحمد كانو و الشيخ عبدالله بن حسن الدوسري، و توجهوا إلى حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة عام (١٣٣٩هـ) بمجلسه في (( الصويفية)) الواقعة علي ساحل البحر بالمنامة، وألقى والدي رحمه الله قصيدة في هذه المناسبة ( مسجلة في شريط بقى لنا من ذكراه بعد رحيله)، حث من خلالها حاكم البحرين لكي يساند نهضة التعليم في البلد.

وبعد أن مضى أسبوعان على الإجتماع طلب حاكم البحرين من إبنه الشيخ عبدالله بن عيسى أن يقيم أحتفالاً عاماً في المحرق، حضره ٢٥٠ شخصاً.. و بسبب حماس الشيخ ((عبدالله)) و رغبته في نشر العلم و المعرفة في البلاد فقد تبرع بمبلغ (٢٠ ألف روبية)

وطلب الحاضرون في الحفل من والدي خليل رحمه الله لما

عرف عنه من مقدرة شعرية و بلاغية أن يلقي قصيدته التي

أستوحاها من الجهود التي بذلها الشيخ عبدالله بن عيسى منذ بداية التعليم الرسمي (القصيدة في الأعلى)

و هكذا تأسست في عام (١٩١٩م) بجهود أهلية و رسمية أول مدرسة للبنين في المحرق هي (( الهداية الخليفية)).. حيث بلغت تكاليفها ( ٢٠٠ ألف روبية).. بسبب استخدام أجود أنواع الحجارة التي تم جلبها من جزيرة ((جدة)) لبنائها.. ثم تأسست بعد ذلك مدرسة ((الهداية الخليفية )) بالمنامة سنة (١٩٢١م) وهى التي درست قمت بالدراسة بها .

و في عام (١٩٢٦م) أنشئت مدرسة (( الخميس))وكانت هذه المدرسة لطلاب القرى المجاورة للمنامة مثل (( جدحفص))و (( سنابس)) و ((بلاد القديم))

و في نفس العام أقامت الدولة مجلساً للتعليم، و عينت له رئيسا ًالمرحوم ((الشيخ عبدالله بن عيسى)) نظراً لجهوده المتواصلة لبدء التعليم الرسمي.

وفي عام (١٩٢٧م) أفتتحت مدرستان للبنين ، أحداهما في (( الحد)) و الثانية في (( الرفاع الشرقي)) وكان إسم كل مدرسة منهما ((لهداية الخليفية))

 

وكان لوالدي خليل المؤيد مع عدد من العقول المثقفة من أعيان البلاد دوراً في إقناع المسئولين بضرورة تعليم المرأة. و بسبب هذه الجهود المبذولة آقتنع الشيخ عيسى بن علي سنة (١٩٢٨م)

بإنشاء أول مدرسة نظامية لتعليم المرأة بمنزل((عبدالرحمن بن محمد الزياني)) الذي كان في طليعة المطالبين بتعليم المرأة .. و عينت في هذه المدرسة (( مريم عبدالله الزياني)) كأول مدرسة للبنات و السيدة ((فاطمة بيات)) كأول مديرة للبنات.

و في العام التالي تأسست مدرسة للفتيات في المنامة سميت(( مدرسة مجبل الذكير للبنات))

نسبة إلى صاحب البيت (( مجبل الذكير))، الذي بذل جهوداً كبيرة في المطالبة بتعليم المرأة مع وجهاء الدولة و مثقفيها.

وقد درست في هذه المدرسة معظم نساءعائلتنا ثم انتقلن إلى مدرسة (( عائشة أم المؤمنين)) بعد أن تم نقل الطلبة البنين منها إلى مدرسة أخرى. كان عدد الطالبات في هذه المدرسة عند بداية إنشائها (١٤٠ طالبة)، وبها أربع مدرسات أثننتان منهن سوريتان و الباقيات بحرينيات .. ولم تتوقف جهود والدي رحمه الله عند هذا الحد في خدمة مجتمعه و إنما كان يسعى لدى المسئولين لدعم الجمعيات النسائية مادياً و معنوياً .. و بفضل مساعيه استطاعت (( جمعية نهضة فتاة البحرين)) أن تحصل على أرض كانت بمثابة هبة من المسئولين ليقام عليها مقرها.. كما كان يعمل دائماً على إقناع المسئولين بتوفير احتياجات المواطنين ممن يلجأون إليه، وكان الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين الذي يحمل لأبي احتراماً و محبة يحث المسئولين على تلبية مساعيه الخيرة.

وكان لوالدي خليل المؤيد رحمه الله مع مجموعة من المواطنين على رأسهم مجبل الذكير دور كبير خلال فترة الثلاثينات في إقناع المسئولين بأهمية توفير مياه الشرب للسكان من الأبار الإرتوازية عن طريق حفرها، بدلاً من نقل الماء إلى الناس من العيون الطبيعية المنتشرة في كثير من المناطق البحرية بجانب العيون الشعبية و الحمامات الصغيرة.. و الآبار المتواجدة عند شواطئ البحرين مثل بئر (( شريبة"

ومن أجل هذا الهدف الاجتماعي،ألقى والدي قصيدةفي اجتماع عام حضره الشيخ سلمان بن حمد الخليفة حااكم البلاد

ولم يتوقف والدي حتى توفاه الله عام (١٩٦٣م) عن الاهتمام بمشاكل مجتمعه و السعي لدى المسئولين من أجل إيجاد الحلول لها...كما ساهم في إنشاء أول بلدية في البحرين في عام (١٩١٩م) وعين في مجلس البلدية مع عدد من أعيان البلاد حتى سنة (١٩٥٢م)، ولم يتوان عن المشاركة بجهده الفكري في المحافل الأدبية و الثقافية من أجل نشر العلم و المعرفة في البحرين.. وقد ساهم في إنشاء أول نادي ضم المرحوم عبدالله الزايد و المرحوم ناصر خيري و الخال أحمد بن حسن ابراهيم وقد سمي (( النادي الأدبي)).. ثم ساهم فيما بعد في تأسيس نادي سمي ((المنتدى الإسلامي)).. وانضم هؤلاء الأعضاء إليه، وجاء جيلنا في (١٩٣٥م) ليؤسس من بعده (( النادي الأهلي)) و ((نادي المحرق)) و ((نادي العروبة)).

إذن.. كان والدي خليل رحمه الله يميل إلى خدمة بلده البحرين اجتماعياً و أدبياً،، أكثر من ميله للمثابرة في تجارة اللؤلؤ التي اختارها مجالاً لعمله.. كما انه تزوج عدة مرات و أنجب ٣٤ إبناً وإبنةً.. وكان ترتيبي بينهم الخامس..

إن عدد أفراد عائلة المؤيد اليوم يتجاوز المائتين، وهم يعملون في جميل قطاعات الدولة الرسمية أو الخاصة عاملين على بناء نهضة وطنهم، من خلال وظائفهم و أعمالهم التطوعية الهادفة إلى تقدم وطنهم البحرين.

لم يكن قد تجاوزت الثانية من عمري عندما فقدت والدتي عام (١٩٢٠م). لكن حنان زوجة أبي الأولى عائشة أحمد بهزاد عوضني عن فقدان أمي عائشة حسن ابراهيم إذا أصبحت أماً ثانية لي أحبتني واهتمت بي كثيراً، و عاملتني كإبن من أبنائها الأربعة، وكنت لها إبناً محباً ووفياً حتى آخر يوم في حياتها.

 

كنا أنا و أخي عبدالرحمن نسكن غرفة واحدة في الطابق الأول من بيت الهائلة الكبير الواقع في فريق الفاضل بالمنامة. وعندما يحين فصل الصيف كنا ننام مع أمنا عائشة على السطح المفتوح الذي تطل عليه هذه الغرفة..

انت علاقتي بأخي عبدالرحمن قوية منذ الصغر، وبالرغم من اختلاف شخصياتنا، إلا أن ذلك لم يمنع من نمو و تطور صداقتنا،لازلت أذكر كيف كانت تمر علينا الساعات في غرفتنا ونحن نتحدث حول كل ما يمر بنا خلال اليوم او عن مشاريعنا و أحلامنا.لقد ظلت المحبة في نفسي قوية نحو أخي طوال سنوات حياتي رغم أي اختلاف في الرأي بيننا، لإنني لا يمكن أن أنسى محبته واهتمامه بي في مراحل حياتي المختلفة.

 

بدأت أولى خطواتي الدراسية مع أخي عبدالرحمن بمدرسة الهداية الخليفية، وكانت تقع في ذلك الوقت وسط المنامة بالقرب من بيت حسن مديفع وسلمان

كيكسو.

 

كنت في السادسة من عمري عندما شعرت بميلي إلى جمع المال، وأذكر أني قررت في تلك السن المبكرة أن أجمع أول رأسمال لدي، فكنت أنفق ((آنة ))واحدة من ((آنتين)) كنت أحصل عليهما من ((والدي خليل)) كمصروف يومي، كما كنت أجمع (( الآنتين)) اللتين كان يمنحني إياهم ((جدي إبراهيم ))كل يوم. أي أنني كنت أنفق((آنة)) واحدة فقط من أربع ((آنات)). سرت على هذا المنوال في التوفير حتى بلغت ثروتي الصغيرة وأنا في سن العاشرة ((مائة و خمسين روبية))وبدأت في تلك السن الصغيرة أنفذ بفطرتي أولى عملياتي التجارية

فماذا فعلت؟

قلت لنفسي في ذلك اليوم وأنا عائد من المدرسة:

(( لماذا لا أستفيد من الدراهم التي اجتمعت لدي في حصالتي))

وخطرت في بالي فكرة ، سعيت إلى تنفيذها.

 

كنت أمر كل يوم أنا ذاهب إلى المدرسة و عائد منها بدكان شخص يدعى ((عبدالله اليماني))، كان هذا الرجل يبيع على أطفال الحي الفول السوداني و أنواعاً من الحلوى. أذكر أنني آشتريت منه بآنة حلاوة و بآنة أخرى فول سوداني كحجة أتذرع بها لكي أطرح عليه بعض أسئلتي.

سألته:

(( لماذا تبيعنا الحلوى و الفول السوداني؟)).

أجابني:

((لكى أحصل علي روبية أو روبيتين كل يوم أنفقها على أسرتي)).

عدت أسأله:

(( وكيف يمكنك الحصول على هذا المبلغ عندما تشتري الحلوى و الفول السوداني من السوق ثم تبيعه علينا؟)).

قال:

(( أشتري بضاعتي ثم أضع عليها الفائدة التي أريدها ثم أبيعها و أحصل بذلك على المبلغ الذي ذكرته لك. لكن قل لي لماذا تسأل كل هذه الأسئلة)).

أجبته:

((فقط لكى أعرف)).

وهز رأسه في دهشة. وعاد إلى ممارسة عمله.

خرجت وقد علقت بذهني تلك الفكرة و شعرت برغبة شديدة في تطبيقها بنفسي.

وبدأت منذ ذلك الوقت أمارس بفطرتي البسيطة مهنة أحببتها من أعماق نفسي ورغبت أن أحقق بها أحلامي و طموحي في النجاح و الثراء.

ذهبت في اليوم التالي إلى دكان((على بن ابراهيم ))( والد(( إبراهيم علي كانو)) المذيع البحريني المعروف..إذ كان أحد تجار الحلويات في ذلك الوقت، واشتريت منه علبة حلوى و علبة من الشوكولاتة، واتجهت بعدها إلى دكان شخص يدعي حسين علي كاظم، واشتريت منه فول سوداني(( بروبيتين))وحب الفساد أي بذر البطيخ ((بروبيتين))، و جمعت كل ما لدى ووضعته على بساط صغير بالقرب من بيتنا بالمنامة وبدأت أبيع ما لدي على إخوتي و أبناء أعمامي و بقية الجيران.

كنت سعيداً وأنا أرى الإقبال من الأطفال على بضاعتي، و تزداد سعادتي عندما أنهي كل ما لدي، وأعد ما اجتمع لدي من مال و أضعه في حصالتي، ثم أذهب للعب الكرة مع زملائي.

كنت طفلاً مرحاً ضاحكاً الأمر الذي قربني كثيراً من والدي، فكان يحنو علي و يدللني، وقد تنبأ لي منذ ذلك الوقت بأني سوف أصبح في يوم من الأيام من كبار رجال الأعمال في البحرين، وبالطبع كان هذا الكلام من والدي يسعدني كثيراً، خصوصاً عندما أدخل يدي بعد نهاية كل يوم إلى جيبي فأجد أن رأسمالي قد ازداد بسبب توفيري للفائدة التي أجنيها من بيعي لبضاعتي.

كان ذهني مشغولاً منذ طفولتي بالبحث عن الوسائل التي تضيف المزيد من المال إلى ثروتي الصغيرة ،كنت أنجح دائماً في المدرسة بدرجة مقبول لأنني لم أكن أميل إلى الدراسة، بعكس أخي ((عبدالرحمن ))الذي كان طالباً متفوقاً و ترتيبه لا يقل عن المرتبة الثالثة في الصف.

من الحوادث الطريفة التي أذكرها أثناء الدراسة ، حادثة لي مع الأستاذ ((محمد الحبال ))مدرس الجغرافيا.

كنت قد ذهبت في ذلك اليوم إلي المدرسة ولم أكن ملماً بدرسي في هذه المادة.

و عندما سألني المدرس سؤالاً لم أعرف إجابته، أهانني بكلمات لاذعة.

ولأنني كنت معتزاً بشخصيتي منذ طفولتي شعرت بالغضب و قررت أن أنتقم منه للإهانة التي لحقت بي

أتيت بقشر من الموز في اليوم التالي، وانتظرت إلى وقت الفسحة، وعندما رأيت المدرس هابطاً درجات السلم تعمدت رمي قشر الموز على خامس درجة من أسفل السلم وداس الأستاذ ((محمد الحبال)) على القشر فتزحلق إلى نهاية الدرج و أنا أضحك عليه من مخبئي

لكنني شعرت فيما بعد بتأنيب الضمير، وذهبت إلى الأستاذ في اليوم الثالث، ولم أقل له أنني تعمدت رمي قشر الموز ،وإنما ادعيت أنه سقط مني سهواً فتزحلق هو عليه.

وضحك الأستاذ من اعترافي لأنه علم بأني تعمدت رمي قشر الموز بسبب إهانته لي حيث فضحت نفسي عندما قلت له:

"أعدك يا أستاذ أنني لن أكرر هذا العمل مرة أخرى بشرط أن لا تهينني أمام الطلاب".

وتغيرت معاملة الأستاذ الحبال لي منذ تلك الحادثة فقد أصبح عطوفاً علي ،ربما لأنه خشى من مقلب آخر قد أعده له.

وأذكر أيضاً من الحوادث التي مرت علي في طفولتي هذه الحادثة التي توضح مدى اهتمام أبي بي .

كنا قد تسببنا في تعطيل الدراسة بعض الوقت بسبب مشاجرة نشبت بيننا نحن الطلبة الأربعة، ((أحمد كانو و ابراهيم المعتز و عبدالرحمن تقي و أنا))، وطلبنا ((الأستاذ داوود)) لكي يحاسبنا علي ما فعلنا، وسألنا عن الطالب الذي تسبب في هذه المشاجرة، فقلت له بأنه عبدالرحمن تقي، لكن عبدالرحمن ادعى

أنني أنا المتسبب وشعرت بالظلم لأنني كنت صادقاً فيما ذكرت، ولم يصدقني الأستاذ بل فوجئت به يقول لي أنه سيعاقبني صباح الغد لأنني تسببت في تعطيل الدراسة علي بقية الطلبة،

وتعمدت أن أرتدي في اليوم التالي بالطو شتائي سميك حيث كان الجو بارداً حينذاك لكي لا توجعني عصا الأستاذ.

وبالفعل توالت الضربات بالعصا على فخذي و أنا لا أشعر بالألم منها، لكن أبي لم يسكت عن ظلمي، فرفع تقريراً غاضباً على ضرب إبنه إلي مدير المعارف الأستاذ فايق أدهم.

و أصبحت منذ تلك الحادثة طالباً معروفاً بين الطلبة بسبب تعاطف أبي معي ووقوفه إلى جانبي .

كانت الدراسة في تلك الفترة متواضعة، ولا يزيد عدد المواد الدراسية في المرحلة الابتدائية عن خمس مواد أدبية واجتماعية و دينية.

وكان مدرس اللغة العربية يدعي(( كمال المهزع)) و مدرس الدين كان اسمه ((عبدالعزيز بوبشيت)).

أما مدرس القرآن فقد كان يدعي الأستاذ(( داوود ))وكان يتمتع بصوت رخيم .ومدرس الجغرافيا و التاريخ كما ذكرت كان الأستاذ ((محمد الحبال)).

أما الأستاذ(( حلمي رمضان)) فقد كان مدرس اللغة الانجليزية و مدير المدرسة في الوقت نفسه.

ولم تكن ألعابنا التي كنا نقطع بها أوقات فراغنا كثيرة، فقد كانت محدودة مثل القلينة و الدوامة و لعبة كرة القدم و كرة السلة و التيلة. وأذكر تلك الحادثة التي كانت السبب في دخولي المستشفى لأول مرة لعلاج جرح في رأسي، كان السبب فيها زميل صومالي طويل القامة، قفز فجأة ليلتقط الكرة في نفس اللحظة التي قفزت فيها، فتصادم رأسينا وسالت الدماء من رأسي بسبب كبر حجم رأس الصومالي، فأسرع بي أصدقائي إلى مستشفى الإرسالية الأمريكي لعلاجي.

وبسبب لعبة كرة القدم، ضربني عمي أحمد والد زوجتي عائشة لأول مرة.

كنا قد تعودنا أن نلعب هذه اللعبة طوال فترة بعد الظهر في الساحة المجاورة لبيتنا الكبير و شاء سوء حظي أن أركل الكرة عدة مرات، و في كل مرة كانت الكرة تضرب نافذة عمي أحمد، و فوجئت به خارجاً و الغضب يتطاير من عينيه متجهاً نحوي بعد أن علم أنني صاحب هذه الضربات و أعطاني علقة ساخنة بسبب ما سببته من إزعاج لنومه.

 

أنتقلت في سن الثانية عشر إلى مدرسة الإرسالية الأمريكية المعروفة بإسم ((المشن))، كان مدير المدرسة في ذلك الوقت أجنبياً يدعي المستر هيكن،وكانت المدرسة تقع على أرض يملكها والدي بالقرب من بيت مصطفى عبداللطيف ،ولم تكن تلك المدرسة تزيد عن فصلين كليهما في الدور الأرضي، وكان مديرها المستر هيكن يقوم بتدريس الصف الثاني.أما الصف الأول فقد كان مدرسه أستاذ بحريني يدعي نصيف وكان للطلبة المبتدئين، لذا كنت أحد تلاميذه في السنة الأولى، ثم انتقلت في السنة الثانية إلى فصل المستر ((هيكن)).

 

ورغم حداثة دراستي للغة الانجليزية إلا إنني كنت أميل إليها كثيراً و آتحدث بها دون خجل أن أقع في الأخطاءاللغوية لإنني كنت مصمماً على إجادتها، وقد تمكنت من هذه اللغة فعلاً مع مرور الزمن و أصبحت أتحدث بها بطلاقة تامة.

قضيت في هذه المدرسة سنتين، كانت الحياة في تلك الفترة من عهد البحرين بسيطة الشوارع خالية إلا من بعض السيارات، و المباني لا تزيد عن دور أو دورين و المدنية لم تتغلغل في عروق المدينة مثلما نراها الآن.

 

و لازلت أضحك عندما أتذكر هذه الحادثة الطريفة التي وقعت لي مع صديق سوري دعوته يومياَ إلى ركوب الخيل معي.أنطلقنا معاً ولم نكن ندري أن خيولنا ستغدر بنا و ستعود وحدها، لإننا التفتنا حولنا نبحث عن الحصانين بعد أن نزلنا عن ظهريهما فلم نجدههما، فقد عادا وحدهما إلى البيت بعد أن أنشغلنا أنا و زميلي في مناقشة بيننا.

 

و بسبب حبي لركوب الخيل منحني والدي حصاناً جميلاً أهداه إياه المغفور له الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين في ذلك العهد، وكنت أعتز به كثيراً و أرتدي ملابس الفروسية المكونة من بتطلون و قميص لآمتطيه، وكان منظري غريباً بها بسبب عدم ارتداء العرب في الخليج هذه الملابس في تلك الأيام، وبقيت أمارس هذه الهواية مدة ثلاثين عاماً إلى جانب هوايتي الاخرى وهي لعبة التنس التي ألعبها حتى اليوم لإحافظ بها على لياقتي البدنية.

 

كانت المنطقة التي أمارس عليها رياضة ركوب الخيل تقع على شارع الشيخ عيسى حيث كانت خالية من العمران و لم يكن يوجد بها في تلك الفترة من تاريخ البحرين إلا القلعة القائمة حتى الآن، حيث كانت أيضاً في تلك الفترة مركزاً لقوات الشرطة، وكان يلي القلعة بيت الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين، وكان مؤلفاً من طابقين و

يسكنه صيفاً، أما بيته الرسمي فقد كان في الصخير بالمنطقة الواقعة أمام جبل الدخان. وكانت هذه الأراضي الخالية في المنامة يملكها السادة عبدالعزيز و عبدالرحمن و عبدالله و حسن القصيبي، وقد اشتراها هؤلاء من شخص يدعى محمد عبدالوهاب بمبلغ لم يتجاوز أربعين ألف روبية ، لكنهم اضطروا فيما بعد إلى بيعها لعدة مشترين بسبب انحطاط اللؤلؤ و تدهور أحوال كثير من تجاره.

 

وكان كبار تجار اللؤلؤ في البحرين أنذاك ، هم منصور العريض و الحاج عبدالرحمن القصيبي ويوسف كانو ووالدي خليل المؤيد وجاسم محمد الشيراوي إلى جانب آل الزياني وعائلة مطر و بوهندي و الخاطر و المسلم و االرواس و العلوي و الصائغ و غيرهم، حيث كانوا يبيعون محصول اللؤلؤ البحريني إلى تجار الهند المعروفين في مجال التعامل في تجارة اللؤلؤ، أثناء حضورهم البحرين لشرائه أثناء مواسم جمعه.

 

ولأضرب بعض الأمثلة حول أسعار المشتريات في تلك الفترة، لتعكس لنا ضعف الوضع الاقتصادي في الخليج . كان كيس السكر لا يزيد سعره عن (( ٦ ربيات))، و كيس الأرز الكبير (( الخيشة)) لم يكن يتجاوز سعره(( خمس روبيات))، أما رواتب الخدم فقد كانت حوالي(( نصف روبية)) في اليوم الواحد.

 

وكان دخل دائرة الجمارك في عهد الشيخ عيسى بن علي في اليوم الواحد ( ألف روبية) وكنت بصحبة والدي يوماً عندما شاهدت مدير الجمارك وكان هندي الجنسية و يدعى ((هريداس))، وهو يسلم حاكم البحرين مبلغ الألف روبية لينفقها الشيخ عيسى بن علي الخليفة على تصريف أمور الدولة.

كان عدد سكان البحرين في ذلك الوقت لا يزيد عن ((٧٠ ألف نسمة))، ولم يكن في عهد الشيخ عيسى بن علي الخليفة شرطة بالمعنى المعروف لدينا الآن، وإنما كان يوجد دائرة نواطير كان يرأسها والد محمد الأمير الدلال المعروف، وعندما تولى الشيخ حمد بن عيسى شئون الحكم قام بتأسيس دائرة شرطة، ثم أرسل في طلب مائتين جندي من الهند وطائفة من البيتان مثل الأفغان، ولم يكن بين هؤلاء شرطي بحريني واحد.

وأذكر هنا هذه الحادثة التي وقعت تلك الأيام، عندما عوقب أحد الشرطة الهنود بالإعدام لإنه حاول اغتيال الميجر الإنجليزي ديلي معتمد الدولة البريطانية في البحرين.

وأنضم بعد ذلك بحرينيون إلى شرطة البحرين هم الشرطة ألآتية أسمائهم محمود وعلي ميرزا و سلمان بن جاسم. واستمر هؤلاء الأشخاص في خدمة الشرطة في عهد حاكم البحرين السابق الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، ثم تقاعدوا بعد ذلك عن العمل،

و تولى عبدالكريم سلمان مركز والده. ومرت السنوات وتطورت شرطة البحرين وازداد عدد أفرادها في إطار نظام حديث و متطور يحمل إسم (( وزارة الداخلية)).

 

عدت إلى مدرسة الهداية الخليفية عندما بلغت الثانية عشرة من عمري، وتابعت دراستي بها حتى وصلت إلى سن السادسة عشرة.ولأنني لم أكن أميل إلى الدراسة بشكل عام كنت أحصل على درجات مقبولة تؤهلني للنجاح دون التفوق فكان أبي يؤنبني لعدم اجتهادي، وكان يقارنني دائماً بأخي عبدالرحمن الذي كان من الطلبة المتفوقين في الفصل كما ذكرت من قبل ، وكان والدي يصر على أن أحصل على درجات أفضل لكنني كنت أواجهه بإنني أسعى بقدر استطاعتي في الدراسة ،ولكنني لا أستطيع الحصول على نتائج إفضل وكنت ولا أزال أعتقد أن على المرء أن يسعى و يثابر لكي يحصل على ما يريد، ثم يتقبل النتائج

التي يصل إليها ولا بد أن يجد المرء المجال الذي سيرى نفسه متفوقاً به، ليثابر و يجتهد و يتطور، مثلما حدث لي فيما بعد عندما اخترت التجارة مجالاً لأثبت من خلاله ذكائي و تفوقي، وقد أستطعت بسبب توفيق الله لي، و إخلاصي لعملي وحبي له أن صبح رجل أعمال ناجح.

فكر المسؤلون في عام (١٩٣٤م) بشق طريق أطلقوا عليه اسم (( شارع براير)) نسبة إلى أحد المعتمدين البريطانيين المرسلين من قبل الحكومة البريطانية إلى البحرين أثناء وقوعها تحت الحماية البريطانية، وقد سمي هذآ الشارع فيما بعد الاستقلال و إلى عهدنا الحاضر (( شارع خليفة)).

كان هذا الطريق يقطع أملاكنا إلى قسمين ، حتى إننا قمنا ببناء بيت بمحاذاة الشارع ثم مددنا جسراً أعلاه لكى نثبت ملكيتنا للقسمين، ولكن المسئولين أزالوه فيما بعد لإنه لم يكن عملياً.

كانت حدود البحرين الشمالية في تلك الفترة متمثلة في شارع الخليفة الحالي وكانت المياه تصل إلى أول (( باب البحرين)) حالياً .كما أذكر ايضاً أن طريق فريق الفاضل الواقع ضمنه بيت العائلة الكبير كان يمر محاذياً لمسجد كانو و مجمع يتيم حالياً، وقد أدى افتتاح شارع الخليفة الحالي إلى تسهيل حركة التنقل بالسيارة في هذه المنطقة، كما فصل شارع الخليفة أيضاً مبنى الجمارك ومنشآتها فأصبحت تقع شماله، لأن هذا المبنى كان قبل ذلك واقعاً في موقع شارع باب البحرين الذي يضم حالياً تسعة متاجر، قمت باستئجار إحداها في تلك الفترة، ومارست فيه تجارتي كمقر رئيسي عشرين عاماً، ثم أنتقلت إلى (عمارة المؤيد)، وظل المتجر كأحد فروع المؤسسة في داخل السوق القديم.

كانت شوارع البحرين هادئة في تلك الأيام إذ لم يكن يسير عليها إلا سبع سيارات كان المغفور الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين يملك الأولى منها، أما الثانية فكان يملكها والدي خليل المؤيد بن ابراهيم الذي أصبح إسمه فيما بعد خليل إبراهيم المؤيد، و الثالثة كانت في حوزة الشيخ عبدالرحمن الزياني ، و الرابعة كان يملكها شخص يدعي محمد علي زينل، أما الخامسة فقد اشتراها الخال يوسف كانو، و السادسة كانت للمرحوم خليل إبراهيم كانو، وبعد ذلك بسنتين اشترى تاجر اللؤلؤ المعروف أنذاك يوسف عبدالله محمود السيارة السابعة.

 

وأذكر هذه الحادثة النادرة في ذلك الوقت بسبب قلة عدد السيارات.

كان والدي رحمه الله يعتز بسيارته كثيراً وقد قرر في ذلك الصباح أن يخرج بها من كراجه وصادف خروجه اعتزام يوسف عبدالله محمود الخروج هو الآخر بسيارته من كراجه المواجه لكراج والدي ،فاصطدمت السيارتان وشب شجار بينهما بسبب ندرة السيارات واعتزاز كل منهما بسيارته .

وأنهاه والدي رحمه الله بقوله " لم تختر من بين كل الأوقات إلا هذا الوقت لإخراج سيارتك".

 

كنت قد بلغت التاسعة عشرة من عمري عندما تركت المدرسة و قررت أن

أمارس مهنة التجارة ورغم أني لم أكن أميل إلى تجارة الؤلؤ لأنني كنت أعتقد أنها لن تحقق لي النجاح و الثراء الذي أتطلع إليه في عالم التجارة، إلا إنني مارستها لمدة ثلاث سنوات تعلمت خلالها أوزان اللؤلؤالبحريني و أصنافه المتنوعة، وقمت برحلات بحرية مع والدي كانت تسمى (( الطواشة)) وهى رحلات لا تزيد في مدتها عن أسبوعين أو ثلاثة يقضيها التاجر في شراء اللؤلؤ من تجاره أثناء عملية جلبه من أعماق البحار بواسطة رجال الغوص.

 

وكان والدي قد رأي مع شقيقه عمي أحمد بعد وفاة والدهما إبراهيم عام ١٩٢٨م أن تظل تجارة الأخشاب محصورة بينهما، وقد تطلب ذلك بالطبع أن يستدخلا ثمن الأخشاب من أخوتهم الورثة بمبلغ قدره ٢٤٠٠٠ روبية. أربع و عشرون ألف روبية ..وكان ذلك السعرمتناسباً في ذلك الوقت مع أسعار السوق، وأصبحت بذلك تجارة الأخشاب مقسمه كالآتي. ثلثان للوالد خليل، وثلث للعم أحمد.

ثم وهب والدي الثلثين لإخي عبدالرحمن ولي،ووهب عمي أحمد نصيب الثلث المخصص له إلى ولده مؤيد.

 

وبقى الوضع كما هو حتى عام ١٩٤٨م عندما رغب إبن عمي مؤيد أحمد في الإنفصال عن تجارة الأخشاب، ليبدأ تجارة الأدوات المكتبية و القرطاسية، إلى جانب شرائه لمطبعة حملت إسمه فترة من الزمن ،ثم باعها للسيد عيسى الزيرة لتصبح معروفة اليوم تحت إسم المطبعة الشرقية.. وواصلنا أنا وأخي عبدالرحمن عملنا في تجارة الأخشاب حسب رغبة والدنا خليل وكما أعتقد فإن والدي خليل

كان حكيماً عندما جعل التجارة حصراً على أبنائه الذكور، لإنه اشترط عليهم مقابل ذلك أن يقوموا من خلال عملهم في تجارة الأخشاب بالإنفاق على العائلة التي كانت تضم أسر الأخوان الثلاثة خليل وأحمد ومحمد و زوجاتهم وأبنائهم.

 

،رغم أني كنت شريكاً مع أخي عبدالرحمن في تجارة الأخشاب إلا إني لم آشترك في إدارتها لإني اخترت متابعة مصالح والدي خليل في تجارة اللؤلؤ ،وبعد عدة سنوات انفصلت عن والدي وبدأت أمارس تجارة خاصة بي برأسمال كنت قد جمعته بنفسي و تطورت تجارتي بمرور السنوات إلى أن أصبحت اليوم معروفة بإسم (( مؤسسة يوسف خليل المؤيد و أولاده)).

سنعرض الجزء الثانى من قصة إصرار على النجاح .. للكاتبة: سلوى يوسف المؤيد، فى الأيام المقبلة.



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved