كنت شغوفاً بعملي لدرجة كبيرة , أكرس كل جهدي لإنجاز عملياتي التجارية ,وهو ما أود أن يكون قدوة لإبنائي وهم يكافحون لبناء مستقبلهم, و التوفيق من الله لا يكون نصيب المتواكلين الكسالى, وإنما على الإنسان أن يجتهد و يثابر ثم يتوكل على الله, وسيكون الله إلى جانبه يصل به إلى النجاح.
بينما كنت أزاول أعمالي في مكتبي خلال عام (1948م), اتصل بي مندوب "شركة نفط الكويت" يريد لقائي ,حددت له موعداً في نفس اليوم,جلسنا نتحدث ,فإذا به يطلب مني أن أكون وكيلاً لهذه الشركة,أزودها بما تحتاجه من أدوية و قطع غيار السيارات وأطعمة , لعدم توفر هذه المواد في الكويت.
فرحت كثيراً بهذه الصفقة التي لم أكن أحلم بها, فقد كنت حتى ذلك الوقت تاجراً صغيراً, لا أملك إلا وكالة شركة (( جي.اي.سي)) وشركة (( بلاك ستون )) إلى جانب خمس شركات تجارية صغيرة ,لذلك قبلت العرض فوراً, و اتفقت معهم على أن تكون عمولتي 10% فقط.
وبدأت عملي معهم بصفقة تجارية بلغت (( خمسة ألاف روبية )) وتوالت بقية العمليات الأخرى.
كنت أشتري الأدوات الطبية من الأخ يوسف محمود حسين, وقطع غيار السيارات من المرحوم خليل ابراهيم كانو وباتيا التاجر الهندي البحريني, واستطعت خلال عشر سنوات, امتدت من عام (1948م) إلى (1958م) أن أحصل على أرباح وصلت الى (( 500 ألف روبية)) (( نصف مليون روبية)).
كان عملي مع هذه الشركة يتطلب مني أن أتردد كثيراً على دولة الكويت للتعامل مع تجارها المعروفين آنذاك من امثال صالح جمال و عبدالله الملا ويوسف الغانم وغيرهم.
لم تكن الكويت في ذلك الوقت مثلما هي عليه الآن من تقدم و عمران ورفاهية, وإنما كانت الحياة بها متخلفة وبدائية لعدم اكتشاف ثروتها البترولية الهائلة بعد, كان يحيط بها سور,ولا يوجد بها إلا فندق واحد هو (( برستول)) الذي كنت أقيم فيه أثناء زيارتي لها, وكان الناس يعملون في مجال التجارة وصيد اللؤلؤ و الأسماك, وطيبين جداً وبسطاء وكرماء, ورغم مخاطر الأسفار في الطائرات حينذاك ,إلا أني لم أكن أأأبه بها آنذاك في سبيل تطوير عملي التجاري, الأمر الذي جعلني أرحل إلى أمريكا في عام (1949م) لأطمئن على وصول بضائع استوردتها لشركة قطر للبترول بلغت قيمتها (( نصف مليون دولار)).
كان المستر ليرمث مدير مركز الشركة في البحرين , قد طلب مني توفير هذه الشحنة لهم, ورغم إني لم أكن وكيلاً للشركات التي سأستورد البضائع منها إلا إني تظاهرت بإني كذلك حتى لا أخسر الصفقة التي كانت تشمل استيراد ( مائة ألف قدم) من المواسير مقاس أربع إنج, و(خمسين ألف قدم) مقاس 6 أنج, بالإضافة إلى (ألفين طن) أرز و (مائتي وخمسين طن) من زيت الأصباغ.
عدت إلى مكتبي,وطلبت من كيجريا الذي كان يعمل لدي ان يستخدم الدليل التجاري, لنحصل على أسماء شركات تقوم بتصنيع تلك المواد, لكي أرسل لهم برقياتي.
وهكذا أرسلت عشرات البرقيات إلى عدة شركات بأمريكا و كندا بأمريكا الجنوبية, وكان الأرز قد توقف عن الوصول إلينا من الهند بسبب أزمة إقتصادية ألمت بها في تلك الفترة وأذكر أنني أنفقت على هذه البرقيات حوالي( ألف روبية) وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت وجاءني الرد من شركتين في نيويوك تقومان بصناعة المواسير, وشركة أخرى من بونس آيرس في الأرجنتين تعرض علي زيت الأصباغ, كما حصلت على شركة من الأرجواي تقوم بتصدير الأرز.
عرضت أسعاري على مستر ليرميث مدير فرع الشركة في البحرين, وبعد ثلاثة أيام أخبرني بموافقته.
قلت له ( أرباحي ستكون 20% فوق سعر التكلفة).
أجابني( أنا موافق على شرطك لكنك اذا لم توفق في الحصول على الأنواع الثلاثة من البضائع, أو جزء منها خلال ثلاثة شهور فإنك ستكون مسئولاً أمام الشركة بتعويض قدره( عشرة آلاف جنيه) أو ما يساويه بالروبيات.
وفكرت في الامر بيني و بين نفسي إن في قبولي لهذا الشرط مجازفة كبيرة, فالعشرة آلاف جنيه غرامة كبيرة بالنسبة لي في تلك الفترة.
وبعد تفكير دام ثلاثة أيام, أخبرت مستر ليرمث بموافقتي على قراره الا أني حاولت تخفيضها قائلاً( أعتقد أن عشرة آلاف جنيه غرامة ضخمة لذلك أرجو أن تخفضها الى خمسة آلاف جنيه).
وفوجئت به يرد بقوله:
( أنا موافق,لنوقع العقد).
وهكذا وقعت عقدي مع الشركة وأنا سعيد بهذه الصفقة وخائف في نفس الوقت, لإنني كنت أخشى أن لا تصل البضاعة في الوقت المحدد فأضطر إلى دفع خمسة آلاف جنيه كغرامة, لكنني تعودت في عملي على المجازفة, وسأخاطر هذه المرة أيضاً من أجل هذه الصفقة الكبيرة.
ذهبت إلى البنك البريطاني , الذي كان حديث التأسيس في تلك الفترة, وأتفقت مع معاون المدير التجاري, المرحم عبدالعزيز الشملان على فتح الإعتمادات المطلوبة لهذه الصفقة الكبيرة, التي تعد أكبر عملية تجارية قمت بها حتى ذلك الحين.
كان فتح الإعتماد في البنك يتطلب من التاجر أن يدفع 25% وأحياناً 35 % كتأمين لفتح الإعتماد, إلا ان البنك البريطاني كان متسامحاً معي، فقبل ان أدفع 15% فقط وأرسلت ثلاثة اعتمادات أحدها إلى نيويورك وكان لاستيراد المواسير, و الثاني إلى بونس آيرس من أجل زيت الاصباغ و الثالث إلى الأريجواي في جنوب أمريكا للحصول على الأرز.
ولم أستطع انتظار البضاعة إلى أن تصل إلى البحرين لذلك قررت ان أسافر إلى أمريكا لأطمئن على وصولها كاملة وفي الوقت المحدد.
تركت إدارة أعمالي لإشراف إبن أختي المرحوم محمد يوسف محمود بعد أن التحق بعملي ورحلت إلى انجلترا أولاً لقضاء بعض أعمالي التجارية , ثم أخذت باخرة تدعي (( كوين ميري)) إلى الولايات المتحدة, وبالتحديد إلى نيويورك حيث حجزت تذكرة في الدرجة السياحية بسبب ارتفاع تكاليف الدرجة الأولى.
كان ذلك في عام ( 1949م) أي بعد احتلال إسرائيل لفلسطين وطردها للفلسطينيين , وكان العداء بين اليهود الصهاينة و العرب على أشده, حتى أن حياتي كادت أن تتعرض للخطر على أيدي ثلاثة من اليهود الأمريكيين .
كانت باخرة كوين ميري تسع 1800 راكب, أما بحارتها وعمالها فقد بلغ عددهم 1200 شخص وكان طول هذه الباخرة حوالي 1200 قدم و تحتوي 700 غرفة , ويصل ارتفاعها إلى 13 طابقاً و تصدر بها صحيفتين إحداهما صباحية و الأخرى مسائية وكان بها أيضاً كنيسة و سينما و حوض سباحة ومحلات للألعاب و حوالي ستة مطاعم تخدم الركاب على دفعتين أي انها كانت من أكبر البواخر في العالم.
أذكر أنني جلست ذات يوم في غرفة الطعام على طاولة مع سبعة أشخاص لا أعرفهم الا إني علمت أثناء الحديث أن ثلاثة منهم يهود أمريكيين زاروا فلسطين بعد أن احتلها الصهاينة وجرى بيني وبينهم جدال حول قضية فلسطين ..وطبعاً أبديت رأيي المضاد للصهيونة وكان معنا أيضاً بعض المسيحيين الأمريكيين بدا الضيق على وجه الأسرائيلين من حديثي وفوجئت بهم يضربون في اليوم التالي عن الجلوس معي على طاولة الطعام,وبقيت الكراسي الثلاثة خالية , أستغرب الحاضرون ضيق أفق هؤلاء الركاب لإنهم كانوا يعتقدون أن المناقشات يجب أن لا تصل غلى حد المخاصمات الصبيانية ولم أهتم بإضرابهم و احتل ثلاثة ركاب آخرون مكان هؤلاء الركاب وفي الليلة الرابعة من رحلتنا خرجت من قاعة الرقص بعد أن قضيت بها فترة من الليل وبينما كنت أسير وحدي متجهاً إلى غرفتي لاحظت أن اليهود الثلاثة الذين خاصموني بسبب خلافي معهم في الرأي يتبعوني وعندما وصلت إلى الممر الذي يصل بين قاعة الطعام وغرف نوم الركاب التي كانت تطل على البحر دفع أولهم زميله و تظاهر هذا الزميل أنه اندفع نحو الراكب الثالث و تعمد هذا الراكب أن يدفعني ليرميني في البحر فتعلقت بالقضبان الحديدية لأنقذ نفسي من الوقوع في المحيط.
كان هدف المجرمين ان يغتالوني في هذه الساعة المتأخرة وانا أسير وحدي في الباخرة إلا أني استطعت النجاة و ذهبت مسرعاً إلى غرفتي لأتصل بالمسئول في الباخرة هاتفياً لأخبره بما فعله اليهود معي وفوراً أبلغ المسئول الكابتن بما حدث لي فأمر الكابت بوضع حراسة مشددة حولي مخافة أن يعود هؤلاء الأنذال إلى محاولة اغتيالي و أصبحت حذراً حتى نهاية الرحلة و قررت أن لا أكون صريحاً جداً مع أعداء العرب حتى لا أصاب منهم بضرر.
سكنت في مدينة نيويورك في فندق ( نيويوركر) كنت حائراً وخائفاً بعد محاولة اغتيالي التي ذكرتها وازدادا ضيقي عندما علمت بأن الشركة التي وعدتني بتحميل المواسير يهودية ايضاً إذ يسيطر اليهود على الاقتصاد و الإعلام في امريكا و الدول الأوروبية منذ ذلك الوقت إلا أني حاولت استخدام اقصى ما لدى من مقدرة دبلوماسية لكي لا افسد علاقتي بهم قلت لهم بأن العرب لا يكنون العداء للدين اليهودي وأن اليهود يعيشون في الدول العربية بأمن و سلام وأخبرتهم بعلاقتنا الحسنة مع اليهود البحرينيين وكنت أهدف من حديثي ان أشجع المسئولين في الشركة على التعامل معي.
كنت في شوق إلى عملي بعد أن تركته شهراً تحت إدارة إبن إختي محمد يوسف محمود رحمه الله و أحمد أمين, وكان لدي إلى جانب هذين الموظفين موظف هندي يدعي كيجريا كما ذكرت من قبل, وشخص بحريني تربى في بيتي يدعى عبدالله و موظف آخر للمشتريات.
اتصلت بمجرد عودتي بالمستر (ليرمث)) و قلت له:
( لقد نجحت العملية و البضاعة قادمة في الطريق).
فقال لي:
( أنت تاجر مجتهد و مثابر في عملك و انا حريص على أن تتعامل معك الشركة في صفقات أخرى).
أسعدني ثنائه و جعلني ذلك أنظر إلى المستقبل بتفاؤل.
وصلت البضائع و استلمتها الشركة و دفعت لي قيمتها و سددت للبنوك حساباتها لقاء قيمة المعاملة, واستلمت أرباحي التي أصبحت ركيزة من ركائز سيولة تجارتي المادية بالنسبة للصفقات القادمة.
كنت في ذلك الوقت أقيم في بيتنا الشمالي الذي قمنا بهدمه وبناء عمارة المؤيد بدلاً منه سنة (1962م) ونقلت مكتبي من متجري القديم في شارع التجار إلى محل جديد بشارع باب البحرين وبقيت فيه سنوات عديدة ثم أصبحت أمارس جزءاً من تجارتي به بعد أنتقالي إلى عمارة المؤيد وازداد عدد الموظفين لدي بسبب اتساع أعمالي التجارية.