هي مواقف بسيطة تكون أحياناً بعيدة المرامي والأهداف وتمثل درساً من دروس الحياة المستفادة؛ في زيارتي لإحدى البرادات التي تبيع المواد الغذائية بالمنامة، واستعجالي لقضاء ما وددت شراءه، وعند الخروج نظر العامل البسيط إلى تاريخ إنتاج ما قمت باختياره، فقال: «تسمح لي فهناك ما هو أحدث من هذا التاريخ» فتطوع لجلب ما هو فعلاً أحدث من الذي اخترته، فهذا الموقف من العامل أعاد إلى ذاكرتي ما هو في عقيدتنا السمحة من الإشادة وذكر مناقب «الناصح الأمين» فشكرته، وقلت له: «أشيد على يديك أخي الكريم فأنت تستحق أن توصف (بالناصح الأمين)»..
فلو تأملنا ما نمر به هذه الأيام من ظروف صحية نتيجة وباء فيروس الكورونا (كوفيد 19) المستجد وتداعياته على كل أمور الحياة الاقتصادية والتجارية والإجتماعية والصحية، وحركة النقل وغيرها من الأمور التي تجعل الحياة تسير على طبيعتها وسجيتها بدأت الاتهامات والأقاويل بشأن التكتم وعدم التناصح منذ بدء هذا الوباء في الانطلاق والانتشار، وفي حديث إذاعي في إحدى الإذاعات الأوروبية وضيفه من إحدى الدول الأوروبية الأعضاء في الإتحاد الأوروبي، كان العتب والانتقاد بأن بعض هذه الدول اتخذت مساراً مختلفاً عن سائر الأعضاء ولم يكن بينهم تبادل المعلومات الموثقة أو حتى تقديم المساعدات الضرورية، وأن كل دولة من هذه الدول اتخذت من الإجراءات والخطوات ما يناسبها دون النظر لمصلحة الآخرين، وتشعر من خلال هذا اللقاء أن الكل كما يبدو كان في قفص الاتهام بطريقة أو بأخرى، وسيظل هذا العتب قائماً وماثلاً مادامت الأزمة قائمة، وقد تلقى بظلالها سلباً على علاقات هذه الدول بعضها بعضاً...
نحن نشعر اليوم بأهمية التناصح فيما بيننا دولياً سواء في طرق الوقاية أو الحماية والحد من انتشار الفيروس وأسلوب المواجهة الدوائية والعلاجية، وبالتالي ستتبعها أمور أشمل وأعم من ذلك سياسياً واقتصادياً وتجارياً وصحياً، وربما من خلال النظر برؤية أخرى للمنظمات الدولية والإقليمية والقارية، فالأولوية الآن هي الخروج من مأساة هذا الوباء، ومن ثم يعاد التفكير في الأمور الأخرى، وأخذ الدروس المستفادة ربما من هذه الجائحة التي عمت العالم بأجمعه.
لقد عاش الأجداد والآباء في مجتمع اعتاد على المناصحة في أمور حياتهم، وعلى فطرتهم وما آمنوا به من عقيدة سمحة يجد المرء منهم أن من واجبه إذا وجد أمراً خارج السياق أن يبدي رأيه بكل تواضع ونية صادقة بغية إصلاح الاعوجاج، فالجار يشعر بالمسؤولية تجاه جاره، والبحارة على ظهر سفينة الغوص يؤمنون بالتشاور فيما بينهم، ولا يتورعون عن إسداء النصيحة للنوخذا خصوصاً عندما يجدون أن هير الغوص ليس هو الملائم لهم في الوقت الذي هم فيه، وينصحون باللجوء إلى هير الغوص الآخر لعل فيه خيراً، فكانت هذه هي الروح السائدة بينهم وهذا انعكس في كل حياتهم البسيطة والتي تتعلق بمعيشتهم وارتباطهم مع بعضهم بعضاً وبالتالي حماية الوطن من كل سوء ومكروه، والأجيال التي عاشت تذكر «سنة البطاقة» عندما شحت المواد الغذائية جراء تأثير الحرب العالمية الثانية؛ فكان الإجراء من حكومة البحرين وقتها الاستعانة ببعض الشخصيات لإسناد البطاقة إليهم والتكفل بمساعدة المجتمع في المدن والقرى بتوزيع المواد الغذائية، ومنها ما كانت تنتجه البحرين من ثمار الزراعة وقتها، والبحرين منذ القدم ومنذ حضارة ديلمون بمراحلها الثلاث المبكرة والوسطى والمتقدمة وحضارة تايلوس والفترة الإسلامية ولازالت، وهي معروفة بالزراعة، وبأنها ولله الحمد أرض الخير والعطاء؛ ولذلك فنحن في هذه الظروف القاسية وجدنا في (فريق البحرين) الذي انشىء بتوجيه من حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه، وبدعم من صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر حفظه الله ورعاه، وبقيادة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد الأمين نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء القيام بالدور الوطني المسؤول والذي ضم العديد من الوزارات ومؤسسات الدولة وأعداد كثيرة من المتطوعين للتكاتف والتعاضد والقيام بما يمليه الوطن من مسؤوليات، وقام فريق البحرين بدور «الناصح الأمين» حماية للوطن والمواطنين والمقيمين، والخروج بأقل الأضرار، وتحمل المسؤولية كاملة ودعوة المواطنين إلى التعاون فكان شعار مجتمع واعٍ (مجتمع واعي) هو ما التف حوله مجتمع مملكة البحرين وبات التعاون واضحاً وجلياً ومدعاة فخر وإعتزاز لنا جميعاً.
سنظل كما كان أجدادنا وآباؤنا الناصحين الأمينين على مجتمعهم وناسهم، وسنظل إن شاء الله نؤكد هذه الروح في مجتمعنا؛ فنحن أحوج ما نكون إلى التكاتف والتعاون والمناصحة فما بيننا؛ وليكن كل واحد منا هو «الناصح الأمين».
حفظ الله مملكة البحرين وقيادتها الرشيدة وشعبها الوفي وجنّبنا كل سوء ومكروه.