عندما نشاهد صوراً وفيديوهات لأطفال يعملون في الحقول الزراعية بكل جد ومثابرة وحرص، أو أن بعضهم يصعد الجبال وهو طفل خلف ظهر أمه التي لا تألو جهداً في حمله على ظهرها إلى أن يبلغ سن المشي، وما إن يبلغ الخامسة أو دونها بقليل يرتقي الجبل وكأنه رياضي محترف في صعود الجبال، وما إذا رأيت والده الذي شب على نهجه ذاته وهو يحمل الثلاجة على ظهره ويصعد بها الجبل أفقياً، فنستغرب هذه القدرة والمهارة، ونقول أين نحن وأولادنا من هؤلاء الأبطال، النساء منهم والرجال!.
هكذا ننظر لهم، ولكن غاب عن أذهاننا أمرٌ مهم جداً وهو أنه لولا الظروف التي حملت هؤلاء الناس على هذه الحياة، ما كان هذا حالهم ولا مصيرهم، نعم، الظروف والمواقف هي التي تخلق الشخصية وتكونها وتحملها على التطبع بطبيعتها وهذا ثابت علمياً أيضاً فأهل الجبال خلقتهم الباطنة مختلفة حتى من حيث ضخ القلب للدم أو اتساع الرئتين عنها عن غيرهم، خاصة من أهل المدينة، وبمعنى آخر أكثر بساطة، فأنا مثلاً لو كنت قد ولدت لوالدين من أهل الجبل، ما كانت «كرشتي» تسير أمامي اليوم، وكذلك الحال لو كنت من أهل البحر والترحال، ولكن نحمد الله على كل حال وهو أهلٌ للحمد سواء كنا هنا أو هناك، فحالتي أنا أو ابن المدينة مختلفة عن هؤلاء، وهم إذا ما جاؤوا إلى المدينة سوف يتيهون فيها إلى أن يخبروها، وكذلك نحن إذا انتقلنا إلى بيئتهم نعم سوف نقدر أن نعيش فيها إن سلمنا في الطلوع والنزول من هضاب الجبال ولكن لن تكون ممارساتنا كما هم يمارسونها بالطبع، ولربما استدرك نفس قدرتهم أولادنا أو أولاد أولادنا بأبعد تقدير، وهو الأمر الذي لحظناه من هجرة بعض العوائل العربية، فتجد الآباء لا يجيدون لغة الدول التي هاجروا إليها في أوروبا مثلاً، إلا أن أولادهم يحسنونها، وأحفادهم سوف يتقنونها، ولربما صار أحدهم (أي أحفاد هؤلاء المهاجرين) رئيسا للوزراء لمثل هذا البلد كما هو حال السيد بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا الذي ينتسب لجدٍ تركي وغيره الكثير كالرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما.
هذا الاختلاف والتباين أمر طبيعي لا يشك فيه أغلبنا، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف نستطيع أن نخلق هذا الفارق؟
وأجيب بأننا نستطيع خلق هذا الفارق بمعايشة الواقع والرضا والقبول به، وتحديه تحدياً صحيحاً.
وها نحن اليوم نعيش مع جائحة كورونا وآثارها الصعبة على المجتمع الدولي عموماً، وقد تفاجأ العالم بآلية الحظر التي فُرضت عليه وعلى جموعه، إلى أن رأينا بعض الجموع تخرج ناقمة في بعض الدول لتكسر الحظر، وأناسٌ يخالفون التعليمات ويضربون بها عرض الحائط، أما نحن في الإمارات والخليج عموماً فقد ثبت لنا قبل الجميع أن حياة الرفاهية التي كان ينعتنا البعض بأنها لن تجعلنا أكفاء لمواجهة أي شديدة من الشدائد، فقد أثبتت قدرتنا على اجتيازها بسهولة بل والتعايش معها بكل أحوالها وظروفها.
مرت علينا في الخليج تغيرات كثيرة، خرج فيها شبابنا بصدرٍ مفتوح لمواجهتها منها فرض الخدمة الوطنية التي أقبل عليها الشباب والبنات وتعايشوا معها وأثبتت نجاحها.
أما كورونا وآثارها فقد صدرت أبناء الوطن كصفٍ أولٍ للدفاع، من أطباء ومساعدين لهم ورجال دفاع وأمن وغيرهم ممن أسهموا بعمليات التعقيم أو حملوا على أعتاقهم هم توفير المواد الاستهلاكية وغيرها ممن أشدنا بهم في مقالنا السابق، لنأتي على فئة كان يراهن عليها كثير من الناس أنها سوف تخفق في حياتها الخاصة رغم النجاحات الأخرى في جانب مهم من حياتها، ألا إنهن فتياتنا اللواتي كان يراهن الكثير على فشلهن في إدارة بيوتهن حال خروجهن من بيوت أسرتهن الأم والانتقال إلى بيوت الزوجية، وأن إحداهن لن تعرف أن تصنع أكثر من طبق بيض لزوجها وألادها، ليثبتن وبكل جدارة ومن خلال معرفتنا بأكثر من بيت من الأقارب والمعارف وبيوتنا أنفسنا أن فتياتنا ماهراتٌ وجديراتٌ بالتلاؤم والتواؤم مع كل الظروف، وأنهن استطعن إثبات وجودهن وأنهن امتداد لأجيال فاضلة سبقتهن، لذلك فقد كانت كورونا هي الكاشفة لمهارات هؤلاء البنات وطيب معدنهن وليست هي من خلقتها.