ضحك علينا نزار قباني مرتين حين نشر قصيدته أيظن، مرة عندما اختار لها عنوان مراوغ تتصور معه أنك بصدد قصيدة تُخرج فيها المرأة كل ما لديها من بُغض وكُره تجاه من غدر بها، فإذا به يستعرض عذابات صراعها الداخلي بين القبول والرفض، هل الأنا أولاً أم الحب، وهل يمكن أن تتناسى ما سببه لها من آلام وتفتح صفحة جديدة، ربما. والمرة الثانية التى ضحك علينا فيها عندما تركنا نخمن سبب قبولها اعتذاره، هل لأنه جاء ومعه باقة ورد أم أنه الماضي الجميل؛ (حمل الزهور إلى كيف أردّه/ وصباي مرسومٌ على شفتيه).
لا شك فى قدرة الزهور على فتح صفحة جديدة معطرة بالفل والياسمين، لكن رسم مسارات جديدة للمستقبل يعتمد على الماضي، سأل الملك جلساءه (كيف يكون مستقبل مملكتي؟)، فأجابه الحكيم (يا مولاي، إن ما تفعله اليوم تحصد نتائجه غدا)، من هنا يصبح الماضي أحد احتمالين، حواديت نستدعيها للتسلية وملء الفراغ، أو تاريخ نستخلص منه العِبر والحِكَم ونحوله إلى رصيد متجدد من الخبرة والمعرفة، كلما رجعنا إليه انكشف لنا المستقبل بشكل أوضح.
غنت نجاة الصغيرة القصيدة وسكبت عليها من مشاعرها وأنفاسها وراحت تحنثنا وهو تردد كلمة (ورجعت.. ورجعت) بصوت مراوغ شجي قبل أن تطلق حكمها النهائي (ما أحلي الرجوع إليه). إذًا انتهى الأمر، (سامحته وسألت عن أخباره) ونسيت أيضًا حقدها عليه، بل وأنكرته (من قال إني قد حقدت عليه)، تحول كامل، فبلمسة منه صارت طفلة ملائكية وعادت لفساتينها وأدوات زينتها بهجتها ومرحها، (فرحت به.. رقصت على قدميه).
وعلى غير ما صور نزار امرأة أيظن رسم فى قصيدته (رسالة من سيدة حاقدة)، سمات مخالفة تمامًا، فمن الكلمة الأولى راحت تعدد أخطاء وعيوب من ظنته أهلاً لحبها، ذكرت كل ما تغاضت عنه من مساوئ أملاً فى صلاح حاله، ولكن هيهات هيهات، فلما آيست منه راحت ترصها واحدة تلو أخرى، ثم أصدرت حكمها النهائي بالبعد عنه، بل وراحت ترثى لحاله حين قالت (أنا لست أبكى منك بل أبكى عليك)، موقف صعب.
بعد ما استخرجت فايزة أحمد القصيدة من ديوانه الخامس؛ قصائد، وغنتها، عرفتها الجماهير بعنوان (رسالة من امرأة مجهولة)، وبقدر ما توافقت شخصية نجاة، الرقيقة المتسامحة المبادرة بنسيان كل إساءة والرغبة فى البدء من جديد، مع امرأة أيظن، بقدر ما انسجمت شخصية فايزة أحمد المتصلبة ذات الملامح الحادة مع تلك المرأة المقهورة الرافضة للتسامح، إعمالاً لمبدأ أول أخطاؤك آخرها، من هنا كان طبيعيًا ألا تتردد وهى تقول له (أنا لست آسفة عليك/ لكن على قلبي الوفي/ قلبي الذي لم تعرفِ)، وكيف تأسف عليه وهى تعلم ما سيفعله مع غيرها (ستُردَّدُ القصص التي أسمعتني/ ولسوف تخبرها بما أخبرتني/ وسترفع الكأس التي جرعتني/ كأساً بها سممتني)، ليس هذا وفقط، بل وتعرف مصير كل امرأة تحتل مقعدها بعدها (حتى إذا عادت إليك/ نشوى بموعدها الهني/ أخبرتها أن الرفاق أتوا إليك).
وما بين امرأة أيظن وصاحبة الرسالة المجهولة رسم نزار قباني بكلماته صورًا متعددة للنساء، تاركًا لكل منهن قرار اختيار ما يوافقها، من هنا لم يكن غريبًا أن تغنى له نجاة قصيدة أخرى بعنوان (متى ستعرف كم أهواك)، تجاوزت بها حدود أيظن؛ (ارجع كما أنت صحوًا كنت أم مطرًا/ فما حياتي أنا إن لم تكن فيها)، فيما اكتفت فايزة بقصيدة واحدة، إذ لم تجد كلمات أكثر قسوة مما غنت.