مشهدان متباينان عاشتهما أمريكا ظهر السبت الموافق 30 مايو الماضي، قمة التوهج العلمي من جهة وتدنى السلوك الإنساني من جهة أخرى، مشهد رفع الجميع رأسه نحو السماء ليتابعه وآخر نَكَسَ له العالم رأسه خزيًا. المشهد الأول، بث مباشر من مركز جون كينيدي للفضاء بولاية فلوريدا لمتابعة اللحظات الأخيرة لاستعدادات انطلاق صاروخ فالكون-9 حاملاً مركبة كرو-دراجون وعلى متنها رائدي فضاء فى رحلة إلى المحطة الفضائية الدولية، عاد بعدها الصاروخ منفردًا إلى قاعدته العائمة في عرض المحيط الأطلسي.
كانت وكالة الفضاء الأمريكية، ناسا، وشركة سبيس إكس SpaceX، قد بدأتا برنامج أبحاث مشترك لتصميم صواريخ قابلة لإعادة الاستخدام، مما يقلل من كلفة رحلات الفضاء ويمنح أمريكا استقلالية الوصول إلى المحطة الفضائية وقتما تشاء بعد سنوات قضتها معتمدة على روسيا. كانت شركة سبيس إكس، التى لم تكمل عامها العاشر بعد والمملوكة لإيلون ماسك، مستثمر ومخترع أمريكي من أصل كندي، قد حازت شراكة ناسا بعد شوط ساخن من المنافسة مع شركة بوينج، والتى يرجع تأسيسها لأكثر من مائة عام مضت ترهلت فيها وعمتها البيروقراطية، فيما ولدت سبيس إكس فتية بفكر خلاق مبدع.
المشهد الثانى، ضاحية باودر هورن بمدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، حيث اعتقلت الشرطة رجل من أصول إفريقية إثر تلقى بلاغ من صراف بأحد المحال تشكك في تلقيه دولارات مزيفة منه، فى كسل كانت الكاميرات المثبتة على البوابات وعلى أعمدة الإنارة تسجل تكبيل معصمي الشاب الأسمر، جورج فلويد، وكيف اقتاده الشُرطي قسرًا، ثم وقوعه على وجهه واتِكاء الشرطي بركبته على رقبته، صوت استغاثاته الواهنة، ثم مقتله خنقًا، لتشتعل أمريكا غضبًا على فعل كثيرًا ما تكرر، وسيتكرر.
اندلعت أعمال الشغب والتخريب واضطر حاكم الولاية لإعلان حظر التجوال، ساعد الغضب العارم ضد ممارسات الشرطة على امتداد الاحتجاجات لأكثر من أربعين مدينة، منها واشنطن العاصمة وحتى محيط البيت الأبيض. لم تختلف المشاهد التى رأيناها عبر الشاشات فى المدن الأمريكية عن تلك التى عشناها في الدول العربية منذ نحو عشر سنوات، نهب محال وتحطيم واجهات وحرق سيارات وحافلات واعتداءات على مقار الشرطة من جانب المتظاهرين، اعتقالات وطلقات مطاطية وقتلى من الجانبين، ولا اختلفت تعليقات المسئولين الأمريكيين عما سمعناه من نظرائهم العرب آنذاك، من اتهام المتظاهرين بالرغبة فى التخريب ووقوف جماعات متطرفة خلفهم. طيبون هم السياسيون!. أيضًا، استخدمت ورقة الدين حين وقف الرئيس ترامب رافعًا الإنجيل أمام كنيسة، رآها رجال دين خطوة لكسب أصوات الناخبين فى نوفمبر المقبل، ليس إلا.
فيما كان الصحفي الأمريكي صامويل تايلور يدافع فى مقابلة تلفزيونية عن تعصبه لتفوق البيض على ذوى البشرة السمراء، حاول المذيع، أبيض البشرة، إقناعه دون جدوى أن الأمر لا يرتبط بالعرق قدر ارتباطه بظروف تعليم واقتصاد ونشأة ومناخ سياسي وتعاليم دينية، فقال له ليسكته (نقول لغير الأوربيين فى بلادنا، نتمنى لكم التوفيق، هذه أرضُنا نحن، نحن فقط، وعلى الآخرين أن يغادروا).
لا، لن يغادروا وستظل أمريكا مسرحًا للتناقضات، القانون والبلطجة، المساواة والعنصرية، العلم والأسطورة، ففي حين تمكنت، فى عشر سنوات، من تحقيق حلمها بالاستقلال عن روسيا فضائيًا، إلا أنها، ومنذ أكثر من خمسين عامًا، لم تستطع تحقيق حلم مارتن لوثر كينج، حين وقف يخطب فى الجماهير المحتشدة، مناديًا بالمساواة بين البيض والسود، قائلاً جملته الشهيرة، لدى حلم I have a dream، فاغتالته يد العنصرية، وما زالت تغتال بنيه من بعده !.