لم يكن تقديم الخدمات عن بعد نهجًا مستجدًا في دولة الإمارات العربية المتحدة، نظراً لاعتمادها على استراتيجيات التحول الذكي للخدمات منذ سنوات عديدة، إلى جانب ريادتها ودعمها لتقنيات الذكاء الاصطناعي على المستوى الإقليمي والدولي، بما أتاح تأدية مهام العمل خارج المقرات بيسر وسهولة، وخلق فرص عمل لفئات مختلفة حسب الحاجة. واليوم، تضع الحكومة الرشيدة توجهاً واضحاً، وسياسة محددة، وإجراءات تفصيلية، من أجل الوصول إلى أقصى الفوائد الممكنة من النظام، بعد التغلب على التحديات القائمة والمتوقعة.
لقد كانت الإمارات من الدول السباقة في إطلاق العمل عن بعد في ظل إجراءاتها لمواجهة تفشي فيروس كورونا، وكانت الاستجابة واضحة ومثيرة للمؤسسات الحكومية ومن شركات القطاع الخاص التي ابتكرت الحلول الذكية لتطوير استراتيجيات العمل عن بعد. وإلى جانب ذلك، حرصت على تقديم الجوائز لأفضل الممارسات التي نفذت في هذا المجال، تشجيعاً لها وللعاملين فيها على مواصلة التميز والإبداع، وحصد فوائد التطبيق العملي للتجربة الرائدة من حيث تقليل وقت الإنجاز وتوفير النفقات وعنصر الوقت للمتعاملين. والأهم من ذلك كله، تحقيق الهدف الرئيسي، ألا وهو إرضاء المتعاملين وسعادتهم.
وبذلك تعد التجربة الإماراتية نموذجاً ناجحاً لمنظومة العمل عن بعد، بفضل الرؤية الحكومية للقيادة الرشيدة، ما ساعدها على إنجاز المعاملات بسرعة ودقة ومرونة، والتعامل مع التحديات بحلول ابتكارية بهدف إسعاد الناس وتسهيل حياتهم.
وعلى مستوى القطاع القضائي، نرى أن هذا النوع من الخدمات مترسخًا قبل الأزمة الراهنة، بما في ذلك الخدمات القضائية، غير أن ظهور الجائحة دفع الكثير من المؤسسات القضائية إلى تطوير خدماتها، بما في ذلك تطبيق التقاضي عن بُعد.
وفي بداية الجائحة، توافرت خدمات ذكية معينة، وتمثل التحدي الأساسي في التقاضي عن بُعد، ما دفع المحاكم إلى إطلاق إدارة الأحكام الكلية، وتطبيق خصائصها المتمثل في التداول الافتراضي؛ حيث يقوم القاضي بإعداد حكمه، وإرساله إلى القضاة أعضاء المحكمة لإبداء الرأي القانوني، ومن ثم استكمال المداولة فيما بينهم لتسوية القضية موضوع المداولة.
ونود أن نؤكد على أن حكومة الإمارات تبنت الدوام المرن، والعمل عن بعد قبل الأزمة، ونجحت التجربة في اتخاذ الدوائر الحكومية في الإمارات الإجراءات والقرارات الضرورية بسهولة، ومن ثم قبولها من مختلف شرائح الموظفين والمتعاملين على حد سواء. وتأكيدًا على ذلك، أظهر استطلاع أجراه معهد دبي القضائي على قنوات التواصل الاجتماعي للمعهد حول رغبة المشاركين بتنظيم برامج المعهد المختلفة عن بعد أو من مقر المعهد، وقال 74% منهم أنهم يفضلون آليات التعلم والمشاركة عن بعد، بينما أعرب 26% عن تفضيلهم للنسق التقليدي لعقد الدورات من حيث الحضور لمقر المعهد.
ومن جهة أخرى، واصل معهد دبي القضائي تقديم خدماته للفئات المستهدفة، ومع بداية ظهور الجائحة وحتى اليوم، تمكن من توفير 16 برنامجًا تدريبيًا عن بعد، واستفاد منها قرابة 860 متدربًا. وبالتفصيل، بلغ عدد البرامج العامة والحلقات النقاشية للقانونيين 16 برنامجًا، وخصص لمحاكم دبي 3 برامج، كما تم تقديم العدد ذاته من البرامج للنيابة العامة في دبي. ونظم المعهد برنامجان للضبطية القضائية، وقدم دبلومين عن بعد خلال الفترة. ويوفر المعهد من خلال حملة “لا تشلون هم” المعرفة من خلال مجموعة من الإصدارات التشريعية والقانونية بالنسخ الإلكترونية المجانية، كما يوفر إصداراً إلكترونياً كل خميس أسبوعيًا.
ولتوظيف مخرجات التجربة على النحو الأمثل، تركز المؤسسات في الدولة على تحديد الوظائف المناسبة للعمل عن بعد، وتشجيع موظفيها على الاستفادة من إيجابيات هذه المبادرة لزيادة الإنتاجية، وميل بعضها لوضع خطط طويلة المدى لتبني واعتماد التقنيات الحديثة لتنفيذ خطط التحول الرقمي وتحقيق قفزة مستقبلية. ويتعين عليها قبل ذلك التأكد من جاهزية البنى التحتية التقنية، وقياس استعداد الموظفين لاستخدام هذه التقنيات، مع إتاحة أنظمة إدارة المؤسسة من داخلها أو عن بعد، وتحديد وتصنيف الوظائف الواجب توافرها في مقر العمل.
ويمكن لهذه الجهات لعب دور في نجاح التوجه، لاسيما وأنها تقوم بتوفير غالبية الخدمات المقدمة عبر المنافذ الرقمية، وينتظر منها تقديم الحوافز والتسهيلات للشركات في مختلف القطاعات، لتعزيز استعدادهم للتحول الرقمي.
ويحظى هذا الرأي بالتأييد والدعم من قبل أعداد متزايدة من المؤسسات الأكاديمية المحلية والعالمية، حيث ترى في تطبيق العمل عن بعد أنه يساعد على تحقيق الرفاه الوظيفي، فضلاً عن تحسين بيئة العمل، وزيادة الإنتاجية، وتقليل حالات التأخير، وتوسيع مجموعة المواهب، وتعزيز العلاقات الأسرية، من خلال تحسين التوازن بين العمل والحياة العائلية، وتوفير النفقات للموظفين والمؤسسات وتقليل الازدحام المروري.