آخبار عاجل

بلقيس.. تغتال من جديد محمد مصطفى الخياط

14 - 08 - 2020 12:31 512


 

(لن أقرأ التاريخ بعد اليوم.. إن أصابعي اشتعلت ..وأثوابي تغطيها الدماء ..ها نحن ندخل عصرنا الحجري، نرجع كل يومٍ ، ألف عامٍ للوراء)، حين علمت بخبر انفجار مرفأ بيروت وجدتني أردد تلك الأبيات من قصيدة (بلقيس والوطن) لنزار قباني، كتبها في رثاء زوجته؛ بلقيس الراوي، إثر مقتلها في انفجار السفارة العراقية ببيروت، تلك المدينة العجائبية، مدينة الحزن والسعادة، مدينة الموت والحياة. 

ما زالت صداقاتي التي نشأت خلال إقامتي ببيروت، والتى طالت لعدة شهور، ومر عليها سنوات طوال، تحتفظ بطزاجتها وحيويتها، ما زالت جلساتنا في الصباح الباكر على الكورنيش حاضرة في الذاكرة، أشم فيها رائحة يود البحر، وتحليق طيور النورس في صفحة البحر، ثم انقضاضها على صغار سمك الشبوط الفضية، عَبق القهوة المغلية بحبات هيل السياسة، تشترك جلسات البيروتيين، صباحًا ومساءً، في ثلاث، القهوة والنرجيلة والسياسية، كان الصباح وقتنا المفضل، فإذا ما دقت الساعة السابعة انطلق كل منا إلى عمله.

يراقب مُضَيِفُنا جمرات النِقاش المتوهج بأحاديث السياسية والسياسيين هادئًا صامتاً، فإذا ما بلغ ذروته أطفأه بجملته الشهيرة (قهوتك يا حاج)، يقولها مُعطِشًا حرف الجيم، فإذا هي خافض حرارة قوى المفعول ممتد الأثر يعيد للجلسة هدوئها، وتدور علبة الكعك من جديد مع قفشات خفيفة الظل، فإذا خيمة مودة تحتضن الجميع، اليوم غرقت العيون في بحيرات الدموع وفارق المرح جلسات الكورنيش، عندما هاتفتهم للاطمئنان، خنقت أصواتهم الدموع (نحنا بخير.. لكن المأساة كبيرة).

لم يكن صباح العاشر من ديسمبر 1981، ككل الصباحات التى عرفها نزار وبلقيس، تناولا الفطور سويًا، وجلسا في الشرفة يتناولان قهوتهما، سحبت بلقيس سيجارة من علبتها، ومد نزار يده بالولاعة ونظر في عينيها طويلاً، العينان اللتان طالما تغنى بهما، (تلك العيناها أصفى من ماء الخلجان.. تلك الشفتاها أشهى من زهر الرمان)، ثم عاد واستطرد، (ذات العينين الصاحيتين الممطرتين.. لا أطلب أبدا من ربي إلا شيئين.. أن يحفظ هاتين العينين.. ويزيد بأيامي يومين.. كي أكتب شعرا.. في هاتين اللؤلؤتين)، ثم افترقا هى لعملها في الملحقية الثقافية وهو إلى مكتبه، وما هي إلا ساعة أو ساعتين حتى زَلزَل بيروت انفجار حول السفارة إلى قبر يحوى أكثر من ستين قتيلاً.

متشابهة هي تفجيرات بيروت، وإن اختلفت أسبابها، لا تُبقى ولا تَذر، تفجيرات 1983 مستهدفة مبنيين للقوات الأميركية والفرنسية ومقتل حوالى ثلاثمائة، وعام 2005 ومقتل رفيق الحريري ومن معه، وعام 2012 واغتيال وسام الحسن، عميد شرطة، وأكثر من مائة لبناني، والسفارة الإيرانية عام 2013 ومقتل أكثر من عشرين شخص، وقضى في برج البراجنة عام 2015 أكثر من أربعين مواطن، وأخيرًا مرفأ بيروت ومقتل أكثر من مائة وتشريد الآلاف.

ربما اختلفت ملابسات تفجير السفارة العراقية مع تفجيرات المرفأ، وربما أظهرت التحقيقات في الغد البعيد شيئًا آخر، ومع هذا أرى فى بيروت بلقيسًا أخرى، لا تجدى الكلمات ولا اللغة (الحزن يا بلقيس ..يعصر مهجتي كالبرتقالة)، نعلم أن الموت يطاردنا، ولكن لماذا تستأثر بيروت بالنصيب الأكبر، يقول نزار (بيروت.. تقتل كل يومٍ واحداً منا ..وتبحث كل يومٍ عن ضحية، والموت.. في فنجان قهوتنا ..وفي مفتاح شقتنا .. وفي أزهار شرفتنا ..وفي ورق الجرائد ..والحروف الأبجدية)، مع كل قنبلة تنفجر تُغتال بلقيس من جديد، وما يحدث في بيروت يتكرر في بغداد الرشيد، ودمشق الياسمين، وطرابلس الغرب، وعدن الحزينة، ومقديشو المسكينة، وفلسطين الحبيسة. غرقنا في بحار دموعنا، وشربنا منها حتى ثملنا. حفظ الله الوطن.



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved