ما إن فرغت من قراءة رواية، وإن شئت الدقة مذكرات، درية الكردانى، رمال ناعمة، حتى وجدتني اتناول بعدها رواية، الزوجة المكسيكية، للكاتب والمترجم إيمان يحيى، والتى كتبها مستدعيًا ومحققًا السيرة الذاتية للراحل يوسف إدريس فى روايته البيضاء، عملان أدبيان يقتربان من الحياة الشخصية للكاتبين وعلاقة المرأة بالرجل، هى تراه فنانًا، تحلم معه بمدينته الفاضلة وتُنَصِبهُ سلطانًا عليها، فيما هو ممزقٌ بين خيال وواقع، ازدواجية تقترب من الانفصام أحيانًا.
فى عيد ميلاد الشاعر أحمد حجازي، الخامس والثمانين، يونيو الماضي، قالت زوجته، (الحياة مع شاعر ليست سهلة.. فالشاعر ليس ملكًا لنفسه.. ولا يمكن القبض عليه.. إنه يعيش محلِقًا بين الأرض والسماء حين يكتُب.. ثم يعيش معنا بعدها)، تلخص هذه الكلمات حالة الكاتب حين ينغمس فى عمله وحالته بعدها. تراه العيون؛ شاعرًا كان أو أديبًا، أو رسامًا، من نافذة أعماله، يتخيلون عالمه بتفاصيله الصغيرة والكبيرة، يَدَعُون ويُصَدِقون، يُفَسِرون ويَشرحُون، يَتَأملون ويُحَلِلُون؛ أتُراه كان يقصد، ولمن يا تري يبعث رسائله الظاهرة والخفية، من هى ملهمته، وكيف صارت، وغيرها من أسئلة، بينما هو، الفنان، يكابد كي يرفع رأسه فوق سطح ماء أحزانه ليكتب قصيدة، أو قصة، أو يرسم لوحة، قبل ما تغمره موجه هموم عاتية، لا تنفك تتوالى فى إصرار، تجرفه نحو شاطئ اليأس وحيدًا، فتَلعَق الشمس جراحه الطازجة.
فى رمال ناعمة، تروي درية الكردانى سيرتها الشخصية بعفوية تاركة سرسوب الحكي يتدفق دون توجيه، ينساب مستقيمًا حينًا، ومتعرجًا أحيانًا أخرى مُنصاعًا لقواعد جغرافيا السرد وما تراكم فيها من رواسب. تسترجع نزولها القاهرة قادمة من مدينة صغيرة للدراسة بالجامعة، نشأتها في أسرة متوسطة، تفاصيل الحياة اليومية، العادات والتقاليد، ثم لقائها صدفة مع الفنان الكبير، هكذا تُكَنيه ولا تذكر اسمه، رغم شهرته الواسعة، ومن ثم لن أذكر اسمه احترامًا لرغبتها، ما بدا علاقة عابرة تطور مع الوقت، تزوره فى مَرسمه، يتعجل رحيل الزوار كي يفرغ لحديثها، تراقبه وهو يرسم، يخلط ألوانه، وكيف يتحول الورق الأبيض والنسيج الكالح بين يديه إلى لوحة تضج بشخصياتها الأرستقراطية والشعبية؛ الهانم والفلاحة، الباشا والصعلوك، القصر المُنيف والعشة الخوص، الطرق الممهدة وحواف الترع، زهورها وحقولها، يُبهرُها عالمه واتساع دائرة ثقافته وعلمه، ينمو الحب بينهما ويقرران الزواج رغم اعتراض أسرتها؛ يكبرها الفنان بثلاثين عام، فتعقب (ليس للحب سن).
بعد فورة الزواج، شيء ما بدا غريبًا فى علاقتهما، صدمها تغيره من ناحيتها، خفتت مشكاة الحب ثم انطفأت، كان عليها أن تدير شئون بيتٍ رَجُلُه فنان مشهور يَقصِدهُ الطلاب والمعجبون والزوار، احترمت طقوسه وتفهمت تلقي صحبة ورد معلق فى غلافها الشفاف بطاقة إعجاب بخط نسائي، قَل ترددها على مرسمه وغابت روح الفنان التى طالما غمرتها بثقافته وقراءاته المتنوعة، لا ينفك الحوار يبدأ حتى يُبتر، أين إلحاحه السابق ليكملا ما بدءا من كلام، أحاديثه التليفونية الطويلة، ذهب كل شيء مع الريح، قاومت قدر طاقتها، تحملت غطرسته وطباعًا لم تعرفها من قبل؛ الإهمال، والشك. هل يراها لوحة؛ ينساها فور اكتمال رسمها. رغم محاولاتها المستميتة انفصلا وتفرغت لرعاية ابنتهما، هل أخطأت حين عارضت أهلها وتزوجته، أم أن زيت قنديل الحب حِرمَانٌ وشقاء؟، ربما!. يقول نجيب محفوظ على لسان كمال في ثلاثيته، (الذين يحبون لا يتزوجون).
عندما سألها أحد الصحفيين كيف كان يتعامل زوجها معها، أجابت (هو فنان كبير داخل مرسمه، رجل شرقي فى البيت)، وتركت للجميع حرية الاستنتاج، نكمل المقال القادم إن شاء الله.