اتقلب على فراش من جمر متربصًا بالغد، رأسى سوق يهدر، على غير عادتى دخلت سريرى في العاشرة مساءً، غدًا أشفى غليلى من ابن نظيمة، استبشرت حين رأيته في الحلم يدخل على القاضى مرفوع الرأس، يضع منديلاً ملونًا في جيب سُترته، وما إن نطق القاضى الحكم حتى تهدل كتفاه وبدا شيخًا عجوزًا، يا إلهى، أكاد أجن من بطء الزمن، تململت في سريرى، ما زال الشارع يضج برواده، ضربات قشاط الطاولة في مقهى عِسيلة، سخرية عبده الحلاق على خلق الله، وبرامج إذاعة القرآن الكريم من ورشة فراج الأيمجى تبحث عن أُذن.
نهضت متثاقلاً لإعداد كوب شاى، وضعت الكنكة على البوتاجاز، تذكرت أن الأنبوبة فارغة منذ أسبوع، بدلت ملابسى وقصدت عبده الحلاق، استغرب قدومى، بادرته (مش جايلي نوم)، ترك رأس الزبون وقال وهو يختفى خلف الستارة البالية (محتاجة دور شاي)، وضع البراد على الشعلة وعاود عمله مُلقيًا أول جمرات السهر على نرجيلة الفراغ، (بس أنا حاسس إن الزمالك ها ياخد الدورى السنة دى)، لم استطع كبح جماح لسانى ورحت أحلل المباريات وأداء اللاعبين، انتقل الحديث حاميًا بين أفواه الزبائن المنتظرين دورهم في الحلاقة، الصراع التقليدى بين الأهلى والزمالك، مفاجآت الإسماعيلي ولعبه البرازيلى، الدورى الإنجليزى والإسبانى، محمد صلاح وحياة بالكتالوج وآخر يمارس كرة القدم بعد حجرين شيشة معمرين، عبقت المحل نكهة شاى ثقيل ممزوجة بسكر محروق، امتدت السهرة حتى فرغ المحل إلا منا، أطفأ عبده الأنوار وأطبق ضلفتي الباب ثم وضع الرَزَة الحديد في منيمها وثبتها بالقفل.
بدا الشارع خاليًا، أُغلقت المحال تتدلى أمام أبوابها لمبات مشنوقة بأسلاك رفيعة، تناهى إلى سمعي صوت إذاعة القرآن الكريم وشعائر صلاة الفجر، أدرت المفتاح في الباب الخارجي للبيت، شيء بداخلي يدعوني لصلاة الجماعة، عسى الله أن ينصرني على ابن نظيمة، صعدت السلم المتهالك، سكنت الوطاويط فجوات الجدران، بدا المدخل كئيبًا أمام عجز لمبة كالحة، تقاوم الموت، على إضاءته، أيقظت حركتي إحدى القطط فجرت مذعورة بجانب ساقى وقفزت في خفة من شراعة الباب إلى الشارع.
موات يقطعه صوت أقدامي، السلمة الثالثة مكسورة وقبالة الخامسة انتفخ الحائط كامرأة في شهور حملها الأخيرة، أخرجت المفتاح المعدني العتيق، طويل ينتهى بسنون بارزة، لم يتغير منذ عرفت هذا البيت، خمس وأربعون سنة مضت كسراب، ساعة من نهار، رحل كل من كان فيه، جدى وجدتي، وأبى وأمي، ولم يبق سواي، تخرجت من كلية الزراعة، حاول أبى إلحاقي بأعمال كثيرة، لكنى لم أمكث في أي منها أكثر من أسابيع، سرعان ما يتسرب إلى الملل وأنفر من اللوائح، لم أجد من يفهمني والفرصة المناسبة لم تأت بعد، "عاوز أعيش زي الطير"، قلت لأبى، فرد مُحبَطًا (الطيور تصحو مبكرًا لتبحث عن رزقها)، فعقبت (لكنها لا تعمل عند أحد)، يئس منى فأهملني.
احترفت مشاهدة مباريات كرة القدم وتحكيم الدورات الرمضانية بين فرق الحارة، أحصل على عشرين جنيه للمباراة بينما يحصل آخرون على مائة، ارتدى فانلة صفراء طويلة وواسعة طُبع عليها رقم عشرة واسم بيليه، أتابع كل مباريات كأس العالم والدورى الأوربي، يشيد الكثيرون بتعلقاتي وأكد بعضهم أننى لو كنت أعيش في أوربا لربما دربت ريال مدريد أو برشلونة أو اسُتدعيت لتحكيم مباريات الأهلى والزمالك الذى أشجعه بتعصب، أعيش على ما تبقى من معاش والدى، وإيجار المحل أسفل البيت، قبل أن يتركه المستأجر، خوفا من سقوطه، أكدت له مرارًا أن البيت بحالة جيدة، فلم يقتنع، جمع متاعه ورحل.
منذ عشرين سنة، تعرفت على سيد العربى، أو سيد اخزاخانة؛ خريج ثانوى تجارى، كان يعمل أثناء دراسته في صيدلية فأطلقنا عليه سيد اخزاخانة، كان يعرف أسماء الأدوية ويتقمص دور الطبيب، بعد أداءه الخدمة العسكرية عَمِلَ في صيدليتين ليوفر ثمن تأشيرة الخليج، كان ينحت في الصخر، وعندما كنا نلتقى صدفة يخبرنى أنه يستطيع إدارة عشر صيدليات في وقت واحد، لكنه للأسف لا يملك المال، ثم يبصق ويلعن كل ما حوله.
ذات يوم عرض على تحويل المحل أسفل البيت إلى صيدلية ويدفع كل منا عشرة آلاف جنيه لشراء البضاعة، رحب أبى بالفكرة وطلب منى ساخرًا دعوته لحفل الافتتاح، بعدها فاجأني سيد بسفره إلى عُمان، سألته عن مشروعنا المشترك، فقال أنه رهن إشارتي متى جهزت المبلغ، عقبت أنها مسألة شهور وشددت عليه إرسال رقمه الخليجي، لكنه لم يفعل، بعد عامين توفى أبى ثم لحقت به أمى، أبديت رغبتى فى بيع البيت لأتفرغ لمشروعاتي، وفى جلسة توقيع العقد دخل علينا السعيد ابن نظيمة، وقال إن له نصيب في البيت، ورثه عن والدته، قدم أوراقًا لمحامى المشترى، نظر فيها، ثم قال إنه لن يستطيع إتمام البيع، صرخت وقلت له إن ابن نظيمة نصاب، كرر المحامى رده السابق، ثم أضاف "ما يصحش تقول كده ع الأستاذ سعيد، مهما كان ده عمك"، انفعلت عليه وأنكرت قرابته، توتر الجو فتأبط المشترى كيس نقوده وشيعنا قائلاً "لما تتفقوا أنا جاهز".
عقدة حياتى ابن نظيمة، تربت أمه في بيت جدى، أحضرها أبوها وهى بنت عشر سنوات لتخدم في البيت فعاشت كواحدة منا خاصة بعد ما فاتها قطار الزواج، توفيت جدتى وقد شارف جدى على السبعين من عمره، وذات يوم دعا أولاده إلى شقته في الدور الأرضى وأخبرهم أنه نوى الزواج، هاجوا وماجوا، فطردهم وتزوج من نظيمة وأنجبت سعيد، شككت أمي في نسبه فكانت تدعوه باسم أمه، توفى جدى وسعيد دون الثامنة فطرد أبى نظيمة واتهمها بتزوير ورق بيع الشقة عندما عرضته عليه، حدث هذا منذ أكثر من ثلاثين عامًا، كنت وقتها في العاشرة من عمرى.
اختفت نظيمة وابنها لسنوات لا نعرف عنهما شيئًا، وبينما كنت أمارس هوايتي في الرسوب رأيت صورته في التلفزيون ضمن أوائل الثانوية، وبعدها بسنوات عرفت أنه تخرج وحصل على الدكتوراه وتزوج من إحدى زميلاته وأصبحت له أسرة وحياة مستقرة، بينما لم تصمد أسرتى سوى عامين، طلبت فيهما زوجتى الطلاق ألف مرة، ادعت أننى لا أنفق عليها، علمًا بأننى كنت أسلمها معاش والدى بالكامل، وبدلاً من مساعدتى على تحقيق حلمي في تحكيم مباريات كأس العالم أو امتلاك صيدلية، تَركَت البيت ومعها ابنى الذى لم أره منذ خمس سنوات.
هرب المشترون بعد ظهور ابن نظيمة وأوراقه المزورة، وعندما عرضت البيت على سيد اجزاخانة في أحد اجازاته تعلل بعدم جاهزيته رغم شراءه أربع صيدليات أطلق عليها لقب عائلته (العربي)، ثم ناولني شنطة بها بعض الهدايا، تضايقت قليلاً ولكنى سرعان ما تشفيت فيه إذ وجدت ألف جنيه في جيب أحد القمصان التى أهداها لى، ورحت أتخيله يبحث عنها دون جدوى، يضحكني الموقف كلما تذكرته أو ارتديت القميص أو أرسل لى مع أحد أقاربه شنطة بها بعض الملابس والأطعمة الجافة في المواسم والأعياد.
رفع ابن نظيمة قضية يطالب فيها بحقه في البيت، فوكلت محامى لكن حبال المحاكم طويلة، أكثر من خمسة عشر عامًا والقضية منظورة، من دائرة إلى أخرى، ومن تأجيل إلى طعن إلى تشكيك في نسب ابن نظيمة، إلى اتهام بتزوير توقيع جدى، غيرت المحامين أكثر من مرة لكثرة ما يطلبون من أتعاب.
ما كل هذا الضجيج الذى يطن في رأسى، اقترب أذان الفجر ولم يغمض لى جفن، اعتدت النوم مع تباشير الصباح والاستيقاظ عصرًا، لا يمكننى ذلك الليلة، فجلسة المحكمة في التاسعة صباحًا، حجزها القاضى للنطق بالحكم، أخيرًا سوف أتشفى في ابن نظيمه، أقسمت بيع البيت في المساء وشراء شقة أكبر، سوف افتتح صيدلية، لا بل ثلاث وسأنافس سيد اجزاخانة، وسأرفض شراكته حين يأتيني راكعًا.
انطلق صوت المؤذن كقذيفة سكنت أذني، نهضت من فراشي وتوضأت وصليت، وجهى للقبلة وظهري لباب البلكونة المغلق منذ ثلاث سنوات، بعد ما سقطت البلكونة في الشارع، حمدت الله أنها انهارت والشارع خال فجرًا وإلا لكانت مصيبة. آويت إلى فراشي بعد ما ضبطت المنبه على السابعة، كان نومى متقطعًا، أخذت دش وارتديت بدلة زواجي، بدت مترهلة غريبة عن الزمن، سوف أرميها هى الأخرى واشترى طقم ماركة، ركبت ميكروباص لأول الشارع ومنه أتوبيس إلى المحكمة، كنت هناك في الثامنة والنصف، (نصف ساعة وينتهى الأمر)، قلت في نفسى، لكن المحامي الملعون صدمني حين أخبرني أن الجلسة تبدأ التاسعة وحسب دورنا ندخل، كلب، شتمته في سرى ثم عزيت نفسى بأنه اليوم الفصل وعلى الصبر، هانت.
انزويت في الطرقة المزدحمة، رجال ونساء، أفندية وتجار، نساء بلد وسيدات مجتمع، محامون ورجال شرطة، شابان يدخنان ومعصميهما مقيدان معًا، أم ترضع طفلتها من تحت طرحتها السوداء وشاب يسترق النظر إليها، رجل يبيع الشاي والقهوة في أكواب ورقية، سيدة مسنة تجلس على السلم تتحسس ساقيها المتورمتين وخلفها فتاتان منهمكتان في أحاديث هاتفية ريثما يصدر القاضي حكمه على أبيهما، المحكمة نموذج مصغر لدنيانا.
كانت الساعة تقترب من الواحدة ظهرًا حين لمحت ابن نظيمة، ألقى على السلام فأشحت بوجهي ووقفت قبالة السلم حتى أشار لي المحامى، أسرعت نحوه فقال لى من بين انشغالاته وحديثه مع آخرين، (إحنا القضية الجاية)، وقفت صامتًا فيما راح قلبى يدق بعنف، شعرت أن الجميع يسمعه، لم استطع إخفاء توترى رغم ثقتى في رفض طلب ابن نظيمة بإثبات نصيبه فى البيت.
خرج الحاجب من الغرفة، نظر في الورقة المطوية بالطول ونادى (قضية رقم 1967)، جذبني المحامي وقال (قضيتنا، يا للا)، دخلنا جميعا، أنا وابن نظيمة والمحاميان، استعرض القاضى الدعوى، ثم تلا الحكم النهائى والبات برفض دعواى وقبول دعوى ابن نظيمة بأحقيته في شقة الدور الأرضي وحصة من الأرض.