حتى 1 سبتمبر 1920 لم تكن خريطة لبنان قد اكتملت بعد، لذا ما إن أعلن المفوض السامي الفرنسي، هنري جورو، آنذاك، حدودها حتى عرفت بلبنان الكبير. ما زالت روابط القربي قائمة، رغم مضى قرابة الثمانين عامًا على استقلال لبنان عن فرنسا، نوفمبر 1943. سياسيًا، تتطلع عيون المسئولين إلى باريس؛ مشاورات، واستئناس بالرأي، ومبادرات. شعبيًا، نحتت اللغة آثارها في معجم أهل البلد، يتداول الأكاديميون ورجل الشارع العديد من الكلمات الفرنسية بلكنة أهلها، وأخرى عُربت ودخلت قاموس السرد اليومي اعتمادًا على قاعدة لغوية مفادها، خطأ مقصود خير من صواب مهجور، (هاي.. كيفك؟.. سافا)، فيرد الآخر (ca vas bien)، أى بخير.
حول نظرة الدول للبنان كتب الأستاذ الكبير سمير عطا الله روايته (يُمنى)، سيدة مجتمع جميلة وأنيقة، تجمعها روابط الصداقة بالشيخ بشارة الخوري، رئيس لبنان (1943 – 1952)، ومشاعر الحب والإعجاب برياض الصلح، رئيس الوزراء (1943 – 1951)، عبر هاتان العلاقتان تكتسب يمني مكانة اجتماعية مميزة ويضعها الكثير من السياسيين في مرتبة المتحدث غير الرسمي، تُناقش مجالسها لبنان ودوره في المنطقة؛ يراه رجال الاستقلال دولة، ويعتبره الأميركيون بوابة الشام، ويراقب البريطانيون مدي تأثيره على تحركاتهم في المنطقة، فيما ينظر إليه الفرنسيون كمفصل؛ بلد صغير المساحة كبير التأثير.
قبل مرور أقل من ثمانٍ وأربعين ساعة على انفجار مرفأ بيروت، 4 أغسطس الماضي، أَجَل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أجندة أعماله وزار لبنان، نَحَى البروتوكولات جانبًا واتجه من مطار رفيق الحريري إلى موقع الحادث مباشرة، يأسًا من واقع محبط هتف البعض له، بدبلوماسية تجاوز الرجل الموقف وأكد أن لبنان ليس وحيدًا، ثم عاد وأردف، دون مواربة، (في حال لم تُنفذ الإصلاحات، سيواصل لبنان الغرق). ولكن كيف لبلد تأسس على الطائفية أن تنتظم أجزاءه في اتجاه واحد، كيف توزع الحقائب الوزارية وهناك من يفرض اختياراته على الجميع، عُين ميشيل عون بعد عامين ونصف من الفراغ الرئاسي، وبعد إخفاق 45 جلسة تصويت، أضف إلى ذلك شهور طويلة قضتها الحكومات تحت مسمي (تصريف الأعمال)، فراغ يجرف لبنان نحو الحافة.
من هنا قرر ماكرون أن يبدأ زيارته الثانية من الرمز المتفق عليه، فيروز، جارة القمر الواقفة على مسافة واحدة من الجميع، كي تكون مقبولاً عليك أن تسمو فوق رغباتك الشخصية، للحبيب المصطفى غردت (حنينًا إلى أحمدَ المُصطفى وشَوقا يهيجُ الضُلوع استعارا/ ولما حللنا فناءَ الرسول نزلنا بأكرم خلقٍ جوارا)، وللسيد المسيح ترنمت (الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان)، ولمكة رتلت (غنيت مكة أهلها الصيدا/ والعيدُ يملأ أضلعي عيدا)، وللقدس شدت (لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي)، وللمحروسة صدحت (مصر عادت شمسك الذهب)، ولوطنها غنت (اسوارة العروس مشغولة بالدهب/ وانت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب). ربما تختلف إجابة أي المطربات تفضل؟، صعب أن يختلف أحد على شخصية فيروز.
قبل وصوله بيروت غرد ماكرون، على حسابه الخاص، (لدى موعد على فنجان قهوة مع فيروز)، للزيارة معان بعيدة وقريبة، ذكرى إعلان لبنان الكبير، الرعاية الفرنسية للبلد المكلوم، الإصلاح ونبذ الطائفية، بناء بلد ينسجم بنيه دون تمييز، من هنا جاءت أهمية لقاءه بفيروز، الرمز والمعنى، فنجان قهوة بالقرب من جبل لبنان تمتزج نكهته بموسيقي الأخوين رحباني ليتلألأ على أنغامها صوت ملائكي تنصهر فيه الأطياف كافة (بحبك يا لبنان يا وطني بحبك/ بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك.. وحبة من ترابك بكنوز الدنيي/ وبحبك يا لبنان يا وطني)، حفظ الله الوطن.