في مثل هذه الأيام مع ظهور نجم سهيل يترقب الناس في بلادي تباشير الشتاء، وأملهم دائمًا في أن يكون المطر زائرًا لديارنا في الوسم، لأن ذلك إيذانًا بإنبات وظهور النباتات والزهور البرية، وإمكانية وجود «الفقع» «الكمأة» وهو من خيرات البر الذي يستبشر به العرب، فالصحراء تكون في هذا الوقت محط الزوار، والتخييم، والتمتع بالجمال الفطري الذي هو من خيرات السماء والتي هي آية من آيات الباري عز وجل.
طالما المرء يتمتع بالصحة والعافية فإن ما تجود به الطبيعة من خيرات هي محل تقدير وتقديس واستبشار.
البر في بلادنا العربية يختلف مساحة وحجمًا وتنوعًا بيئيًا، ومع توافر المواصلات والتقارب في نقل الصور عبر وسائل المواصلات والتواصل ووسائله المتعددة أصبحت مظاهر الفرح بموسم الشتاء تصل إلينا من خلال ما يقام من استعدادات للاستفادة من هذا الموسم الذي ربما يحمل الكثير من المفاجآت، ما نأمله في أيامنا هذه هو أن تهدأ جائحة فيروس كورونا كوفيد 19 ولا تفسد علينا الشتاء الجميل كما قضت مضاجعنا في صيف هذا العام، فأصابت متعتنا الصيفية في مقتل.
ندعو الله جلت قدرته أن يزيل عنا وعنكم هذا الوباء وأن يتم تعويضنا عما فات، وننعم بشتاء نشط فيه كل ما يسر الخاطر، ويشرح النفس.
في قريتنا البديع الساحلية كنا نتمتع في الصيف بالسباحة في البحر الذي تتفاوت أعماقه لكنه كان حنونًا علينا، بحيث يتمكن السباح الماهر من عمق البحر، كما يتمكن المتدرب الذي يطلق عليه بالعامية «عليمي» من التعلم على راحته، ولأن القرية من جهتها الشرقية والجنوبية بها مساحة من البر لا بأس بها، فإنه مع وجود مطر الوسمي تظهر بواكير أنواع «الفقع»، وكان الأجداد والآباء يأخذوننا معهم للبحث عن «الفقع» حتى نصل إلى المواقع البرية في البحرين ونتشارك مع البحرينيين من بقية المدن والقرى في البحث عن الفقع الذي هو من خيرات الله التي أفاء بها على مملكة البحرين.
ولما كان الوالد يرحمه الله يعمل في شركة النفط بابكو، وكان جل وقته يقضيه في البر وزيارة مواقع الآبار، فكان يتسنى له الحصول على «الفقع» ويأتي به إلى منزلنا مساء كل يوم نستهلكه ونهديه إلى أهلنا في الحد والجسرة، ويكون أيضًا منه نصيب لأهلنا في دارين بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية على الرغم من وجوده عندهم بكثرة، ولكنها عادات عربية أصيلة في تبادل الهدايا وإن كانت من نفس النوع؛ لأن ذلك تعبيرٌ عن الحب والتقدير المتبادل.
كان البحث عن «الفقع» «الكمأة» يجذب إليه الكبير والصغير، وأتذكر عامًا جادت به السماء علينا بالمطر الوسمي وكان البر مليئًا بشتى أنواع «الفقع»، وأشهرها «الزبيدي» وبعض الأسماء اسقطت عليهم من أسماء أنواع الرطب كـ«الأخلاصي» و «الخنيزي»، وأنواع اختص بها «الفقع» ونفرد في مسماه، عمومًا ذهبنا مع الآباء والجيران للبحث عن الفقع وتأخر بنا الوقت، فتغيبنا عن الحضور إلى المدرسة الابتدائية للبنين بالبديع في اليوم التالي وكنا مدركين أن عقابًا سيطالنا على هذا الغياب، وكان الأستاذ والمربي الفاضل يرحمه الله يعقوب بن عيسى بوحجي (مثواه الجنة ورضوان النعيم) قد أعد لنا عقابًا يليق بهذا الغياب، وكنا بين نارين إما أن ندعي المرض، أو أن نكون صريحين، «فالصدق منجي» كما كنا نقرأها وهي معلقة أمامنا في حائط طابور الصباح، وكان الأستاذ يعقوب يود أن نسمع صوتنا للطلاب في طابور الصباح، لأن هذا وحده عقابًا على الملأ، فقلنا للأستاذ يعقوب: «لقد تأخرنا يا أستاذ في البر ونحن نبحث عن (الفقع)»، فضحك الطلاب على تصرفنا، وتمالك الأستاذ نفسه ولكنه كان يكتم ضحكته مع قناعته بأن هذا هو الواقع وقد قلناه بتجرد وصدق، ودعانا إلى مكتبه ووبخنا وقال: «عفوت عنكم لأنكم قلتم الصدق، فلا تعيدونها مرة أخرى، فالمدرسة أهم لمستقبلكم يا أبنائي».
رحم الله الأستاذ والمربي الفاضل يعقوب بن عيسى بوحجي، فقد كان مثالاً للأب والمربي الذي يحرص على مستقبل أبنائه.
يظل البحث عن الفقع في البر من أهم ما يحرص عليه أهلنا إلى اليوم، خصوصًا عندما يكون المطر قد جاد علينا في الوسم. ندعو الله أن يرحمنا بنزول المطر في أوانه، وأن يسبغ الله علينا التمتع بالبر دون منغصات..