إلامَ يحنّ الكائن المذعور في زمن «كورونا»؟
لعله يحنّ، وهو دائم الحنين الآن، إلى زمن سابق كان يزدريه ويعتبره أقلَّ مما يتوق إليه. الكائن في هذه القنطرة الرهيبة التي يطالعنا «الخبراء» بأنّ زمنها ربما يطول، يحنّ إلى البساطة، إلى الأشياء العادية، إلى الملل الطبيعي، إلى الراحة في الإجازة المنتظرَة نهاية الأسبوع.
يحنّ الكائن المختنق بالكوابيس والمحاذير إلى هواء طلق يمخر عباب رئتيه، ويُخرج الزفرات المعتّقة منذ أشهر.
ويحنّ أيضاً لإعادة النبض إلى حواسه: يَنشد أن يصافح ويعانق، لا يريد لأصابعه أن تلهو بالضجر. يريد أن يكون لصيقاً بالمسرّة، ناهلاً بضراوة من ينابيع الشغف.
إلى اللقاءات التي بلا مواعيد مسبقة يحنّ، من دون أن يعود للبيت، لاهثاً، لأنه نسي الكِمامة أو قفازات اليدين، أو لم يدهن يديه بالمعقّم، كأنه ذاهب لإجراء عملية جراحية.
إلى المقهى المطلّ على الضجيج، يحنّ الكائن الوحيد. إلى المقعد نفسه ذي اللون الخمري، فيحتسي قهوته «الإسبريسو» التي يطلب من النادل أن تكون ثقيلة كي يعيد دوزنة دماغه. إلى تلك البرهة المنتزعة من تفاصيل اليوم المكتظ بالتعب يحنّ. إلى تأمل البشر الرائحين والغادين، إلى الابتسامات التي أخفتها الأقنعة، إلى السنّ الوسطى المكسورة للنادلة القصيرة التي لا تكفّ عن الضحك.
إلى الجماهير في الملاعب الرياضية وهي تنفجر بالصراخ كلما جاء هدف أو تحقق فوز، إلى الأعلام التي تلوح بالمدرجات، إلى التوتر المرسوم على وجه صبي صغير قبل ركلة الترجيح الأخيرة، إلى التتويج والظفر ورفع الكأس.. إلى تلك العوالم كلها يحنّ.
إلى البحر، حيث السنونوات والمراكب المترنّحة قرب الغسق يحنّ. إلى الأجساد المكتسية بالشمس تنشد السُمرة وهندسة القوام وإغراء الموج، يتوق، وهو يتمتم بأغنية نجاة الصغيرة «أنا بعشق البحر».
ورغم أنّ الحنين يحتاج إلى زمن كي يختمر، وربما إلى عمر طويل وانقطاع مبرم عما يألفه المرء، لكنه في زمن «كورونا» يتفجّر في أقل من تسعة أشهر، كأنه دورة حمْل تُجدد فيها الطبيعة عبثها بالمواعيد والأقدار والانتظارات؛ لأنّ قوة الإكراه شديدة ومكثفة وعابرة للزمن. زمن «كورونا» بألف زمن ما نُعدّ ونحصي.
ولفرط المكوث في المنزل، صار الكائن يحنّ إلى الشارع، إلى الأرصفة، إلى الغبار، إلى الشوارع المزدحمة، إلى رائحة الإطارات في الظهيرة القائظة، إلى أبواق السيارات، إلى الضجيج، إلى التدافع واحتكاك الأكتاف البشرية ببعضها، إلى العَرق في الحافلات، إلى الرثاثة والفوضى، وربما إلى كل ما كان يثير حنقه واضطرابه.
يتآكل اليقين في زمن الخوف. هكذا يحدّث الكائن نفسه، وهو يتابع بهلع قوافل المصابين والموتى الذين بلا عدد حول العالم.. حتى الموت أضحى بلا وقار، وسقط عنه صولجانُ الرهبة المؤقت. يموت الكائن بلا مشيّعين، وبلا بيوت عزاء، وبلا شهادة وفاة، وبلا قبر محاط بزهر البنفسج.
وإذ يتفرّس الكائن في أيامه، التي صارت نسخاً مطابقة لبعضها، فإنه يحنّ، في زمن «الأونلاين»، إلى أن يحلق ذقنه صباحاً ويتعطر وينتقي ملابسه المكوية المعلقة في الخزانة، وربما يرتدي بذلته وربطة عنقه التي بلون الفوشيا، ويتوجه إلى سيارته فيقودها مصحوباً بصوت فيروز الذي يذرف على قلبه الندى.
إلى الندى يحنّ الكائن، المأهول بالسكون الفتّاك، بعدما شقّقت المعقمات كفّيه وقلبه، فيا لكَ من قهّار عديم الرأفة أيها الزمنُ الكوروني!