آخبار عاجل

الجزء الثاني .. حكايات شارع حسن المأمون لـ الدكتور محمد مصطفى الخياط

17 - 10 - 2020 1:58 472

ملخص ما سبق

 

عاش عبد الله الراوي حياته حبيس أوهام الشهرة والمال. نشر بعض كتابات ساذجة فتصور أنه كاتب كبير، ومع اقتراب موعد خروجه إلى المعاش وبحثه عما يشغل وقت فراغه، لم يجد سوى الكتابة، فقرر كتابة حكايات شارعه وما يجاوره من شوارع. حكي عن خيباته السابقة؛ عن رفض دور النشر طبع كتاباته ثم طباعتها على نفقته الخاصة لكنها لا تلقي رواجًا يذكر، فيكدسها تحت أسرة المنزل، وكأنها يدفنها معلنًا موتها. حكي عن طموحه فى العمل وكيف تفوق عليه من هم أصغر منه سنًا. حكي عن شجاره الدائم مع زوجته بسبب إنفاقه على كتبه فى وقت تحتاج فيه الأسرة للمال. كانت الكتابة، رغم عدم تحقيق نجاح يُذكر، هي ملاذه الآمن. نفس أكسجين يمنحه الأمل فى الغد. وها هو يروي حكايات شارع حسن المأمون.

الحكاية الأولي: شارعنا

 

تغط المحروسة في نوم عميق. تجاوزت الساعة الخامسة صباحًا بقليل. سكون وهدوء يقطعه من حين لآخر صوت سيارة مسرعة لا يصدق قائدها أن في القاهرة شوارع خالية، حتى وإن كان الوقت فجرًا. سعل الحاج خليفة عابرًا شارع حسن المأمون، ردد الصمت صدى ارتطام السلسلة بالبوابة. بسمل وحوقل، تمتم بدعاء دخول المسجد، سرت الإضاءة في أنحائه فاستحال قطعة من نور، وأرسل الميكرفون صوتًا مكتومًا مؤكدًا جاهزيته للاستخدام، تهيأ الحاج للآذان، ثم انطلقت حنجرته "الله أكبر".

في الجوار، واصل القس يوحنا تسبيحاته بعد انتهائه من صلاة نصف الليل مفضلاً المناجاة على النوم، سويعات وتبدأ صلاة باكر. ما زال الرهبان في قلاياتهم؛ منهم من أتعبه السهر، فنام جالسًا كي لا يطيل، ومنهم من يواصل المناجاة. لا ينقطع الرجاء ما استمر الدعاء.

في نهاية الشارع، يواصل عبده الفران إطعام فرنه عجينًا سهر الرجال في إعداده. كثيرًا ما يمر عليهم المصلون في طريق عودتهم. في العمارة المجاورة، أغلق رفاعي شنطة سفره، ألقى ما تبقى من كوب الشاي في حلقه، قبّل يد أبيه وأمه. شاغب شعر أخته، وخرج تسبقه دعواتهم أن يعود بالسلامة وأن تنتهي فترة خدمته العسكرية على خير، خلف شيش شباك أحد الغرف المطلة على الشارع، تعلقت عيون وسام بخطوته، وتوسلت لله أن يعود سالمًا.

قليلًا قليلًا تسري الحركة في الشارع، ابتسم إسكندر عندما تناهى إلى مسامعه صوت جارته من المطبخ تصرخ في أطفالها الغارقين في النوم كي يدركوا أتوبيس المدرسة. "كلنا في الهم سوا"، تمتم في نفسه، فلحظات وينطلق صوت زوجته، وكأنها تقاسيم تشترك فيها سيدات العمارة في تتابع متفق عليه.

في أول الشارع، توقف عم يحيى بالأتوبيس أمام الإشارة الحمراء. طال انتظاره، واستطال طابور السيارات خلفه، وارتفع ضجيج أبواقها، تأفف البيك في سيارته الفارهة، ابتسم إبراهيم بياع الفول على الناصية في خبث وأشار لعم يحيى أن الإشارة لا تعمل وأنها على هذا الوضع منذ أمس، همهم الرجل في نفسه ولعن إبراهيم الذي تركه واقفًا كل هذه المدة، وداس بنزين بكل قوة فانطلق العادم كثيفًا نحو إبراهيم وزبائنه، الذي قهقه عاليًا وارتفع صوته "الفول اللوز".

ألقى البيك التحية على الخادمة الآسيوية، اطمأن إلى لحاق ابنته بأتوبيس المدرسة الدولية، طلب إعداد الإفطار ريثما ينتهي من دش الصباح بعد عودته من النادي. جلس إلى المائدة قبالة الهانم، يفصل بينهما قطع الجبن الفرنسي والهولندي والإيطالي ممهورة بأختام أشهر الماركات. تناولت الهانم شريحتين لزوم الرجيم. زكمت غرفة الطعام نكهة قهوة فرنسية انتهت الماكينة من إعدادها للتو. من باب الشكوى وأنه لا راحة في هذه الدنيا، شكت الهانم لصديقاتها عدم قدرة أشهر خبازي المحروسة على صنع رغيف باجيت يشابه ما قدمه مسيو فرانسوا في أسبوع المطبخ الفرنسي بالفندق الشهير. شكاوى الهانم لا تعرف طوابير الخبز البلدي ولا الكارت الذكي ولا عبده الفران.

شيئًا فشيئًا انساب الناس في الشارع وضغط الزحام والضجيج على الجميع. بدأت مسابقات عبور الشارع وتفادي السيارات، خبرة تميز بها أهل المحروسة حتى مع تسجيلها أعلى معدلات حوادث الطرق. عبر الرجل المسن الشارع على مهل، توقفت إحدى السيارات. قفز الطلاب في الأتوبيسات، جروا خلف الميكروباص، تبادلوا النكات والتعليقات، تتدلى على وجناتهم أسلاك سماعات الأذن. أخذت ماكينة الحياة دورتها. تناهى صوت ريهام عبد الحكيم مرددًا "فيها حاجة حلوة".

 

********

 

الحكاية الثانية: أمي

 

"خلاص قربنا"، قالها أبي بلهجته الصعيدية الحازمة ناطقًا القاف جيمًا موجهًا حديثه لأمي الجالسة خلفه في السيارة المتجهة من القاهرة إلى بيتنا في ملوي بالمنيا. زرنا البيك قريب أمى وعمي في مصر، كما اعتدنا أن نقول كلما قصدنا القاهرة. أجلس إلى جوارها، خلف أخي الكبير الجالس إلى جوار أبى المهيب في جلبابه الفضفاض وأكمامه التي لا ينفك يشمرها بعصبية من حين لآخر.

همست أمي في أذنه عدة مرات، رد عليها بصوت منخفض وحازم فارتدت كسيرة لا تدري ما تفعل. تشاغلت ببعض الكلام معي وقد عقدت ذراعيها على بطنها. تضيق عينيها البنيتين مع دورات الألم ثم تنفرجان عندما يزول. مالت على أبي، نفخ ولعن بصوت خفيض متداخل، لعن يوم وافق على سفرها معه، ثم أردف مُعطشًا حرف الجيم (أجيب دورة ميه منين). استدارت أمي في جلستها، ركنت ظهرها إلى جدار السيارة، أفسَحتُ لها مكانًا لتفرد ساقيها، أشارت بكفها ألا أتحرك. اتكأت بمرفقها على الكرسي مسندة رأسها بكفها مغمضة عينيها، كانت تعاني مغصًا شديدًا.

صباح اليوم، وقبل مرور عمي فانوس بسيارته علينا، أعدت زوجة عمي الفطور، امتلأت المائدة بأصناف الطعام اللذيذ. إسكندرانية، جاءت مع أبيها الكاتب في سوق الجملة، تقدم عمى لخطبتها بعد ما رآها تتردد على أبيها. لم يكن حاله ميسورًا كما هو الآن ومع هذا قَبِله والدها. تزوجا وبشطارة عمي وصبرها عرفت حالهما شيئًا من سعة. رائحة الكبدة الإسكندراني تعبق البيت، أكلها شهي وأطباقها متنوعة. في يوم السفر لا تتحمل أمي رائحة الطعام. تقلب رائحته معدتها، فما بالك إذا أكلت. عزم عمي عليها فاعتذرت. أصر فأقسمت أنها لا تستطيع. جذبها أبي من ذراعها فجلست مُذعنة مولية وجهها بعيدًا عن المائدة. بخلاف أبي، لا يجبر عمي زوجته على شيء، قد يطلب منها شيئًا عند زيارتنا في العيد فتجيبه أو تعتذر فلا يُعيد عليها الطلب وكأنها، في الحالتين، أجابت رغبته.   

بيد كسولة تناولت أمي قطعة خبز، أبقتها في يدها، ناولتها زوجة عمي طبق الكبدة فأشاحت بوجهها وقالت متوسلة (سيبوني براحتي). ربَتَتْ على كتفها بحنان وراحت تعد بعض الساندوتشات ثم قالت: (قد تحتاجونها في السفر ... الطريق طويل)، ردت أمي بصوت واهن (يكفى كعك العروس)، ابتسمت زوجة عمي ونظرت نحو أخي وقالت: (عقبال ماهر وعبد الله)، لم ترد أمي، أحسست أنها في عالم غير العالم، عَقب أبى (ربنا يبارك ونشوفكم دايمًا في فرح).

شرخ صوت زمارة سيارة عم فانوس الجلسة فوقف أبي وهو يقول (يا للا .. الراجل مستني ومعاه ركاب). رُحت ألتهم قطع الكبدة بنهم، فلن أذوقها ثانية حتى نزور عمي مرة أخرى، ومن يدري متى تكون؟ يبيع سيد كبدة، هكذا يسميه أولاد شارعنا؛ بينما تسميه أمي سيد زبالة، الساندوتشات أمام المسجد الكبير، يخلطها بالبهارات والفلفل الحامي. يقول الأولاد أنه يبيع لحوم حيوانات ومع هذا يُقبلون عليه.

تحمل أمي همّ السفر من الوقت الذي يخبرها أبى بنيته. لم ترغب في صحبته لكن ما باليد حيلة، كيف لا تحضر زفاف ابنة عمي، عيب لا يمحوه الزمن. تكره أمي السفر وسيرته. تتعذب متى نوى أبي، حتى وإن سافر وحده. عذاب يسبق يوم الذهاب وعذاب في يوم الإياب، وبينهما عذابات البعد عن البيت. أمي نبت لا يُشتل، شجرة كافور تظلل ما حولها فإذا ما حاولوا نقلها ماتت إلى جوار مستقر جذورها.

خفف السائق من سرعته وانحرف يمينًا عن الطريق. قرأت بوضوح (رِست المنيا). اصطفت السيارة بين سيارات تعلوها كراتين وشكائر. يرتدي معظم الحضور الجلابيب، رجالًا ونساء. الأفندية قليلون، هكذا يطلق أبي على من يرتدون البنطلون والقميص. تقدمنا أبي نحو المطعم فيما انحرفت أمي يسارًا إلى دورة المياه، سرت خلفها، انتظرتها عند الباب. أخيرًا خرجت تمسح وجهها بكفها اللدن ويقطر وجهها ماءً بعد ما غسلته عَلّها تفيق قليلًا، أمسكت ضلفة الباب بيمناها وخطت العتبة، اتكأت علىَّ وسرنا ببطء نحو السيارة. (كلي لك لقمة يا أم ماهر)، جاءنا صوت عم فانوس من فوق السيارة يُحكم ربط الحبل على أمانات المسافرين، (ما فيش نفس يا أبو مينا .. بِدي أروح)، قالت أمي وانسلت إلى مقعدها هي تطلب منى أن ألحق بأبي كي لا يغضب.

صعدتُ سلم المطعم، تخطيتُ رجلًا ستينيًّا بشارب كثّ غير مشذب يدخن، وآخر يجلس القرفصاء قبالته. المطعم صاخب تغمره رائحة الأطعمة، زحام، رجال ونساء بجلابيب سوداء كتلك التي ترتديها أمي. كدتُ ارتطم بهم، لمحتُ أبي يجلس إلى طاولة وأمامه أكواب الشاي وبعض الطعام، لا يأكل أبي اللحم في المطاعم، يخشى الغش ولا يطمأن إلا إلى طبق فول أو شوربة عدس مع قطعة جبن، نَظَر في عينيي سائلًا بصمت عن أمي، فيما لاحت هي من بعيد عاصبة رأسها متكئة على ظهر الكرسي المقابل. أكمل أبي طعامه صامتًا ينظر حوله فيرى رجالا ونساءً متحلقين حول طاولات الطعام، تنهد وتمتم (ألسنا كغيرنا؟)، تجاهلت تعليقه، دس يده في فتحة جلبابه وأخرج صندوق دخانه من صديريته، فتحه بأناة، أخرج سيجارة وأشعل عود ثقاب وراح ينفث مستسلمًا، وبخطوات ثقيلة اتجه إلى السيارة جلس إلى جوار أمي، نظر إليها بحنان، سحب نفسًا عميقًا من سيجارته ثم ألقاها بالخارج منتظرًا معاودة الرحلة سيرها نحو قريتنا.

********

الحكاية الثالثة: أبي

لم يخلع أبي عمامته من رأسه ولا قرويته من لسانه، ولا أثر فيه تعلم أولاده تلك اللغات الأجنبية، ولا تلك الرطانة التي تختلف بها ألسنتهم في حديثهم، تكثر في كلامهم مع بعضهم البعض وتندر حين يكون أحد أبويهم طرفًا فيه. تغيرت عمامته كثيرًا فصارت أكثر بهاءً مما عهدناه في صبانا وأكثر قيمة. صار يشتري ما يراه مناسبًا لرجل عَلَّم أولاده أحسن ما يكون التعليم، وأدبهم أحسن ما يكون الأدب، يتباهى بهم في مجلسه بالقرية النائمة تحت سفح الجبل.

 

خلت ذقنه من ذلك الشعر الخشن المتداخل بياضه في سواده كغيمة محملة بنُذر مطر تغشى وجهه معظم أيام الأسبوع فلا تنقشع إلا صباح الجمعة استعدادًا للصلاة ثم لا تلبث أن تزحف قليلًا قليلًا بعدها، وهكذا دواليك على مدار الأيام والأسابيع، غيمة تنقشع يعقبها أخرى تتجمع. تغير وجهه فما عادت تغشاه تلك السحابة سوى يوم أو يومين، وقد فارق سوادها بياضها فصارت غمامة صيف، بلا مطر، قطن ناصع البياض لا يشوبه سواد.

 

 أيضًا، فارقته بعض أسنانه فأسفر صدغيه المتهدلين عن فراغات ملئت فكيه، لا يردهما إلى حالهما السابق إلا إذا ألقى فكيه الاصطناعيين داخل فمه، بعد أن يخرجهما من كوب الماء وينظفهما بفرشاته أحسن ما يكون التنظيف، لحظتها يرد الصدغان الضامران المتهدلان إلى سابق عهدهما ردًا جميلا فيصبغان وجهه بشيء من حُسن يُسلب كلما خلع فكيه الاصطناعيين.

 

كان الهدوء الذي لم نعهده فيه صغارًا أكثر ما شدني إلي أبي، ذلك أنه كان في شبابه سريع الغضب، يضيق خلقه ونفسه إذا كثر الجدال والصخب من حوله، أو جاءت درجات أحد أبنائه، وغالبًا ما أكون هذا الابن، دون مستوى توقعاته، أو نسيت أمي طقسًا من تلك التي اعتادها، بداية من كوب الشاي باللبن مع الإفطار وانتهاءً بفخارة الزبادي بعد العشاء، حينها، يُهدر صوته عاليًا طاغيًا فوق كل صوت كأنما يوم قيامة مصغر وإذا هو قائم ينفخ في الصور، حينها، تخفت الأصوات فلا تسمع إلا همسًا، وتنحني الجباه ريثما تمر العاصفة، وتمضغ الأفواه الكلام فلا يغادر الشفاه، ريثما يهدأ الإعصار. يلوح بقبضته في الهواء، قبضة استمدت سُمرتها من طين أرضه، وصلابتها من صخر الجبل القائم عند أطراف القرية.

 

راح كل هذا، ذهب، اختفى خلف سنوات العمر التي ابتلعها الزمن يوما إثر يوم. رأيت أمي الضعيفة الواهنة ترده ردًا جميلًا فلا يُعقب، وتسأله الرأي فلا يغادره هدوؤه ولا تتعكر سكينته، ولا يكف إصبعاه، السبابة والإبهام، عن دفع حبات مسبحته الخشبية، بينما ذراعه اليمنى ممتدة مستندة على ركبته طاويًا ساقه اليسرى أسفلها، ثم يتمتم (إللي تشوفيه)، فتعقب (الرأي رأيك)، ثم تمضي إلى ما عزمت هي عليه.

 

الرأي رأيك، هذا ما تبقى من رد فعل أمي تجاه أبي، لكن الزمان تغير، كانت تقولها بصوت كله خشية وقلق وقت ما يثور ويهدر ويرعد، لكنه الآن يجلس على الأرض، مُتكئًا بظهره إلى جدار الصالة موليًا ظهره لشعاع الشمس المنزلق من الشباك المطل على أرضه، يغمس بعضًا من قراقيش جافة في  كوب الشاي باللبن ثم يلوكها مفطرًا راضيًا حامدًا شاكرًا. أسدٌ عجوزٌ مسالم ألزمه الزمن الجلوس أمام عرشه والتطلع إلى زوجته تصرف أموره وتستشيره من باب الأدب، لكنه يعي تمامًا أنها صارت صاحبة الأمر والنهي وليس هو.

 

*********

اعتادت أمي دائمًا عقب فراغها من صلاة العشاء كل ليلة، تجهيز عجينها، تغطى الماجور بقطعة قماش نظيفة وتتركه يَخْمُر على مهل. في الصباح، وتحديدًا عقب فراغها من صلاة الفجر، تتجه إلى غرفة الخبيز، ترفع طرف الغطاء القماشي، تتمتم بحمد الله أن عجينها قد اختمر وآن أوان خَبْزه. تزيح غطاء الفرن، تغمس قطعة خشب في إناء الجاز القريب منه، تلقى بها مشتعله في جوفه، وعندما تطمئن أن النار قد أمسكت في الخشب تتركه وتذهب لإعداد صينية الشاي لأبي مع قُرصة عُجن دقيقها باللبن إلى جوارها قطعة جبن تسرب مِلحها في ماء النقع منذ ظهر اليوم السابق، حتى تصبح أقرب إلى قطعة زبادي أكثر تماسكًا  عادة صباحية يجرح بها أبي يومه، كما اعتاد أن يسميها، يتبلغ بها حتى يأتي موعد فطورنا معًا.

بانتهاء أبي من الشاي تحمل أمي الصينية لتلحق بأختي سعدية في غرفة الفرن لتساعدها في الخبيز، ولا تنسى أن تحمل لها كوب الشاي الغامق والمعسل بثلاث ملاعق سكر. لكم تمنيت أن يتسرب هذا السكر إلى حياة سعدية فيضفي عليها حلاوة تُنسينا مراراتها. عادة، يتزامن انتهاء أمي وسعدية من الخبيز بانتهاء أبي من أوراده الصباحية، التي تبدأ بقراءة القرآن يعقبها تسابيح لا يعلم عددها ولا محتواها إلا الله وأبي.

تعد أمي الفطور بينما توقظ سعدية باقي أفراد الدار، أخوان أصغر مني، وأخت ولدت بينهما. ارتبطت سعدية بأمي، حتى ظننتها أمي الثانية، تلقت قدرًا يسيرًا من التعليم والتصقت بأمها منذ صغرها، كأن حبلها السرى لم ينفصل بعد. بالتحديد، انفصل وقت تزوجت من مغاوري لعامين، ثم اتصل مرة أخرى بانفصالها عنه لعدم الخِلفة. مع الوقت صارت سعدية نسخة مصغرة لأمي، بمراقبتي لها، عرفت أمي في مراحل عمرها كله حتى قبل أن تنجبني.

لا أعرف مدى الصلة بين اسم أختي، سعدية، وحظها. ذات ليلة، سمعت أمي تندب وحدها حظ أختي، "عيني عليك يا سعدية، لم تصادفي فرحًا، وإن حدث فدائمًا هي مبتورة، تبدأ عند الظهيرة وترحل قبل الغروب". أرخى غروب أفراح سعدية على أمي ستارة كآبة انعكست في صباحاتها، في وجهها المطفأ على ترابيزة الطعام، في كثرة ترديدها لفظة الألم "إه"، ثقيلة، مُعكرة، متبلة بالخيبة وغياب الأمل، واليأس من يوم يمسح جراحاتنا ويصالحنا معتذرًا.

عدت بعد الظهر أتأبط خيبة رفضي في اختبار الوظيفة، حلم أبي وترياق أمي، قرأت أمي انكساري في عيني، بحلق جاف دعتني للغداء، ابتلعت غصتي وأخبرتها بحاجتي للنوم. استلقيت على سرير الأرق فاردًا ذراعيّ وساقيّ، كمن يحاول ملء الفراغ المحيط به. بدا جسدي ضئيلًا في فراغ الغرفة الواسعة، مماثلًا لحجم أحلامي في فضاء الواقع. هل تعمد أبي أن تكون حجرات بيتنا كبيرة حتى نشعر بضآلتنا؟! ربما لم يقصد، لكنه حدث.

مر بخيالي صور الزملاء والأصدقاء، من عمل في الخليج، ومن عمل في المحافظة مع أسراب النمل التي تتزاحم وتتقاتل على حبات سكرها المعدودة صباح مساء، ومن ركب البحر من رشيد إلى الشاطئ الآخر مغامرًا بحياته. وحدى بقيت، أعجن إحباطاتي بخميرة خيباتي في المساء، أغطيها بملاءة تعليم لا يسمن ولا يغني من جوع، كما تفعل أمي، أتركها تَخْمُر على مهل. استقبل الفجر بعينين متورمتين من أثر السهاد، ينتفخ عجين أمي إشارة لاكتمال اختماره، وأنا تنتفخ عيناي، تشتعل حمرة وأرقًا. عينان اعتادتا مشاهدة أحلامهما تتفلت منها واحدًا تلو الآخر، أنظر في السماء إلى أسراب خيباتي مع الطيور المهاجرة. تهاجر الطيور في الربيع نحو الشمال ثم تؤوب في الخريف من كل عام، بينما تهاجر انكساراتي صباح مساء في كل المواسم. ترتفع في السماء، داكنة اللون، أشبه بسحابة شتاء أثقلها حمل طالت فترته وغاب أوان ميلاد مطرها، تتدلى بطنها أمامها، تكافح حتى تمشى، تعقد ذراعيها حول بطنها المتدلي فترفعها وتمشى، فأتبعها منتظرًا قدوم الشتاء حتى ينزل المطر. 

وللحكايات بقية

 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved