نحن جيل من كانت هوايته جمع الطوابع والمراسلة، والرحلات، وعندما يقول الواحد منا إن هوايته القراءة والاطلاع نتصدى له بأن هذه ليست هواية، وإنما هو واجب حتمي عليك أن تسلكه فلكي تعيش لا بد أن تقرأ أو تطلع، كذلك نتصدى لمن يقول إن هوايته الرياضة، فهي أيضًا من أوجب الواجبات على المرء ولكي لا ينطبق عليك قول المهاتما غاندي «تركت الرياضة في شبابي، تركتني في شيخوختي». نعم كنا نقول نهوى ركوب البحر وصيد السمك وهذه كانت مشاعة ولا تكلف شيئًا بل إنها تدر ربحًا في الوقت وربحًا في البحث عن «الإيدام» للغذاء، وكان البحر معطاءً ويجود بما فيه من خيرات.
كانت الهوايات في زماننا عنوان نشاطنا وحبنا للمعرفة وحب الاستطلاع، فجمع الطوابع فيه ثقافة ناهيك عن أولئك الذين كانوا يعتبرونه سلعة للبيع والشراء، كما كانت هواية جمع الصور والمقتنيات التراثية، والكتب القديمة والمجلات، أما المراسلة فكانت غذاءً للفكر وتجويد الأسلوب، والتفنن في اختيار العبارات والمحسنات اللغوية فقد كنا نؤمن بأن المراسلة هي نصف المواجهة، ومن كان يكتب ومعروف في حوارينا بإجادته للرسائل كان أهل الحي يستعينون به في الكتابة إلى أهليهم وذويهم في الخارج، وأيامها كتبت لجيراننا إلى أهلهم في المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان ودولة الكويت وأبوظبي والشارقة وأم القيوين وعجمان ورأس الخيمة؛ لأن الهاتف لم يدخل بعد البيوت.. وكان ساعي البريد بمنزلة من يحمل البشارة إلى أهل الحي فيترقبون قدومه عله أن يأتي بالأخبار الطيبة، وكان عندما لا يهتدي إلى عنوان المرسل إليه الخطاب يأتي إلى دكان المرحوم إبراهيم بن أحمد النصار في قرية البديع الشمالي ويسلمه الرسائل، وكان دكان المرحوم إبراهيم بمنزلة الملتقى لأهل القرية وكان يرحمه الله ومثواه الجنة ورضوان النعيم يشعر بالارتياح؛ لأنه يقدم خدمة لأبناء قريته...
تغيرت الأحوال عندما دخل الهاتف إلى منازلنا وتلاشت شيئًا فشيئًا الخطابات إلى الأهل في الغربة، وإن كانت هواية المراسلة ظلت تلازمنا حتى عندما ذهبنا للدراسة في الخارج وإن تغيرت طبيعة المراسلات، فقد أخذ الحنين إلى الوطن والأهل حيزًا كبيرًا من اهتمامنا، إضافة إلى اكتسابنا معارف من الطلبة من جنسيات مختلفة، فكانت الرسائل بمنزلة نشرة إخبارية عن أحوالنا في الغربة وما نواجهه يوميًا.
اليوم تشعبت اهتمامات الناس مع التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت القروبات وشتى أنواع التقنية الاتصالية عنوانًا بارزًا لتواصل الناس بعضهم بعضًا وبشكل سريع ومتواصل لا انقطاع فيه ليلاً أو نهارًا، والحرص على اللغة واتقانها ومحسناتها البلاغية وعباراتها الجزلة لم تعد ذات بال، بل إن الأخطاء اللغوية والتراكيب اللفظية باتت شائعة وإن كانت هناك وسيلة فعالة للتدقيق في العبارات، ولكن الاستعجال هو سيد الموقف وهذا يؤدي إلى فقدان اللغة بريقها وجاذبيتها، وباتت الرموز هي السائدة في مراسلات القروبات المتعددة.
قد نجد عبارات جميلة ومقالات وتعابير جزلة أرسلها من لا يزال يعشق اللغة وما بها من عبارات ومعانٍ موحية ومشجعة ومحفزة، ولكن السبق الإخباري هو المقصود والمراد، وإن كان أصحاب الإعلام الرصين لا يعتدون كثيرًا بالأخبار المرسلة، وإنما يثقون بالأخبار التي تستند إلى وقائع ماثلة ومصادر موثوقة، وهذا لعمري غاية صعبة المنال في هذا الزمن المتسارع الخطي.
أصبح عندنا هواة في التواصل الاجتماعي لا يملون ولا يكلون ليلاً ونهارًا ونستغرب متى ينام هؤلاء ومتى يستيقظون، فقد تجد هاتفك ينوء بحمل هذه الرسائل المرسلة التي قطعًا لن تجد الوقت الكافي لقراءة كل شيء، إنها لغة العصر التي يجب أن نتعامل بها، بل هي ثقافة هذا الزمن التي فرضت نفسها علينا، ومن هنا، فالتحدي ماثل والقدرة على التكيف رهان كل واحد منا معنى بمواجهته والسير على خطاه.
قد نخطئ ولكننا نتعلم من أخطائنا، وعلينا أن نحذر فلا ننساق إلى ما يبعث فينا اليأس والقنوط ويقوض قيمنا ومبادئنا وما تعارفنا عليه، وقد يسيء إلى أوطاننا وشعبنا، فالحذر واجب والتدقيق في كل عبارة ومعنى ملزمون بالتأكد منهما وسبر أغوارهما وأبعادهما قبل أن نأخذ بها كأنها من المسلمات. علينا مسؤولية كبيرة في المحافظة على أوطاننا وقيمنا الثابتة وتطلعات شعوبنا للخير والأمن والأمان، والبناء والتنمية، فنحن مسؤولون عن جيلنا والأجيال التي تأتي بعدنا.