ملخص ما سبق
عاش عبد الله الراوي حياته حبيس أوهام الشهرة والمال. نشر بعض كتابات ساذجة فتصور أنه كاتب كبير، ومع اقتراب موعد خروجه إلى المعاش وبحثه عما يشغل وقت فراغه، لم يجد سوى الكتابة، فقرر كتابة حكايات شارعه وما يجاوره من شوارع. حكي عن خيباته السابقة؛ عن رفض دور النشر طبع كتاباته ثم طباعتها على نفقته الخاصة لكنها لا تلقي رواجًا يذكر، فيكدسها تحت أسرة المنزل، وكأنها يدفنها معلنًا موتها. حكي عن طموحه فى العمل وكيف تفوق عليه من هم أصغر منه سنًا. حكي عن شجاره الدائم مع زوجته بسبب إنفاقه على كتبه فى وقت تحتاج فيه الأسرة للمال. كانت الكتابة، رغم عدم تحقيق نجاح يُذكر، هي ملاذه الآمن. نفس أكسجين يمنحه الأمل فى الغد.
حكي عبد الله عن الشارع الذي يقطن فيه ولا يختلف عن غيره من الشوارع، ببصمته المصرية العريقة، المسجد والكنيسة، عربة الفول على الناصية، السيارات الفارهة وسيارات النقل الجماعي، وتفاوت مستويات سكانه. حكي عن أمه التي تكره السفر وتحمل همه من ساعة يخبرها زوجها به، عن أبيه الحاد الملامح الأقرب إلى طبيعة الجبل النائم عند أطراف القرية، ومع هذا يحمل في قلبه حنان وعطف يسبغهما على أسرته.
الحكاية الرابعة: جبنة البيك
كانت الساعة تقترب من الثامنة مساءً عندما تناهى إلى سمعي صوت أمي فرحًا وجِلًا مرحبة بالبيك عبر سماعة التليفون، ثم دعتني لمحادثته، تناولت السماعة من يدها المرتعشة ورحبت به. جاءني صوته هادئا مطمئنًا، سأل عن أحوالي ثم طلب منى زيارته صباح الغد، هززت رأسي وأجبته بالموافقة.
البيك من أقارب أمي، ورغم أنه يصغرها بعدة سنوات فإنه في منزلة خالها، لم أعرفه إلا بلقب البيك، تمامًا كما يناديه جميع أفراد الأسرة، وأهل قريتي الحنونة. في صغري لم أفهم سببًا لهذا اللقب حتى ظننته وظيفة مثلها مثل وظيفة الأستاذ محمد مدرس التاريخ في المدرسة الابتدائية والذي نناديه في قريتنا بالأستاذ، والدكتور حامد الذي نطلق عليه لقب الدكتور.
جذبتني عيون أمي الملتاعة وهي تسألني "هل ستسافر إليه؟..." ..أومأت بالإيجاب وأنا أتجه إلى غرفتي التي يقاسمني إياها أخي الأكبر، أخرجت أوراقي التي لم تزد -في حينها- عن شهادتي التخرج والميلاد وبعض الصور الشخصية، مَثَل سفري المفاجئ لأمي أسى ولوعة، فهي التي تكره السفر ولم تخرج من قريتنا إلا مرات معدودة إلى المدينة القريبة، ورغم أن الرحلة لم تزد عن ساعة ونصف الساعة فإنها ترويها من حين لآخر كمثال لمشقة السفر وعذابه الذي لا يطاق ولوعته التي لا تُداوى ... اعتاد أقاربنا الابتسام كلما ذكرت أمي ما تصورته من ويلات جراء هذه الرحلات المعدودة ... بالمثل لم تعتد أمي غيابنا عن المنزل .. سمح قرب قريتنا من المدينة أن نلتحق، أنا وإخوتي، بالجامعة دون حاجة إلى الإقامة الكاملة بالمدينة .. نرحل إلى الجامعة صباح كل يوم ونعود مع المساء إلى أحضان أمي ودفئها...
ارتبط سفري للبيك بإعلان قرأه عن فتح باب التقدم لوظيفة "مهندس في هيئة المساحة" ... سافرت قُبيل الفجر لأصل القاهرة مع تباشير الصباح، ركبت الأتوبيس من محطة رمسيس إلى حيث الحي الراقي الذي يقيم فيه، كانت الساعة تقترب من السابعة صباحًا عندما طرقت باب شقته في خجل، تتلاحق أنفاسي من صعود السلم بعد ما آثرته على المصعد الكهربائي .. انفرج الباب عن وجه البيك باشًا مبتسمًا يحتويه (روب دي شامبر) من الصوف الفاخر ذي لون بنيٍّ داكن أضفى عليه مهابة وجلالًا، رحب بي ودعاني للجلوس .. وسألني عن أخوتي وصحة أمي .. ثم استفسر– مبتسما- عن حال أمي ساعة سفري .. بادلته الابتسام وأخبرته أننا نحاول أن نهدئ من روعها كلما اضطررنا للسفر !! ...
جلسنا في حجرة الاستقبال التي تقترب مساحتها من مساحة بيتنا الصغير عندما أقبلت زوجة البيك مرحبة في إسدال صلاة يلف جسمها الأربعيني يطل منه وجه تعرف فيه نضرة النعيم ... دعتنا لتناول الإفطار في حجرة المعيشة ... فجمعت أوراقي وتبعت البيك وهو ينحرف يسارًا مارًّا بغرف المنزل وانتهاءً بغرفة المعيشة، جلسنا حول المائدة .. البيك وابنه الأكبر وأنا ... كانت المائدة عامرة بأصناف الطعام تفوح من أحد أطباقها رائحة البيض المقلي بالبسطرمة ..
أخذت آكل على مهل واستحياء بينما كانت عيون البيك تبحث عن شيء بين صنوف الطعام، ثم قطع حيرته رافعًا صوته– حتى تستطيع زوجته التي تعد الشاي بالمطبخ سماعه- "فين الجبنة بتاعتي؟ .."، قالها في عفوية وفي لهجة تقترب من لهجة البسطاء في قريتنا .. أهلت علينا زوجة البيك وفي يدها طبق صغير به قطعتا جبن متوسطتا الحجم شديدتا البياض، وضعته أمامه وهى تقول "ها هي ..." ..
كان البيك يأكل من طبق الجبن في هدوء ولا يمد يده إلى غيره من الأطباق، مع أنه دعاني لتذوق العديد من الأطباق بما يدل على أنه خَبِرَ طعمها ... وما أن انتهى من نصف الرغيف حتى غمس لقمة في طبق عسل نحل يجاور طبق فول بالزبدة، أتبعها بحمد وشكر واستأذن داعيًا إياي إلى تناول فطوري على مهل، ورغم حديثي مع ابنه الأكبر عن أحوال بلدتنا فإنني كنت مشغولًا بجبنة البيك، ترى أي نوع هي؟ .. وما سعرها؟ .. وهل كان من اللائق أن آكل منها؟ .. ولماذا لم يطلب مني ذلك؟ ..
كانت الأسئلة تطن في أذني بحثًا عن إجابة أثناء ذهابي لهيئة المساحة لسحب الملف ... وحتى عودتي لأمي عصر ذلك اليوم .. حدثتها عن طبق الجبن .. وأحسست بحزن أمي على عدم تذوقي جبنة البيك .. وربما كان حزنها بعدم أكلي للجبن أكبر من فرحها بمساعدة البيك لي ...
مرت الأيام ثقيلة رتيبة لم يرن فيها تليفون منزلنا إلا قليلًا .. انتظرنا في كل مرة سماع صوت البيك ... ثم أذن الله أن يأتيني صوته فرحًا هادئا واثقًا .. "صباح الخير يا باشمهندس..." أخذتني العبارة فجمدت وتعطلت لغة الكلام لدي .. وكادت أمي أن تقع من فرط المفاجأة ... وكدت أنا أطير ...
استلمت خطاب التعيين ... وصار عليّ أن أسافر إلى القاهرة لاستلام عملي والبحث عن سكن، وحتى أتدبر شؤوني استضافني البيك معه حتى أجد السكن المناسب .. امتدت إقامتي لديه عدة أسابيع شاركت فيها ابنه الأكبر غرفته، بينما تضم الغرفتان الأخريان ابنه الأوسط وطفلته الصغرى، كنا خلال هذه الفترة نتناول فطورنا سويًا ثم يصحبني البيك إلى مقر عملي في سيارته، بينما أعود بمعرفتي نظرًا لاختلاف مواعيد عودتنا .. يتناول كل منا غداءه متى عاد ويجمعنا العشاء الذي لم يكن البيك يزيد فيه عن تناول كوب زبادي منزوع الدسم ..
لم تتغير عادات البيك في فطوره.. يأكل من طبق الجبن الخاص به ثم ينهي إفطاره بغمسه من طبق العسل يتبعها بحمد وشكر .. خلال إقامتي عرفت أنه نزل القاهرة منذ أكثر من ثلاثين عامًا يبحث عن غرفة فوق السطوح تتناسب مع عمله البسيط ودخله المتدني .. وكيف درس حتى حصل على الليسانس بتقدير ألحقه بعمل مرموق .. مع تغير العمل والراتب تغير السكن .. حكى هذه التفاصيل وغيرها دونما خجل وفي تواضع .. وحدثني أيضًا عن مرضه الذي يفرض عليه تناول أنواع محددة من الطعام يتسيدها طبق "الجبن القريش" .. ومن يومها وأنا أدعو الجبن القريش "جبنة البيك" ... حتى أولادي كبروا وشبوا وهم يقولون "جبنة البيك" ... فأتمتم في نصف ابتسامة "... يرحمه الله...!!".
الحكاية الخامسة: أم إيلان
في الشتاء، ونظرًا لقِصر النهار، لا أدرك صلاة العصر في المسجد القائم خلف عمارتنا والذي أنشأه المرحوم الدكتور عادل لطفي أوائل الثمانينات، سلمه الحى قطعة الأرض وبنى هو المسجد، الدكتور لطفي أحد رواد طب الأطفال في مصر، وهو عم المرحوم حسين محمد لطفي مبتكر لعبة كرة السرعة في الستينات. لكنني عادة أصلي في المسجد متى سمح الوقت.
في ذلك اليوم، تزامن أذان العصر مع نزولي من أتوبيس العمل، همهمت في نفسى "بدأ النهار يطول"، أحب النهار الطويل وأنتظر فصل الصيف في شغف، بدلًا من توجهي إلى البيت قصدت المسجد فرأيت عينين لوزيتين وحاجبين كثيفين زادا العينين ألقًا على ألق، وطرحة سوداء تحتضن الوجه الصبوح المتألق جمالًا وبهاءً، ورداء سوريًّا يلف جسدًا يعرف حدوده، فلا الخط المستقيم مال، ولا المنحنى استقام فتآلفا وحددا إطار هذه السيدة البارعة الجمال.
رأيتها للمرة الأولى على يسار الداخل من باب المسجد، جالسة إلى جوار ابنتها وأمامهما بعض أطباق الحلوى، وجهها بلون المشمش الحموي، مُشرب بحمرة ويغشاه نمش، ونعومة تفاح لم يغادر فرع شجرته فما زال يُسقى بماء معين، حين تبدأ صلاة الجماعة تترك ابنتها وتدخل إلى جناح السيدات للصلاة، فإذا ما انتهت الصلاة عادت إلى جلستها، تنادى بصوت لا مرتفع ولا منخفض تغشاه لكنة سورية لطيفة "حلويات سورية"، يشتري منها من يشتري، وينقدها البعض بضعة جنيهات على سبيل الصدقة دون شراء، تبدو في جلستها محرجة أو مرتبكة، فلا تنفك تعيد رص أطباق الحلوى، أو تعيد بالسبابة خصلة شعر ذهبي متمردة تأبي الحجاب ولا تنفك تتحسس خيوط الشمس نهارًا وشعاع القمر مساءً، وفيما هي تزجر خصلتها تضيق عينها اليسرى قليلًا وينكمش أنفها لأعلى في حركة لا إرادية.
هي واحدة من أولئك المهاجرين الذين نزلوا مدينتنا بعد اضطراب بلادهم وأحوالهم فجاءوا يلتمسون أمنًا من خوف وطعامًا من جوع، العراقيون بعد سقوط بغداد 2003 وانتشار الفوضى والصراعات الدينية والعرقية، الليبيون بعد فبراير 2011 وتحول ليبيا إلى قاعدة لداعش يسيطر عليها الإرهاب ويصدره للخارج، السوريون بعد مارس من نفس العام وتفتت سوريا والصراع بين السلطة والجماعات المسلحة وادعاء كل منهم أنه على صواب، يمنيون بعد ثورتهم ضد على عبد الله صالح وظهور الصراع السني الشيعي، فلسطينيون جاءوا وعاشوا، وما زالت المحروسة قادرة على الاحتضان والهضم. في الخارج، يعيش المهاجرون في مخيمات، وفي المحروسة يختلطون بأبناء البلد، يصبحون جزءًا من نسيجها.
أحيانًا أنتظر في المسجد بين المغرب والعشاء، قليلًا لقراءة القرآن وكثيرًا لتبادل الأحاديث مع بعض الجيران ورواد المسجد حيث يُعد إمام المسجد الشاي بالنعناع، فيما يُحضر بعضنا شيئًا من الحلويات، في أحد هذه الجلسات جاء ذكر السيدة السورية فعقب الشيخ، "إن ما تحصله من عملها في بيع الحلويات لا يعود عليها بما يكفيها. سيدة مسكينة، قُتل زوجها في غارة. فأخذت أولادها وهاجرت إلى مصر. أخواتها هنا أيضًا، لكن حالهم لا تسمح بالمساعدة". فبادره أحد الحضور، "هل هي الأولى بالمساعدة أم أسرة مصرية يا شيخ"، هز الرجل رأسه ونظر بعيدًا وقال، "المهم أن تساعد، القرار لك". عقب الأستاذ وجدى قائلًا "رواد المسجد قليلون، وبالتالي فمبيعاتها قليلة، سوف أُكلم لها سيد الأوانطة سايس السيارات أمام النادي الأهلي ليوفر لها مكانًا أمام النادي، هناك الفرصة كبيرة ورواد النادي كثيرون ويدفعون بسخاء".
ما إن نطق الأستاذ وجدى باسم "سيد الأوانطة" حتى انفجرنا في ضحك، ليس من الاقتراح ولكن من اسم الرجل، والذي رغم سنواته الطويلة من العمل أمام النادي وتركه النصب على خلق الله، ما زال اللقب يلازمه، وضحك آخرون لجهلهم بسيد، فيما ابتسم قسم ثالث مستنكرين سطوة أمثال سيد على شوارع المحروسة وتحصيل خمسة جنيهات من كل سيارة، عدا ذلك تسمع شريطًا يحفظه كل صبيانه، "يا باشا براحتك، تدفع أو ما تدفعش، تدفع أحط عربيتك في عينيا، غير كده ما تسألنيش إذا حصل لها حاجة، كاوتش نام، قزاز مكسور، خدش بمسمار"، فتدفع صاغرًا بعد ما سمعت التهديد المبطن لمن لا يدفع المعلوم.
لم يلتفت وجدي كعادته للتعليقات أو يدخل في نقاش لا طائل منه، بل على العكس أخرج تليفونه واتصل بسيد سمعنا بعدها كلمات من قبيل، آه، أيوه، تمام، كلك ذوق، تقدر تيجي من الصبح؟. بعد انتهاء المكالمة خرج الأستاذ وجدي والشيخ إلى حيث تجلس السيدة أم إيلان، وكانت هذه المرة الأولى التي أعرف فيها اسمها، وحدثاها فتناهى إلى أسماعنا دعوات الشكر والتقدير، ليس هذا فحسب؛ بل ذكرت لهما أنها لن تنتظر للصباح، بل ستمضي إلى سيد الأوانطة بعد انصراف المصلين من صلاة العشاء.
"واضح أنها حريصة على العمل، ما عندهاش وقت تضيعه، لو دي مصرية كانت قالت إن شاء الله من يوم السبت الجاي" هكذا عقب الشيخ على ما حدث وضحك فضحك الحضور، فيما شعرت بأسى من الغياب المنتظر للسيدة، وحرصت على شراء طبق حلويات، وعقدت العزم على الذهاب للنادي ثلاث مرات أسبوعيًا، بدلًا من مرة واحدة في الشهر.
وللحكايات بقية