تعقيبًا على مقاليّْ (الخيال العربي) المنشورين بذات الزاوية منذ أسابيع قليلة كتب أحد الأصدقاء (إن كنا لم ننس حتى الآن حكايات ألف ليلة وليلة، فإننا لم ننس أيضًا الأغنية التى تحمل الاسم ذاته، رغم مضي أكثر من نصف قرن عليها). يا له من توارد يا سيدي، مضى على الأغنية زمن طويل وما زالت نجمة الليالي الفريدة. عاشت قصص ألف ليلة وليلة في خيالنا بنهاياتها السعيدة؛ وحفرت الأغنية مكانها في ذاكرتنا بكلماتها ولحنها وعَذبِ شدوها؛ (قول الحب نعمة مش خطية.. الله محبة. الخير محبة. النور محبة)، ثلة مبدعين: مرسي جميل عزيز مؤلفًا، بليغ حمدي مُلحنًا، وأم كلثوم طربًا، فما تنتظر بعد!!.
ربما لا يعرف جيل هذا الزمان أن بعض ما يرددونه من أقوال مأثورة ليست سوي أبيات للشاعر الفذ مرسي جميل، (انت وبس اللـي حبيبـي)، من أغنية أنا قلبي إليك ميال. (وعايزنا نرجع زي زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان)، من أغنية فات الميعاد، وفيها أيضًا (وهات لي قلب لا داب ولا حب). (أهل الحب صحيح مساكين) من أغنية سيرة الحب.
تتزاحم على الذاكرة أغاني مرسي جميل؛ يما القمر على الباب، كل كلمة حب حلوة قلتها لي، فى يوم فى شهر فى سنة، أما براوة، على عِش الحب، رمش عينه، شباكنا ستايره حرير، بيت العز، من غير ليه، شيء من بعيد، أبو عيون جريئة، ومئات الأغاني الأخرى الحاضرة بجمال كلماتها وعذب أدائها وألحانها.
الضلع الثاني في مثلث نجاح أغنية ألف ليلة وليلة كان بليغ حمدي الذي وصفه المبتهل الشيخ النقشبندي: (بليغ ده عفريت من الجن) بعد ما لحن له ابتهال (رب إني ببابك). كان بليغ قد أتقن عزف العود في سن التاسعة ولحن لأم كلثوم وهو دون الثلاثين من عمره فبهرها. طلبت من الفنان محمد فوزي أن يلحن لها فقدم -رغم مكانته الفنية الكبيرة- بليغ على نفسه، كان يري فيه شخصية جديدة أكثر تطورًا.
صعب أن نتحدث عن أم كلثوم؛ الست ثومة، سيدة الغناء العربي، شمس الأصيل، كوكب الشرق. تنوعت أغانيها؛ فصحى وعامية، مؤلفين مصريين وعرب وقصائد فارسية وباكستانية صوفية مترجمة، تميزت بقدرتها على توصيل معاني أغانيها إلى رجل الشارع، لم يكن غريبًا على أذنه أن تشدو (أمسيت فى الماضي أعيش كأنما/ قطع الزمان طريق أمسي عن غدي)، للفيلسوف الباكستاني محمد إقبال، أو (إن تُفصل القطرة من بحرها ففى مداهُ منتهى أمرها)، للشاعر الفارسي عمر الخيام، أو (وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى)، للشاعر السوداني الهادي آدم، أو (تعذب في لهيب الشك روحي/ وتشقي بالظنون وبالتمني) للأمير عبد الله الفيصل.
من صنع هذه التحفة الفنية، من صاغ كهرمان مسبحة مفرداتها ولضمها في خيط نور موسيقاها وأجراها على فم (عذب المناداة رقيق)، لتتحول إلى قوة ناعمة للثقافة المصرية تأسر قلوب الناطقين بالعربية وعشاق النغم. الثلاثة بلا شك؛ مرسي وبليغ والست سكب كل منهم خالص مصهور فنه في تنور الإبداع فخرجت سبيكة فريدة تتوارثها الأجيال.
أنصت سيدي القارئ وتأمل هذا المقطع بقلبك ثم عَقِّبْ (يا رب تفضل حلاوة سلام أول لقا في ايدينا.. وفرح أول ميعاد منقاد شموع حوالينا.. ويفوت علينا الزمان يفرش أمانه علينا. يا رب.. لا عمر كاس الفراق المر يسقينا.. ولا يعرف الحزن مطرحنا ولا يجينا.. وغير شموع الفرح ما تشوف ليالينا). آمين.