آخبار عاجل

الجزء الرابع.. حكايات شارع حسن المأمون لـ الدكتور محمد مصطفى الخياط

31 - 10 - 2020 1:04 415

عاش عبد الله الراوي حياته حبيس أوهام الشهرة والمال. نشر بعض كتابات ساذجة فتصور أنه كاتب كبير، ومع اقتراب موعد خروجه إلى المعاش وبحثه عما يشغل وقت فراغه، لم يجد سوى الكتابة، فقرر كتابة حكايات شارعه وما يجاوره من شوارع. حكي عن خيباته السابقة؛ عن رفض دور النشر طبع كتاباته ثم طباعتها على نفقته الخاصة لكنها لا تلقي رواجًا يذكر، فيكدسها تحت أسرة المنزل، وكأنها يدفنها معلنًا موتها. حكي عن طموحه فى العمل وكيف تفوق عليه من هم أصغر منه سنًا. حكي عن شجاره الدائم مع زوجته بسبب إنفاقه على كتبه فى وقت تحتاج فيه الأسرة للمال. كانت الكتابة، رغم عدم تحقيق نجاح يُذكر، هي ملاذه الآمن. نفس أكسجين يمنحه الأمل فى الغد.
حكي عبد الله عن الشارع الذي يقطن فيه ولا يختلف عن غيره من الشوارع، ببصمته المصرية العريقة، المسجد والكنيسة، عربة الفول على الناصية، السيارات الفارهة وسيارات النقل الجماعي، وتفاوت مستويات سكانه. حكي عن أمه التي تكره السفر وتحمل همه من ساعة يخبرها زوجها به، عن أبيه الحاد الملامح الأقرب إلى طبيعة الجبل النائم عند أطراف القرية، ومع هذا يحمل في قلبه حنان وعطف يسبغهما على أسرته. وها هو يحكي اليوم عن فرج الجنايني العامل في البلدية، وعن عمارته وسكانها.


الحكاية السادسة: فــرج

تسلمت عملي الحالي منذ أكثر من عشرين عامًا. توسط لي البيك الكبير لدى المحافظة. تركت قريتى فى الدلتا وعُينت عاملًا زراعيًّا بهيئة تجميل القاهرة، مثلي مثل كثيرين من ملايين النمل الذي يمشي على أرض المحروسة ولا يلتفت إليه أحد، أقمت في كشك- تملكه الهيئة- مع زملاء لي، وضعت ملابسي البسيطة على رف في أسفل الدولاب، بينما الرفان الأوسط والعلوى، من نصيب الريس حسن أقدمنا، وعم سعيد. 
يطل الكشك على شارع حسن المأمون بمدينة نصر، في الصباح نخرج سويًا، يقسم الريس حسن العمل بيننا، يتوزع عملنا على العناية بالجزيرة الخضراء الفاصلة بين نهري الطريق، يصب أحدهما على شارع مصطفى النحاس، والآخر على طريق النصر/الأوتوستراد، حيث يحتل ناصيته النادي الأهلي، الذي أتابع لاعبيه منذ كنت في البلد. عندما تسلمت عملي وعرفت أنني على مقربة منه، داومت على مراقبة بوابته الحمراء الكبيرة أثناء ورديتي أو الوقوف أمامها بعد انتهاء فترة عملي، أترقب رؤية أحد اللاعبين، أمضيت على هذا الحال عدة أسابيع، أحيانًا أظن أنني رأيت أحدهم، فأعود منتشيًا جزلًا، وأحيانًا أخرى أعود خائبًا. أثار تكرار خروجي بعد الوردية يوميًا فضول الريس حسن، فسألني، وعندما أخبرته بحالي انتابته وعم سعيد نوبة ضحك، نظرت نحوهما في غيظ مكتوم دفع الريس حسن إلى قطع ضحكته وإخباري أن هذا فرع للنادي، لكن اللاعبين الذين يظهرون في التليفزيون ونرى صورهم في الجرائد، فنقطعها ونعلقها على جدران الكشك إلى جانب صور الممثلين وآية الكرسي وصورة الكعبة فيتدربون في النادي الرئيسي بالجزيرة، وعرفت منه أنه يبعد عن هذا الفرع حوالى ساعة بالأتوبيس الذي يخوض في زحام القاهرة بصعوبة.
سنوات طويلة قضيتها في عملي أتابع حركة السيارات والناس والعمارات، سكان من كل شكل ولون، كثيرًا ما سحرتني نساء القاهرة، لهن شكل مختلف عن نساء قريتنا، دعاني لحسد أزواجهن. في قريتنا النساء مختلفات، فيهن الجميلات، لكن نساء القاهرة أجمل وأزياؤهن أكثر بهاءً، يَقُدن السيارات بجرأة، ولديهن حضور طاغ.
شاهدت تطور الشارع وتوسعته أكثر من مرة، حفر ورصف، ثم حفر، مرة مواسير مجارى، وأخرى كابلات كهرباء، ثم تليفونات، وبعد ذلك تغيير كابلات الكهرباء بأخرى أكبر، يخبرني بذلك العمال الذين يحفرون ويفردون بكر الكابلات الكبير، صادقت بعضًا منهم، علاقات تبدأ مع العمل وتنتهي بانتقالهم إلى موقع جديد، نتجمع في المساء حول راكية النار، نشرب الشاي المغلي المعسل، لا تقل عدد ملاعق السكر عن ثلاثة، لا يذهب طعمه من فمي، كثيرًا ما أحضرت لهم بواكي الشاي التي يبيعها عم مصطفى البقال، جربوها مرة ولم يعجبهم حتى بعد أن ضاعفوا تلقيمة الشاي، شايهم حبر أسود وشايي أحمر اللون.
في هذه المرة طالت توسعة الشارع الجزيرة، بخلاف الرصيف أكل اللودر مترًا ونصفًا من كل جانب، تآكلت مملكتي وبدا الشارع مشوهًا، وبدت أشجاري حزينة على جذورها التي أكل اللودر امتداداتها وما حولها من حشائش. زعقت في المعلم خضر، ريس عمال الحفر، أحسست بمُلكي يسلب أمام عيني، خفت على جزيرتي التي أرعاها منذ عشرين عامًا ولا أتركها إلا نصف نهار الخميس ويوم الجمعة لزيارة الأولاد في البلد والعودة صباح السبت قبل الساعة التاسعة حتى لا يغضب الريس حسن، الذي قد يتسبب تأخيري في سماعه كلمتين من المهندس المشرف على عملنا، وريسنا الكبير.
حزنت كثيرًا على ما أكله اللودر من جزيرتي، أخذوا أرضى التي لم أشترها، أرضاني المعلم خضر وطيب خاطري، وأخبرني أنها تعليمات وشغل، وإن شاء الله ترجع الجزيرة أحسن من الأول، لأني أهتم بزرعي. قلبه كبير المعلم خضر مقاول توريد عمال رصف الطريق، في ذلك اليوم أكد عَلىَّ أن أحضر في المساء، فحضرت. يدور كلام العمال البسطاء حول ما تم من أعمال، ودور كل منهم، وما خصمه المهندس من راتب بعضهم، كثير منهم يكرهه لشدته في محاسبتهم، عقب الريس خضر، أكثر من مرة، على كلامهم بأنهم صنف ملعون، لا ينفع معه إلا الشدة، وإلا فلن يتم أي عمل.
في صباح أحد الأيام وبينما أروي زرعي في الجزيرة التي أكل اللودر خدودها من الجانبين، رأيتها تقف قبالة الجزيرة، حورية في فستان سماوي اللون، بدت مثل غيمة تسبح في السماء، جسد بض لا شبيه له، يتألق وجهها بالنور، ويؤطر عينيها كحل هاشمي لا يشبه ما يحضره الحجاج والمعتمرين من مكة والمدينة ويوزعونه على نساء قريتنا. وقفت قبالتي، نادتني، فَرَدَت ذراعها الأيمن، مثل شراع مركب يلاعبه النسيم، فردت يدها، طَلَبَت أن أجذبها حتى تصعد الجزيرة فتعبر للناحية الأخرى حيث سيارتها، تسببت الحجارة والتراب المتراكمين على جانبي جزيرتي في صعوبة عبورها دون مساعدة، وكنت أنا الموعود على غير موعد. مدت يدًا من نور، رطبة، ندية، لينة، دقَ عظمها فتلاشى. مددت يدًا مشققة، سمراء، خشنة فسحبتها بسرعة مخافة أن تؤذيها أو تجرحها، لأول مرة اكتشف قساوة يدي وخشونة بشرتي، لأول مرة أخجل من جسمي.
ابتَسَمت، وشجعتني عيناها، فمددت يدى على استحياء، قَبَضت على يدي فسرى في جسدي نار ونور، استوت على الجزيرة فشكرتني ومضت، بينما بقيت أنا لفترة مشدوها وغائبًا عما حولي. نَقلت عينيّ طويلًا بين كفي الأيمن والفراغ حيث مضت، غبت عن صخب الشارع وضجيجه، غمرتني موسيقى لا أدرى مصدرها، لم أسمع صياح العمال عَلىّْ، ولا المعلم خضر الذي ألقى السلام ولم أنتبه.
في ذلك المساء، جلست بين العمال جسدًا بلا روح، تسبب شرودي في غمزهم ولمزهم بأنني أفكر في الأولاد الذين سأسافر لهم صباح الغد، انتبهت إلى أن اليوم هو الأربعاء، وأن موعد سفري الأسبوعي للأولاد يحين ظهر الغد. سألت العمال عن موعد رصف الطريق وتسوية الجزيرة ومد الرصيف، بعضهم قال غدًا، وبعضهم قال يومنا بسنة. شخط فيهم الريس خضر وقال لي "ما تقلقش .. إن شاء الله نخلص في الموعد، وترجع لك الجزيرة أحسن من الأول"، ثم أردف "غدًا نبدأ دك الأرضية وبعدها بأيام ننتهي من الرصف وتملك أحلى جزيرة". ظللت ساهمًا شاردًا، أسمع ولا أرد، بدا على وجهي الانشغال، حتى إنني مضيت في طريقي دون أن أشكر الريس خضر. 
جلست في الكشك شاردًا، على غير العادة لم أجهز شنطة سفري التي لا تزيد عن بعض أكياس سكر وأرز وبواكي شاي، وأحيانا باكو شيكولاته أشتريه ببعض المال الذي ينفحنا إياه سكان العمارات المجاورة من الكشك على الناصية، أويت إلى فراشي، لم أنم جيدًا في هذه الليلة، من وقت لآخر أُخرج يدي اليمنى في الظلام وأتطلع إليها، يدى التي سرت فيها نار الهانم وسحرها.
شغلتني الأسئلة، ما الذي كان سيحدث إذا لم تفارق كفها كفي؟، هل ستعود في الغد؟، هل تسكن في العمارة قبالة جزيرتي؟، لم أرها من قبل، تُرى من أين جاءت؟. استيقظت على صوت الحاج خليفة يؤذن للفجر، حضرت الصلاة مع زميلي وعدنا للكشك يؤنسنا صوت أقدامنا في سكون الفجر، وبينما كان الريس حسن يجهز شنطته سألني، ألن تُجهز شنطتك، أخبرته أنني سأرتبها فيما بعد، خرجت مبكرًا قبل موعد دوامي، اتجهت إلى ذات الموضع، وضعت مزيدًا من الحجارة والتراب، وجلست أنتظر قدومها، بينما تتلهف يدى المغسولة بالماء والصابون المعطر لعناق كفها.


الدكتور عقل
تبادل بعض السكان إدارة عمارتنا، حالت قلة خبرة وانشغال بعضهم باستقرار الأحوال. نصح البعض بإحضار بواب، أخلينا له غرفتين على السطوح. بدا خجله كثيفًا في أيامه الأولى، ثم انحسر مع الوقت. بدلًا من النظر في الأرض عند مرورنا به أو حديثنا معه، ارتفعت عيناه شيئًا فشيئا، تعلم كيف يصبح الانتظار مصدرًا للبقشيش؟ ثم تعلم كيف يبرطم طلبًا للزيادة. 
مع الوقت، تأقلم السكان مع البواب ولم يتأقلم البواب مع السكان، كل يوم هو في شأن. وضع أمام العمارة قفصًا لبيع العيش، ثم أضاف إليه قفصي فاكهة، زاد عدد الأقفاص حتى صارت كُشكًا صغيرًا يشوه المكان ويفرض طقوسه وعاداته على الشارع والمحيطين به، وعندما بلغ ابنه الخامسة عشرة ترك له إدارة الكُشك وانهمك هو في السمسرة. وزع باقي أولاده على المحلات المجاورة، علا صوته بعض الشيء، ثم كثيرًا. بينما لا يفارق يمينه الموبايلين الماركة وعلبة السجائر المستوردة. امتلأ جدول زوجته الأسبوعي بالعمل في بعض شقق العمارة، السبت مدام ناني، والأحد سوسو، وهكذا، صارت الساعة بالشيء الفلاني والغدا تطلبه أحيانًا بالتليفون (دليفري). تجنبه وتجاهله كثير من السكان، زاد الإحساس بأنه ساكن وليس حارسًا، تغيرت غرفتاه كثيرًا، أجهزة كهربائية، ستائر، إنترنت. 
في يوم لا أذكر كثيرًا من تفاصيله، اجتمع بعض السكان، تشاكوا، تذكروا أيامه الأولى وكيف صار اليوم، وقرروا تغييره، جادلهم في بادئ الأمر ثم جمع أولاده، وأغراضه، ورحل، احتاج ست ساعات وثلاث سيارات نقل حتى يُخلي الغرفتين والسطوح الذي حوله إلى امتداد طبيعي للغرفتين. 
تجمع السكان وقد علت البسمة وجوههم، أحسوا بالأنس يعود مرة أخرى، وبالدفء يغمرهم ويُنسيهم برد الشتاء. الفرحة في مقابلتهم لبعضهم البعض كانت أكثر من فرحتهم برحيل البواب، أعادوا اكتشاف جيرانهم، وزعوا قطع الحلوى، تبادلوا أرقام التليفونات، شددوا على ضرورة التواصل، أزالوا بقايا كشك البواب، كَنسوا الشارع، استبدلوا اللمبات المطفأة بأخرى جديدة، وأكدوا نيتهم تجديد العمارة.
مع الوقت اندمج السكان في أعمالهم، وتجنبًا لمعاناة محتملة مع بواب آخر فضلنا التعاقد مع شركة أمن وضعت كُشكًا على مدخل العمارة، وصار الدخول والخروج بحساب ونسينا حاجة العمارة للإدارة والصيانة.
بتعُيين الدكتور السيد عقل، جارنا بالطابق الثالث، في وظيفة مرموقة اختلف حال العمارة. الدكتور عقل، كما اعتاد السكان تسميته، طبيب مهذب يحمل تاريخًا مهنيًا كبيرًا في مجال المخ والأعصاب، عمل بمواقع مختلفة بداية من المستشفيات إلى التفرغ للتدريس في جامعة القاهرة، مميز في عمله ويشهد له جميع جيرانه بمودته.
صار له سيارة وسائق وحارس خاص يصحبه من باب الشقة صباحًا حتى عودته مساءً. إضافة إلى ذلك، وبناء على طلب من قسم الشرطة، صار على شركة الأمن تسجيل بيانات كل من يدخل العمارة مع تفتيشه تفتيشًا دقيقًا. في بادئ الأمر، رحب السكان بتلك الإجراءات وعددوا المزايا الأمنية خاصة بعد ما انتشرت السرقة في العمارات المجاورة، مرة شقة مدرس، ثم شقتان في عمارة واحدة، الأولى لتاجر والثانية لمحام، كما اختفت سيارتان من الشارع ولم يُعثر لهما على أثر.
لم تكد تمضى شهور قليلة حتى بدأت بعض سيدات العمارة يشتكين من رجال شركة الأمن، مبررين ذلك باطلاعهم على خصوصياتهم، الأمر الذي دفع الأستاذ إبراهيم الدقن أن يرفع صوته بأن ذلك كشف للعورات، ومع تأييد البعض لرأيه اقترح أحد السكان الاستعانة بسيدات أمن لرفع الحرج عن سيدات العمارة اللواتي رحبن بالفكرة، فيما اشتكى سكان آخرون بأنهم سيتحملون تكاليف إضافية تضع عليهم أعباء مالية، خاصة وأن الجزء المستقطع من راتبهم الشهري لمصروفات العمارة بما فيها شركة الأمن أصبح مؤثرًا بعد إضافة جهاز أشعة إكس لكشف محتويات الشنط، وبوابة أمن، وغرفة للتفتيش الذاتي، وبعض معدات الأمن، تم شراؤها جميعًا بالتقسيط على مراحل إما بناءً على اقتراح بزيادة مستويات التأمين وإما لتلافى ما حدث في عمارات أخرى.
كتب الأستاذ أمين علوى على صفحة التواصل الاجتماعي "عمارتنا" أن معاشه لا يتبقى منه شيء بعد سداد المصروفات الشهرية للعمارة وفواتير المياه والكهرباء وقسط معدات الأمن، وأنه يعيش على عائد بسيط من ثمن بيع قطعة أرض بمسقط رأسه أودعه بالبنك، فرد عليه الأستاذ إبراهيم الدقن بأن التعامل مع البنوك محل شبهة ثم تساءل عن دفع الأستاذ علوي زكاة ماله، فرد عليه الأخير محتدًا بأن ذلك تدخل سافر في شئونه الخاصة وأن علاقته بالله –سبحانه وتعالى- لا يحق لأحد التدخل فيها.
تعددت التعقيبات على صفحة "عمارتنا" واشتد وطيس النقاش، فكما تدخل رجال وسيدات لمساندة الأستاذ الدقن، وقف آخرون مع الأستاذ علوي، وتحول الموضوع بالكامل إلى نقاش يسيطر عليه كلمات من قبيل، الحلال، والحرام، والفائدة، والربا، والحرية، ومفردات أخرى لا يتسع الحديث عنها، وانشغل الجميع عن شكوى الأستاذ علوي وقلة دخله وعدم قدرته سداد مستحقات العمارة.
على الجانب الآخر، حظى الدكتور عقل بمكانة أدبية إلى جانب مكانته العلمية، وصار سكان الحي يتهامسون وهم يشيرون نحوه بإيماءة رأس حينًا وباليد حينًا آخر حين يرونه يصلي في المسجد، أو يشتري بعض احتياجات بيته من السوبر ماركت، يستأذنونه في التقاط صورة معه (سيلفي)، الأمر الذي كان يُغضب حارسه الخاص فيتدخل الدكتور في هدوء وحرفية مُلبيًا طلباتهم، لتتناقلها صفحات التواصل الاجتماعي مصحوبة بتعقيبات إيجابية وأخرى لا تعرف في أي ناحية تُصنف.
ما بدا في أول الأمر صغيرًا بسيطا كَبُرَ حجمه مع الوقت، بدأت ملاحظات الأستاذ الدقن بشأن البنوك والزكاة وغيرها عابرة في أول الأمر، ثم اكتسبت مع الأيام زخمًا اكبر، كرة ثلج يزداد حجمها. يبدأ اليوم هادئًا إلا من تعقيبات متناثرة هنا وهناك لا تلبث تتزاحم وتكثر بعد صلاة العشاء، خاصة عندما يلتقى بعض السكان في مدخل العمارة صدفة أو أمام الشقق فيتبادلون الآراء وينشرونها على صفحة التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يزيد وطيس التعليقات عندما ينقل أحد السكان وجهة نظر جار يراها الأخير غير دقيقة، فيثور ويعقب. 
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أنشأ بعض السكان صفحات خاصة بهم، يمكن تصنيفها على أنها صفحة مؤيدي الأستاذ الدقن، وصفحة الأستاذ علوي، وهكذا صارت الصفحات تستقطب هذا وذاك. يختلف ساكن مع أعضاء صفحة فينتقل للأخرى، أو ينقل ساكن عن صفحة قدحًا في رأى طرحته أخرى فتهيج الدنيا، ونسي السكان صفحة "عمارتنا" التي جمعتهم ذات يوم. مع الأيام بدا الفالق والشرخ يكبران بين السكان، إلى حد تجاهل بعضهم البعض عندما يلتقون وجهًا لوجه في المصعد أو أي مكان آخر. باختصار عاشت العمارة فترات انقسام وتشظٍّ لا تحمد عواقبه خاصة عندما امتنع البعض عن سداد أقساطه في معدات التأمين وواجهت العمارة أزمة مع الشركة الموردة التي هددت بسحب المعدات ومقاضاة اتحاد الملاك.
على الجانب الآخر، صار الجيران ينظرون للعمارة بشيء من ريبة، فأجهزة الأمن المكدسة في المدخل حولتها إلى حصن، اشتكى عمال توصيل الطلبات واعتذر كثير منهم عن توصيل طلباتنا، صرف المكوجي النظر عن عمارتنا فصرنا نحمل ملابسنا إليه أو يتسلمها منا أمام العمارة، وتحول الهمس إلى صوت مسموع ورسائل على مواقع التواصل الاجتماعي أن السبب في كل هذه التحولات يكمن في تولى الدكتور عقل منصبه الجديد.
وسط هذا الصخب، استيقظت العمارة صباح يوم جمعة على هرج ومرج، وأصوات تتعالى، وتمام يا أفندم، واطمن سيادتك، وفي خلال أربعة وعشرين ساعة سيكون المتهم في أيدينا؛ ذلك أن الأستاذ سالم الأمين استيقظ هو وأسرته وقد سُرقت شقتهم، وتحديدًا الأجهزة الكهربائية ومبالغ مالية من عملات مختلفة يدخرها في دولاب ملابسه. لم يسمع أحد بالموضوع إلا واستنكره، ثم تندفع الأسئلة كشلال جارف لا ينتهي معينه: (أين الأمن؟ الكاميرات في كل مكان، أكيد صوروهم، معقول حد يدخل دون أن يشعر به أحد)، وهكذا ظلت الأسئلة تدور كساقية لا تكف عن الدوران، ومن وقت لآخر يتساءل الناس عن الجديد. 
لم يتوقف الصخب إلا عندما أعلنت الشرطة أن الكاميرات المبثوثة في كل ركن لا تعمل منذ تعطلت من أكثر من شهرين، ومع أن السكان طلبوا شركة الصيانة لمعالجة الأمر، إلا أنها لم تحضر وبررت ذلك بعدم حصولها على مستحقاتها، ومع مرور الوقت تناسى السكان الموضوع وطمأنوا أنفسهم بأن كل شيء تمام. لكن الصدمة الأكبر ظهرت عندما علموا أن مسئولي الأمن بالعمارة عادة ما يكتفون في وردية الليل بشخص واحد بدلًا من اثنين، يذهب بدوره للنوم عندما يستشعر هدوء الشارع واستتباب الأمن. 
هاج السكان وماجوا وكادوا يفتكون بهم إلا أن الشرطة حسمت الأمر وقبضت على موظفي شركة الأمن، وكما استيقظ سكان العمارة على صخب سرقة شقة الأستاذ سالم، استيقظوا صباح أحد الأيام على اشتباك بين رجال الأمن وبعض السكان بقيادة الأستاذ إبراهيم الدقن لطردهم من العمارة، حضرت الشرطة وتدخل الدكتور لتهدئتهم فضاع صوته وسط الصخب، وعبثًا حاول الأستاذ علوي الذي نُكش شعره وملابسه خلال فض الاشتباك، خاصة وأنه من صعد إلى شقة الدكتور عقل وطلب منه النزول لحسم الخلاف، اتسعت دائرة الفوضى بانضمام آخرين لا يعرف أحد من أين أتوا، دوت طلقة رصاص رأوا على إثرها الدكتور يسقط مضرجًا في دمائه وسط ذهول الجميع ليسود صمت رهيب قطعه صوت زوجته وأبنائه المكلومين.
من داخل سرادق العزاء بدا مشهد العمارة كئيبًا غارقًا في الظلام، كما بدت هياكل معدات شركة الأمن المكومة على الجانبين مُقبضة للصدور، فقط كان سرادق العزاء يغرق في النور ودُفن ما عداه في ظلمة حالكة، خيم صمت مقيم قطعه صوت المقرئ عاليًا "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ"، فتمتم الحضور، لُطفك يا الله.  
   
وللحكايات بقية



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved