لم يجانب الحقيقةَ من قال إنّ الإنسان يتعرّف في البيت إلى العالم، وفي السفر إلى نفسه. فالبيت ومترادفاته: المنزل والسكن والدار والمقام والمقر، وسواها، تومئ إلى السكينة والاستقرار والملاذ وهناءة البال، والأهم الخلوة مع النفس.
للبيوت ذاكرتها وتاريخها وأنفاسها وبهجاتها، وخيباتها أيضاً. ثمة بيوت، في كل زاوية منها، توقظ الشجن في القلب. في بيتي الأخير في منطقة الغاردنز بعمّان، أذكر فيه، على وجه التحديد، المقعد الذي كانت تجلس فيه والدتي الراحلة، وكلما جلستُ عليه، أتشمم عطر يديها، وأتحسس البركة التي تفيض من أعطاف القماش. كانت، رحمها الله، تحب ذلك المكان، وتستأنس به، وهي تشاهد مسلسلها المفضل على (MBC).
بغيابها أقفر البيت، ودبّت فيه الوحشة. انطفأت شمس، وذبل بريق القمر، وكثيراً ما كنت أسمع المقعد ذاته يجهش في نحيب صامت، أسمعه بقلبي، وأبادله العَبَرات.
في البيت نفسه، كانت الخلوة الأعظم في المكتبة، التي جعلتها أعزَّ مكان في الدنا، وخيرَ جليس في الزمان، وفيها كنت أعانق أجدادي المبدعين، من أرسطو حتى بوشكين، وأصافح حروفهم قطرة فقطرة، كمن ينهل بتلذّذٍ من كوثر لا ينفد.
في البيت ينقطع الإنسان عن العالم، إن هو أتقن فن السكنى، ومهارة الإصغاء إلى التفاصيل التي تنبعث من هنا وهنا: ثمة شجرة ليمون، زرعتَها قبل خمسة أعوام فأينعت، وملأ أريجها الحديقة الصغيرة، فمضيتَ لا تلوي على قطفها، لأنك تريد أن ترصّع عينيك باخضرارها. وثمة في الجوار خمس شجرات حور، أودعتها التراب، ولم تبلغ قامة الواحدة المتر، وها هي الآن بارتفاع عمارة من خمسة طوابق، وكلما هبّ نسيم، ذابت الأغصان في ميعة التدلّل.
لا بيت يشبه سواه. لكل بيت شخصية مستقلة: هذا ضيّق، لكنّ فيه شرفة تطل على المدى، ويكفي أن تجلس فيها برفقة فنجان قهوة، وقليل من الخيال والجمال، حتى تشعر بروحك تحلق في السماء البعيدة، التي تذكّرك بالبيت الأول في المخيم، الذي ابتهجتَ حينما تحول سقفُه من الزينكو إلى الإسمنت، فرُحتَ في أول فرصة تفلت العنان للطائرة الورقية، التي زيّنتها بعلم بلادك البعيدة.
هناك في المخيم، كانت أجملَ البيوت وأعذبَها، رغم مرارة الفقد والحرمان. كانت الطيبة تشع من الجدران الآيلة للتشقق، والتي لا تعرف كتمان السرّ، فالكل شركاء في البوح والغضب، وفي الدمع الذي يرنّ، ولعل ذلك، على الأرجح، ما فجّر قريحة الشاعر: كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى، وحنينه أبداً لأول منزل.
لا بيت يشبه سواه، فبيتك الأول الذي سكنته، حينما قررت إنشاء أسرة، كان أصعب البيوت، لأنّ فجوة حضارية فصلت المكان عن المخيم، وكانت له امتيازاته الفندقية، التي لم تألفها من قبل: دوش حمّام بارد وساخن، وسرير فسيح، وغرفة مستقلة، ومكتبة ومكتب بكرسي متحرك، وفاكس لمراسلة صحيفة في لندن، وثمة أيضاً مفتاح خاص، يزهو في ميدالية، تلقمه للقفل، فيهبّ عليك العالم.
وهناك بيت يجاور جبال الألب، في صقيعه وبرودته في فصل الشتاء. في ذلك البيت، أنت لا تذكر سوى طقطقة الأسنان، والجار الذي كان يسرق المياه من الخط الرئيس للبلدية!
وقيض للرجل، الذي تغرّب، أن يحقق أقصى أمانيه التي رآها في الأفلام: أن يقيم في منزل يطلّ على البحر، فكان أن أقام في أبوظبي، في جزيرة الريم المزروعة في وسط المياه، التي تطفئ عطشه من الجهات جميعها، وتجعل الغربة برداً وسلاماً على قلبه.
وقد أنهى رحيله، مغادراً منطقة الغاردنز في دبي، يشعر بالحنين الجارف لهذا المكان المدجج باللحظات العاصفة، بمرّها وحلوها، بالكتابة الجامحة، بالدهشة البِكر، وبلحظة الاقتراب من الموت، بالحب والفرح واجتماع العائلة، وبالطعام الشهي، الذي يستحضر روح عمّان، ومذاقها الذي لا يضاهيه أي مذاق.
«لَكِ يا مَنازلُ في القلوبِ مَنازلُ، أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ»، قالها المتنبي، وقد أتبعها بعد بيتين، بآخرَ أجمل: «تَخلو الدِيارُ مِنَ الظِباءِ وَعِندَهُ، مِن كُلِّ تابِعَةٍ خَيالٌ خاذِلُ».