آخبار عاجل

الجزء الخامس .. حكايات شارع حسن المأمون لـ الدكتور محمد مصطفى الخياط

07 - 11 - 2020 1:32 488

أعمل في هذا المكان منذ أكثر من ست سنوات، سايس سيارات، في البداية كلمني صبحي عن التحاقه بعمل مع الحاج سيد الأوانطة أمام النادي الأهلي بمدينة نصر. الأوانطة أحد أصحاب السوابق، اسمه الحقيقي سيد عبد القوي، أطلقوا عليه هذا اللقب لشهرته في النصب على الناس. عاش شقاوة ما بعدها شقاوة، سَرق واحتال وحُبس واعتاد على السجن والسكة الحرام، تعبت الشرطة منه وتَعِبَ منها. تزوج من حسنية بنت عم إبراهيم المكوجي والذي يطل محله على حارة عبد الله عفيفي، جميلة وطلبها كثيرون، إلا أنها أحبت سيد على الرغم من سيرته السيئة، لم تحب ما كان يفعله لكنها أحبته هو، أحبت فيه الإنسان، رأت فيه فتى أحلامها وقدرت أنه سوف يتغير مع الوقت.
التحق صديقي صبحي بالعمل مع الحاج سيد مقابل خمسين جنيهًا في الوردية، عادة يطبق صبحي ورديتين في اليوم، فيقبض مائة جنيه، ويزيده الأوانطة عشرة أخرى للدخان، مع أن صبحي لا يُدخن. شجعني صبحي أن أنسى الدبلوم الذي حصلت عليه وأعمل مع الأوانطة، توسط لي عند الحاج سيد وعملت معه، وصار لي اليوم ست سنوات.
من عام حضرت أم إيلان، واستَسمَحَت الحاج سيد أن تبيع الحلويات أمام باب النادي فوافق مقابل خمسة وعشرين جنيهًا في اليوم. استكثرت الست المبلغ، فقال لها: "محل في هذا الشارع يساوي الملايين، ولا ترضى أن تدفعي شوية ملاليم"، يتصرف سيد كمالك للشارع، وليس مجرد سايس، تساعده شخصية قوية وملامح تنقلب إلى قسوة تنذر بالشر، فتردع من أمامه. أم إيلان، سيدة سورية، بعيون خضراء، ووجه من الرخام، وجسم يعرف حدوده ولا يتجاوزها، ما يجب أن يمشي كخط مستقيم مشى، وما يجب أن ينحني انحنى. مهذبة، تبدو بنت ناس جار عليها الزمن. من أول يوم رأيتها فيه وأنا مشدود نحوها، استشعر أن بيننا شيئًا قديمًا يريد أن يعود للحاضر.
تقع المنطقة التي أُشرف عليها في نهاية شارع حسن المأمون، تعرفت على عم فرج الجنايني في هيئة تجميل القاهرة، والمسئول عن آخر ثلث في الجزيرة، بينما يعتني بالمساحة المتبقية زميله عم سعيد، ورئيسه عم حسن. بالكاد لا أرى أم إيلان خلال الوردية إلا للحظات، أحيانًا وأنا أتجه إلى أم محمد لأشتري منها الشاي، تدفع للأوانطة عشرين جنيهًا وثلاثة أكواب شاي يوميًا، بدلًا من السير في الجزيرة إليها مباشرة انتقل إلى حيث تجلس أم إيلان على رصيف النادي تحت الشجرة المقابلة للبوابة، أتبادل معها كلمات عابرة وأخشى أن ينهرني الحاج فتهتز صورتي أمامها، عرفت منها أن زوجها مات في غارة ألقت على الحى براميل بارود، بالتحديد أصيب إصابات بالغة ومات بعدها بأيام، جمعت السيدة أغراضها البسيطة وأولادها وهاجرت إلى مصر حيث سبقها إخوتها، تقاسمت شقة في الحى الثامن مع أسرة سورية أخرى، تحضر وتعود إلى النادي مشيًا، ولديها ولد وبنت، إيلان وهناء، أما هي فاسمها أهداب. لم تبلغ الثلاثين بعد، لكنها أكبر مني بثلاثة أعوام، جميلة وأتمنى أن أتزوجها. أتخيل أمي وصوتها يفرقع مجلجلًا، كعادتها كلما سمعت ما لا تقبل، قائلة "أكبر منك، ومتجوزة قبلك، وعندها عيلين" ثم تخبط على أفخاذها وتتابع "يعنى البنات خلصت من البلد علشان تتجوز سورية". أرتمي في حضن الإحباط ولا أعرف ماذا أفعل؟! حتى ما يدور في ذهني لم أتحدث فيه مع أهداب.
من يوم أن عرفت اسمها وأنا أناديها به، عندما استأذنتها أن أناديها باسمها، وليس أم إيلان كما يناديها كل من يعرفها، نظرت في الأرض وأعادت رص أطباق الحلويات، مع أنها كانت مرصوصة، ثم حركت رأسها بالموافقة. أحسست أن لي مكانة خاصة عندها، فأنا الوحيد الذي يخاطبها باسمها، حتى الأوانطة يقول لها أم إيلان. 
أحيانًا أشتري منها حلويات وأرفض أن تعطيني خصمًا، أود مساعدتها وألا تؤثر المودة بيننا على تجارتها، في أحد الأيام، ودون ترتيب مني، وجدتني أطلب منها مقابلتي لأتكلم معها، كعادتها نظرت في الأرض وراحت تعيد رص الحلويات، لكنها لم تحرك رأسها بالموافقة، ثم قالت: 
-    إذا فيه شيء اتفضل قوله.
-    المكان غير مناسب، الكل ينظر نحونا، وأريد أن أتكلم معك. 
-    ...
-    "غدا إجازتي وأجازتك، أراك الساعة السادسة أمام الحديقة الدولية، المكان ليس ببعيد، لكنه بعيد عن عيون من يعرفوننا"، ثم انصرفت وقلبي يخفق، كيف تجرأت وتكلمت، كيف حددت الموعد والمكان؟ لا أدري.
انتظرت أمام بوابة الحديقة الدولية من الساعة الخامسة، وأخذت أنظر في الساعة من حين لآخر، أحس ثقل الوقت وتأخذني الظنون فأشك أنها تأتي ويملؤني الإحباط واليأس، ثم أرى شابًا وفتاة يسيران مبتسمين، فيغمرني الأمل، وأتخيل سيرنا معًا. وقفت أنتظر وأنا لا أعلم ماذا أقول، ومن أين أبدأ، أقرب لليائس مني للمتفائل. 
تجاوزت الساعة السادسة بقليل، فرحت أتطلع إلى أول الشارع، وفي الواقفين حول شباك التذاكر، ثم صرت أتلفت في كل الاتجاهات لا تستقر عيني على شيء. خجلت من وقفتي بالقرب من باب الحديقة فانتقلت إلى الرصيف المقابل وقد اعتراني شك في حضورها.
"آسفة، بالكاد خَلُصت من الأولاد، ثم أخرتني عجأة (زحام) الطريق"، جاءني صوتها بلهجتها السورية اللطيفة من خلفي، فالتفت غير مصدق، سلمت عليها بحرارة، ووضعت كفها اللدن بين كفي، أول مرة يلمس جلدي جلدها، أول مرة أشعر بتيار خفي يتسرب من كفي إلى جسدي فيشمله، لأصابعها ليونة وطراوة لا تقل عن قطع الملبن التي تبيعها أمام النادي.
"هه .. ما بدك نقعد"، أيقظني صوتها من تداعياتي، فاعتذرت واقترحت أن ندخل الحديقة لكنها فضلت أن نجلس في أحد المقاهي القريبة.
"كِيفك" جاءنى صوتها مبادرًا ومؤكدًا ما أنا فيه من ارتباك لا يقارن بجرأتي أمس عند طلب اللقاء، فرددت مرتبكًا،
-    الحمد لله، طمنيني عنك، إيه أخبار إيلان وهناء؟
-    مليح، ماشيه الأحوال زي ما بتقولوا في مصر، أخدنا على الجو هون، وقدمت لهناء في المدرسة القريبة من السكن، طلبوا مصاريف كثير، لكن أولاد الحلال أكثر، الحمد لله.
-    محتاج أسمعك، محتاج أعرفك أكثر.
-    رفعت حاجبيها الكثيفين وقالت "يا ترى شو الغرض من هاي المقابلة."
-    أسمعك.
-    "بتحب أغنيلك"، قالتها بصوت يخالطه غنج ساحر وضحكة خفيفة.
-    يوم المنى، ثم رحت أدندن وقد زالت حيرتي "إمتى الزمان يسمح يا جميل"، فابتسمت.
حكت وسمعت، شَرقنا وغَربنا، عشت معها أيامها السعيدة في حلب، وحسدت زوجها الراحل، وقلقت عليها أيام الثورة الأولى، ما بدا في أول الأمر مجرد مظاهرات تطور مع الوقت إلى صراع فتاك، ما تصورناها ثورة لأيام وتنتهي كما حدث في مصر وتونس، بدا أنها متاهة بلا نهاية، ظهر للنظام ألف رأس وذيل، وانكشفت المأساة عن جماعات لا ندري من أي أرض تنبت، جيش حر، وآخر للشام، وثالث لداعش، ورابع لجيش النُصرة، وخامس، وعاشر. اختبئنا معا من براميل البارود، تكومنا في سرداب البيت، خبأتها تحت جلدي فانهال على التراب المحروق من أثر القصف، خفت عليها وكأنها ليست أمامي تكلمني وأكلمها، صارحتها بحبى فسكتت، طلبت منها الزواج فتنهدت وركزت نظرها على فنجان القهوة بين يديها، وتوقعت أنها ربما تبحث عن أطباق الحلوى لتعيد رصها، كما اعتادت أن تفعل كلما داهمها ارتباك أو حرج. رفعت رأسها في هدوء وسألتني، "يا ترى خَبرت أهلك .. شو رأيُن (رأيهم)"، أعادتني كلماتها إلى المربع صفر ولارتباكي الأول، هززت رأسي بلا، ثم قلت "إن شاء الله أبشرك بموافقتهم، يهمني رأيك أنت".
نظرت نحوى بعينين لم أر أجمل منهما ولا أصفى منهما من قبل وقد كسا وجهها غلالة من أسى، تمنيت معها أن أضمها إلى صدري، ثم قالت بلهجتها اللطيفة "ما بدى أعذّبَك، صحيح ليّا في مصر شهور قَليلة، لكن إللي زيي بَدها معجزة عشان تلاقي زوج، ومن بعدها يوافق أهله". لم أدر كيف أرد، فانسدلت مع صمتي ستارة من كآبة.

مضت الأيام التالية وشعوري بالسعادة يزيد كونى صرت أقرب إليها، وبأننا سوف نلتقي بعد أيام، وفي نفس الوقت أُحس ثِقل مفاتحة أمي في أمر الزواج، فتسارع إلى ضرب فخذيها كعادتها وتُسمعني ما لا أشتهي. فاتحت صبحي في الموضوع، فلم يصدق أنني ألتقي بأهداب بشكل منتظم، وبأن بيننا شيئًا، فقد حرص كل منا –خلال تواجدنا أمام النادي- على الكتمان، فصرنا أمام الجميع مجرد شخصين يعملان في مكان واحد يتخللها أحاديث عابرة لا تخلو من كلمات حب مسروقة وغمزات خفية.
"بصراحة يا إبراهيم .. الست تستاهل .. حتة قشطة"، قالها صبحي بعفوية، ثم استدرك معتذرًا، وأخبرني أن حربى مع أمي أصعب من تلك التي شهدتها أهداب في سوريا وتسببت في خروجها، ثم قال وهو يضحك "أبوك مقدور عليه، لكن مش بعيد أمك تطفشها من مصر كلها"، زاد همي وقلقي فبحكم الجيرة يعرف صبحي أمي حق المعرفة.

ذات يوم طلبت أهداب أن نلتقي، وذلك على خلاف المعتاد حيث أطلب أنا اللقاء. ذهبت وجلًا متوجسًا، حتى إذا ما اتخذنا مجلسنا بالكافيتريا ومددت يدىّ لأضع كفها بينهما كعادتنا، سحبت يدها في رفق وأخبرتني أن هذه آخر مرة نلتقي فيها، كان واضحًا أنها اتخذت قرارها، وأن مقابلتنا بغرض إبلاغي بما حكمت وقررت، لم تحب أن تخبرني بذلك تليفونيا ولا بكلمات عابرة أمام النادي، فضلت أن نلتقي ويسلم كل منا على الآخر، خابت محاولتي إثناءها عن قرارها، لكنها بدت مُصرة وأن القرار قد اتُخذ وآن أوان التنفيذ.

أوصلتها إلى محطة الأتوبيس، وعلى غير العادة قبلت باطن كفها في الشارع، فسحبتها في سرعة وخجل، وأكدت عليها أننا سوف نلتقي مرة أخرى، فيما مضى بها الأتوبيس وعيوننا معلقة ببعضها البعض، حتى غاب الأتوبيس في الزحام.
في صباح اليوم التالي، لاحظت غيابها عن جلستها المعتادة أمام النادي، انتظرت أن تأتي بلا جدوى، اتصلت على تليفونها فجاءتني رسالة أن الخط مغلق، اكتشفت أنني وبعد كل هذه المدة لا أملك وسيلة أخرى للتواصل معها، فأنا لا أعرف عنوانها، ولا تليفون أحد من أقاربها. 
قضيت اليوم متوترًا، وعاودت الاتصال أكثر من مرة، فجاءتني ذات الرسالة، وفي الصباح التالي والصباحات التالية تكرر غيابها، تُرى هل ذهبت إلى مكان آخر هل يمكن أن ترحل عن المنطقة، ربما أرادت أن تضع حدًا لعلاقة لا يبدو لها نهاية فأرادت أن تجرب حظها في مكان آخر، ثم كذبت نفسى فمثلها لا يفعل ذلك. تجولت في الحى الثامن بعد انتهاء ورديتي ورحت أسأل عنها فلم أصل إلى شيء، الحى كبير والسكان كالنمل، ولا يعرف بعضهم بعضًا.
ركبني الهم ولم يستطع صبحي أن يخفف عني، بقي ذهني مشغولًا ولا أجد تفسيرًا، جاء موعد لقائنا الأسبوعي فذهبت أكثر من مرة على الرغم من تأكيدها أنها آخر مرة نلتقي، ظننت أنها قد تكون آخر مرة نلتقي، وليس آخر مرة أشاهدها فيها.
صارت الأيام أكثر ثقلًا، أقضي وقتي في الوردية دون تركيز وعيناي معلقتان بمكان جلوسها الذي حلت فيه سيدة أخرى تبيع مفروشات، وكعادته حدد لها الأوانطة ثمن الأجرة اليومية. في المساء يمر علي صبحي في البيت، فنذهب إلى المقهى القريب، نتكلم في لا شيء، وأحيانًا نشاهد مباراة كرة قدم من الدوري الإنجليزي الذي صار الناس يحفظون تفاصيله أكثر من معرفتهم بما يجرى في مصر.

أعود إلى البيت مهمومًا، أجلس في غرفتي وحيدًا، لا أدرى ماذا أفعل، ولا أدرى ما سيكون. "أبو خليل، الشاي جاهز ومنتظرك يا أبو خليل"، جاءني صوت أبي مشحونًا بحنانه المعتاد يدعوني لأشرب الشاي، لم يُغضبنا في حياته مرة واحدة، حتى عندما يغضب، ينزوى ولا يكلمنا، ساعات أو يوم على أقصى تقدير وتعود المياه إلى مجاريها، على عكس أمي التي سرعان ما ينطلق صوتها حادًا قويًا وصوت ارتطام يديها بفخذيها يعلو مع حدة صوتها، متى سمعت ما لا ترضى.

جرجرت قدميّ وجلست على الكنبة أمام التليفزيون الذي تتساقط على شاشته قتلى نشرة التاسعة مساء، أخبار سياسية وأخرى اقتصادية، ووعود برخاء لا يأتي، وبفرص عمل على الورق، ثم تنتقل الكاميرات تعرض لوحات الدمار في الدول العربية، العراق، واليمن، وليبيا، وسوريا. تستعرض الكاميرا طوابير المهاجرين بالقوارب على حدود إيطاليا، رجالًا ونساء وأطفالًا، يمشون في مواكب جنائزية، تقف الشاشة على وجه سيدة في عينيها دموع، وعلى خديها دموع، وفي يدها طفلة، يرتدى كل منهما طوق نجاة، كلاهما مبلل بالماء، يبدو أنهما سقطتا من القارب ثم انتشلوهما، تنظر السيدة في لهفة في كل الاتجاهات، تجر ابنتها معها، لا تلحق الابنة هرولة أمها، تسقط، تجرها أمها غير عابئة بألمها، تبكي المرأة بحرقة، فتبكي الطفلة، تنظر المرأة إلى لا شيء، تضرب على فخذيها، تبكي، تضع يديها على رأسها وتتألم، تنظر خلفها، أمامها، تجري إلى الشاطئ مرة أخرى، يبدو أنها فقدت شيئًا وتنتظر ظهوره المفاجئ، لكنه لا يأتي ولا يظهر.

تقترب الكاميرا أكثر، تتسمر عيناي على الشاشة، هي، هي، هي أهداب، لكنها الآن أكثر نحولًا، تهدل كتفاها قليلًا، خالفا وصايا الجسد الذي طالما احتفظ بخطوطه المستقيمة في مساراتها، والمنحنيات في استدارتها، ما زال طابع الحسن في خديها، كيف جاءت إلى هنا، من ساعدها، مع من سافرت، هذه ابنتها هناء، فأين إيلان.

تنتقل الكاميرا، إلى شاطئ البحر، يقترب الموج أكثر فأكثر، وفي اللحظة الأخيرة يتراجع خاشعًا متجنبًا الشاطئ، شيء صغير أحمر اللون لا تستبين ملامحه، تقترب الكاميرا، طفل صغير منكفئ على وجهه لَفَظَهُ البحر للتو، تجرى أهداب في جنون، تجر ابنتها، تتعثر أهداب، يشتعل في داخلها عامود من نار، تنفجر بكاءً، ترتمي على الطفل، تحتضنه، تتقلب به على الرمل كأنها تستعيد سنوات الصفاء، ربما كانت تحتضنه وتتقلب به على شواطئ اللاذقية، أسمع بكاءها، يسيل خيط دموعي، أسمع نهنة أمي، وهمهمة أبي، أرتمي على التلفاز أمسك الشاشة بيديّ، أحاول جذب أهداب وإيلان، وهناء، يا إلهي، ها هي أقرب ما تكون إلى عيني وأبعد ما تكون إلى يدي، يقتلني عجزي، فأصرخ من كل قلبي "أهدااااب".

الحكاية التاسعة: الأوانطة
لا أدري ماذا أصاب شارعنا، منذ عملت هنا من حوالي عشر سنوات وأنا لم أمر بما حدث خلال الفترة الأخيرة، نزلت الشارع أول مرة أتحسس الطريق وكلي ثقة أنني لن أستمر في هذا العمل أكثر من عدة أيام أُرضي بها محمد بك، معاون المباحث، ثم أبحث عن أي عذر وأترك المكان وأعود إلى عملي الأصلي، النصب أو الأوانطة كما أطلق الناس عليّ، ومع أن زمن الأوانطة مضى إلا أنني لا أتضايق عندما يناديني البعض "سيد الأوانطة". 
أكسبني اللقب، الأوانطة، مهابة بين الناس، عرفوا سابق شقاوتي فخافوني، ومع أنهم مع مرور الوقت أحسوا بالاطمئنان، إلا أن هذه المهابة تمكنني من السيطرة على الشارع والعاملين معي، الذين إن تركت لهم الحبل أكلوني، يحتاجون من حين لآخر إلى ما يذكرهم سطوتي وشقاوتي القديمة التي كافحتُ كثيرًا حتى لا أعود لها، قاومت إلحاح ومعايرة زملاء الكار، عبده النص، وزكى صفيحة، وصلاح برشام، حتى الحاج مصطفى الدوكش كلمني على جنب وقال لي "أنا تحت أمرك وقت ما تحب، ما بين الخيرين حساب"، يخشى انخفاض مبيعاته من الصنف. الأصعب من هذا كله مقاومتي لنفسي ولرغباتي الداخلية في العودة للنصب، لطالما بكيت بيني وبين نفسى وأنا أنظر للقروش التي يضعها أصحاب السيارات في يدي وأتذكر مئات الجنيهات التي كنت أصرفها في جلسة واحدة دون حساب، فترة صعبة، أسأل الله ألا تعود وأن تُمحى من ذاكرتي، ملعون أبو الحرام. 
تغير شارع حسن المأمون، أحس أن عينًا أصابته في مقتل، اعتدنا على أيام متشابهة، نمر ببعض المشاكل الطارئة، ثم نعود لوتيرتنا السابقة، سيارات تحضر وتمشي، عبده بائع الذرة المشوية، سعد بائع البطاطا في الشتاء والترمس في الصيف، أم محمد بائعة الشاي في الجزيرة، الريس حسن وعم سعيد وفرج الجناينية، الصبيان العاملون معي، وأم إيلان، سميحة مفارش وسميحة مناديل، هؤلاء جميعًا هم عالمي ومملكتي، أحس أن الشارع مملكتي.
ثلاثة أصابتهم العين مرة واحدة، فرج القريب إلى قلبي من أي شخص آخر في هذا المكان، أول واحد تعرفت إليه هنا، وأول واحد طلب مني الصبر، في أيامي الأولى في الشارع يعطيني وردة ويطلب منى المحافظة عليها، حتى إذا ما عدت أُعطيها لحسنية، أحسست منه تشجيعًا أكثر من أي شخص آخر، إخلاصه في عمله جعل من الجزيرة حديقة جميلة، أجمل جزء في الشارع بالمقارنة بالجزأين التابعين لعم سعيد والريس حسن.
فرج الطيب القلب انضرب رصاصة يوم طلبت منه الهانم يساعدها على عبور الجزيرة التي أكل اللودر خديها وقت رصف الشارع، لم أتصور أنه بهذه الهشاشة والروح الشفافة، منذ ذلك اليوم ويستشعر أنه صار كائنًا آخر، اختلف تفاعله مع الحاضر، تتأخر ردود أفعاله ولم يعد يتأثر بما حوله، يقول فرج "لكل منا غاية، إن فقدها تاه في الطريق وباتت عودته مستحيلة"، ثم يرفع كفه اليمنى أمام عينيه ويتطلع إليها، يتلفت في كل الاتجاهات، كأنه ينتظر عودتها، ملعون أبو الستات، ملابس، وماكياج، وسيارات، وإتيكيت، ومظاهر كدابة. 
لا أعرف ماذا أفعل من أجله، في يوم أخذته معي في سيارتي الجديدة واتجهنا للمقر الرئيس للنادي في الجزيرة، رتبت مع الحاج محمود أبو الفتوح، رئيس المنطقة ومسئول الشارع، دخلنا النادي وشاهدنا مران اللاعبين، والمدرب الأجنبي الذي يتقاضى في الساعة راتب شاب في سَنَةٍ، والتقطنا صورًا مع الكثيرين منهم، حاولت أن أُدخل الفرحة على قلب فرج، ومع أنه انبسط وضحك وابتسم، إلا أنه من وقت لآخر يتلفت في كل الاتجاهات، فربما تظهر من حيث لا يحتسب.
لم أستفد من شقاوتي السابقة إلا قراءة وجوه البشر، فالعمل في مجال النصب يستدعي البراعة في قراءة الوجوه والتعبيرات، منها تتعرف على الصيد الثمين وتحدد التوقيت، عدا ذلك قد تقع أنت صيدًا سهلًا. يوم شاهدت أهداب، أو أم إيلان، كما عرفناها رأيت فيها وجهًا يصعب مواجهته، أنا لا أخشى السيدات، والسيدة التي صرعت فرج لا تهز شعرة واحدة عندي، لكن أم إيلان مختلفة، سيدة وقورة وملامحها طاغية الجمال، يصعب أن تمر من أمامها ولا تتوقف، حتى وإن ادعيت أنك تريد شراء حلويات أو مخبوزات من تلك التي كانت تبيعها قبالة باب النادي، والتي كانت تشتريها من مخبز الألفي على ناصية الشارع ومحل عسل وسكر في مصر الجديدة، والناس تظن أنها منتجات سورية.
في صباح أحد الأيام وبينما كنت في طريقي إلى عملي مررت على محل الألفي لشراء ساندوتشات فول وطعمية وبطاطس، طلبت كمية تكفى الصبيان معي، وأيضًا أم محمد التي تبيع الشاي في الجزيرة، من غير المقبول أن آكل وأتركهم ينظرون نحوي، اعتبر نفسي مسئولًا عنهم، أثناء انتظاري تجهيز الطلب لمحت أم إيلان تخرج من محل المخبوزات المجاور تحمل شنطتين كبيرتين، ثم دخلت في شارع جانبي، تابعتها بعيني، وبطريقتي عرفت من البائع أنها تأتيه مرتين في الأسبوع لشراء ما تحتاجه بسعر خاص من باب المساعدة.
تضايقت في نفسى، فكل من يشتري منها يعتقد أنها منتجات سورية، ويظل يقارن بينها وبين نظيرتها المصرية، مبينًا مميزات المستورد وسيئات المحلي، حقيقي ناس لا تستطعم ولا تميز، وإلا لفهموا أنهم يأكلون ما تصنعه أيديهم. في أحد الأيام اشتريت منها مخبوزات وجلست آكل منها في الجزيرة مع كوب شاي جاءتني به أم محمد، ضمن الأكواب الثلاثة التي تعطيها لي مجانًا كل يوم، وصرت كلما مر بي أحد من الصبيان أعطيه ليذوق، وكل واحد يقول شعرًا في الأكل السوري وأعينهم على أم إيلان، المهرة الأصيلة.
ناديت إبراهيم القطة، وطلبت منه أن يبلغ أم إيلان رغبتي في مقابلتها، سيدة واعية وتفهمها وهى طايرة، لمحت في عينيي اتهامًا، فقالت وعيناها إلى الأرض "أمرك يا حاج"، نظرت إليها طويلًا ثم قلت "المخبوزات دي زي اللي بشتريها من محل الألفي، هل تبيعينهم من حلواك"، هزت رأسها بالنفي وعيناها مغروستان في حشائش الجزيرة التي سقاها فرج للتو، ثم أردفت بلهجة اتهام "لماذا تضحكين على الناس؟ هذا نصب".
في الحقيقة صدمني الأمر، فالنصب كان حرفتي، وأنا من اُتهم به، والآن جاء دوري لأتهم الآخرين، إلا أنني أفقت على ردها الصادم والمباغت، "ومن قال أنني أبيع حلوى سورية، أنا سيدة سورية تبيع حلوى، الناس هي من تقول حلوى سورية، أنا ما قلت"، آه يا ناس تأكل ولا تفهم، تصنع الأكاذيب وتعيش داخل شرنقتها، وتكره أن ينغص عليها أحد أحلامها، فحتى أنا، سيد الأوانطة، الذي نصب على طوب الأرض، لم أنتبه لما قالته من قبل، نحن من صنعنا بأيدينا حكايتها وأسطورتها وبأن ما تبيعه منتجات سورية. حكت لي تفاصيل كل شيء والمحلات التي تشتري منها، والتي تعد لها طلباتها بالشكل الذي تحدده والذي يتسق مع الصبغة السورية، يا لها من ماكرة رسمت شكلًا وتركت الناس يتبارون في نسج الأساطير والأوهام.
ما حزنت عليه، هو ولع إبراهيم بها، لاحظت كثرة مروره من أمامها، وتوقفه لتبادل بعض الكلمات، وعرفت أن بينهما ودًّا وحبًّا، بفضل خبرتي السابقة في قراءة الوجوه عرفت، لكنني للأمانة لم أعرف أنهما يتقابلان ويتواعدان بشكل منتظم.
المرأة الماكرة دبرت كل شيء في هدوء ودون ريبة، الاتفاق مع سماسرة التهريب، سفرها مع أخواتها خارج مصر، كغيرها من فراش هذا البلد انجذب لنور أوربا، اندفع بكل طاقته نحو المصابيح حتى وإن أهلكتها، جاءتني ليلة سفرها بسيدة سورية تجلس مكانها في يوم الإجازة أو وقت ما يكون عندها طارئ ولا تستطيع الحضور، أخبرتني أنها ستقوم بالعمل مكانها، الخبيثة لم تذكر لي أنها قد باعتها قطعة الحجر التي تجلس عليها بألفي جنيه، أغرتها بالربح الرائج أمام النادي وبدون شك أخبرتها كيف تجذب الزبائن، والربح الوفير فدفعت السيدة ما طلب منها، فيما باركت أنا كل ذلك بعد ما لبست أحد أكبر الطراطير. كدت أن أصرف هذه السيدة، فقد كرهت وجودهن أمام النادي وما سببنه من ألم سواء لإبراهيم أو فرج، تدخل أولاد الحلال وقالوا: إنها تجرى على كوم لحم، فقلت وكذلك كانت أم إيلان، فما الفرق. 
إبراهيم هو ما حزنت عليه، طار معها للسماء السابعة، حلم بها زوجة، لكن أمه، وكما يقول صديقه وجاره صبحي الذي حكى لي كل شيء، "ست يتفات لها بلاد .. من آيات ربنا سبحانه وتعالى، أن سيدة قوية كهذه تتزوج ويستمر زواجها هذا العمر". ومع هذا، وللأمانة، بكيت من الفيديو المصور لها مع ابنها الغريق إيلان، أراني إياه أحد الصبيان على اليوتيوب، فيديو يقطع القلب، ومع هذا يتداوله أولاد الكلب على مواقع التواصل الاجتماعي. سبحان الله! فقدنا عقلنا والفرق بين ما يجب أن نراه وما لا يجب. ملعون أبو الستات، واحدة ضيعت فرج، والثانية ضيعت نفسها وابنها وإبراهيم، لكم أشعر بثقل وحزن على الجميع، رحمتك يا رب.
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved