عندما كنّا أمميّين حالمين، رُحنا نفكّر في تغيير العالم، وكنّا على يقين من قدرتنا على ذلك. كانت الأفكارُ أصغرَ من الأحلام. كبرنا قليلاً وتهدّمت جدرانٌ كثيرة في الوعي والواقع، فصار مدارُ الحلم أن نغيّر دولنا ومجتمعاتنا.
ولكنّ الفتقَ كان قد اتّسع على الراتق وأعجزه، فانكمش الحلم رويداً رويداً، حتى استقرّ عند حاكورة صغيرة يعتني بأشجارها اليافعات، الرجلُ الذي ما زال يحلم بتغيير العالم، متذكّراً مقولة الماركسيّ الثائر بأنّ التغيّر الكيفي إنّما هو مجموعة متراكمة من التغيّرات الكميّة!
والتغيّر الكيفي يعني أن يتولى كل واحد شؤونه الخاصة وشؤون مَن يرعاهم، بشكل يتسم بالجدية والعناية والاهتمام، وأن يكون نبراسه التفوّق والإجادة فيما تصنعه يداه، أو يتفتق عنه عقله؛ فالأب والأم مسؤولان عن تربية أبنائهما وتعليمهم، وعدم التقصير في الحدب عليهم، حتى تقوى سواعد أرواحهم، وترتقي هامات ثقتهم بأنفسهم، فيكونوا ثمراً جيداً يضاف إلى الثمرات الأخرى في العائلات المجاورة هنا وهناك؛ بحيث تتكون لدينا أنوية لمجتمعات صغيرة أفرادها مميزون لامعون توّاقون للمجد والابتكار.
الأمر ليس مثالياً كما يُخيّل لبعضهم. إننا نفعله بشكل أو بآخر، وأغلب الآباء والأمهات يعملون على أن يكون أولادهم خيراً منهما، وأن يحظوا بفرص ربما لم يحظيا بها، أو يحلما فيها من قبل.
صفوة القول إننا مدعوون للتغيير في الحيّز الذي نملكه ونستطيع السيطرة عليه والإنجاز فيه، وهذا يعني أيضاً أن تتماثل الأحلام مع القدرات والموارد. فليس مطلوباً من أفراد قلائل أن يزرعوا غابة كبيرة ويتعهدوها بالرعاية والسقاية. حسبُ الواحد منهم أن يزرع شجرة ويوليها ما تستحق من اهتمام، وهذا هو مراد المقولة التي تتحدث عن التغيرات الكمية التي تفضي إلى تغيّرات كيفية.
هكذا بمقدورنا أن نغيّر العالم، وأن نكون ثوّاراً على الجهل والتخلف والكسل، وأن نكون ومَن نرعاهم مَهرةً ذوي كفاءة نرفد مجتمعاتنا بالرؤى الخلاقة، ونبدع في دوائرنا الصغيرة وبمقدار استطاعة أرواحنا، ولا ننشغل بالأفكار الطوباوية الكبرى التي تزعم اقتلاع الأرض من مركزها، وجعل التراب ذهباً، وتحويل المياه المالحة الكالحة إلى أنهار من العسل والحليب.
دعكم من تلك الأفكار التي يبتكرها العقل الطائش، لا العقل الحالم. وهذا لا يعني أن يستسلم الإنسان ويكفّ عن المقاومة، وإنما أن يختار المقاومة الممكنة، فلا تبقى يده طوال عمره على الزناد، يحدّق في طواحين الهواء، ويود لو تتقدم نحوه ليصطادها!
لكل زمان أسلحته، وأشكال كفاحه. الثائر لا يشيخ ولا يهرم، ما دامت في قلبه خفقة من إباء، وما دام التمرد يصهل في روحه، فيأخذ بناصيتها نحو ذرى الحق والعدل والجمال.
العالم يتغيّر عندما نشاء نحن أن نتغيّر، وعندما نضع خططنا الممكنة التحقق لعملية التغيير المنشودة التي تراعي المقاصد الحيوية للعيش، ولا تتعدى على حقوق الإنسان، وتتوخى بناء عالم خالٍ من الفساد والشر والكراهية والعنف، وهذه لا تتصدّع جدرانها إلا بالعمل المتقن والولاء المطلق للوظيفة التي اختارها الإنسان، والقاضية بإعمار الأرض وتأثيثها بالحب والرحمة.
كنا نحلم بتغيير العالم رأساً على عقب، وبرمشة عين، عندما كنا يافعين تغلي الحماسة في مراجل عروقنا. لكننا الآن أكثرُ عزماً على تغيير العالم بأدوات ناعمة تحفر في الأعماق، ولا يفتنُها الغبارُ العالق بالسطوح.
احفر عميقاً، بدقة ووعي وتفانٍ، وسيتغير العالم، فالدورق يمتلىء قطرة فقطرة. كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم، كما قال غاندي الذي، بفضل عزمه الموصول على التغيير، مُنيت إمبراطورية قوية، كانت لا تغيب عنها الشمس، في أربعينيات القرن الماضي، بهزيمة على يد رجل سلام يرتدي ملابس بسيطة، ويعرف باسم المهاتما، والتي تعني «الروح العظيمة».