لا يُذكر مجيد طوبيا (روائي مصري) إلا واتذكر مجموعته القصصية ابناء الصمت، عالج فيها هموم وإحباطات جيل الستينات مختتمًا إياها بقصة قصيرة منحت المجموعة عنوانها. فترة عصيبة عاشتها المحروسة تحت وطأة آلام جراح النكسة، إعادة الثقة كانت أكبر التحديات التى واجهت الجميع، وإن لم يمنع هذا أصحاب الياقات البيضاء أن يملئوا الفراغ ضجيجًا وصخبًا، بينما يواصل أولئك المرابطون على الجبهة تضحياتهم في صمت وانكار ذات، استعرض مجيد في مجموعته صفحات من بطولات حرب استمرت لعامين متصلين، 1968 حتى 1970، عرفت بحرب الاستنزاف، شهدت بطولات غير تقليدية وشحنت الجنود بعزم الثقة. فترة ما زالت تنتظر من يكشف المزيد عن بطولاتها، كتب عنها على سالم مسرحيته على الممر، تحولت بعد ذلك إلى فيلم، وكتب جمال الغيطانى حكايات الغريب.
بخلاف هذه الكُتابات تأتي مذكرات جندى مصرى فى جبهة قناة السويس، للشهيد طبيب أحمد حجي، والصادرة عن دار الكرمة للنشر، بطعم خاص. صاغها في شكل مذكرات بلغة مباشرة تركز على الحدث وأبطاله، مشاعرهم الطازجة العفوية، بساطتهم، تضحياتهم العظيمة ورحيلهم في صمت. كتبها أثناء أداءه الخدمة العسكرية فى فترة حرب الاستنزاف كيوميات لأهم ما مر به من أحداث، مشاعر جندي أحب بلده ووهب حياته لها، وسجل يومياته دون مواربة، مشاعر الجنود قبل بدء العمليات الحربية، وعند قصف المدفعية مواقع العدو على الضفة الشرقية للقناة، وعند رده، قَصفًا بقصف. المرور بالمناطق الخطرة، تلقائية التمتمة بالشهادة ورشم الصليب، تحاشى رصاص القناصة، لحظات الفرح بنجاح العمليات الفدائية، ترقب عودة الزملاء سالمين، من فُقد، ومن أصيب.
عن أول طائرة فانتوم اسقطها قائد سرية المدفعية، يقول حجي، ظنت طائرات العدو، إثر غارة قامت بها، أنها قضت على الموقع فاقتربت فى غطرسة وحلقت على ارتفاع منخفض، رفض القائد مغادرة الموقع وكمن مكانه حتى بعدما بترت ذراعه إحدى القذائف، من وسط الدمار وجه ماسورة مدفعه لأعلى وعندما اقتربت طائرات الفانتوم أكثر، جذب فتيل الضرب بقدمه لتصيب القذيفة إحدى الطائرات وتسقط محترقة وتفر باقي الطائرات، فيما أغمض القائد عينيه في سلام. فارق كبير أن يكتب صحفي عن حدث رُوي له وأن يرويه من عاشه بتفاصيله.
حكايات فى سطور عن أبطال بسطاء ضحوا بأنفسهم ليعيش الوطن، لم يكن أحد ليعرفهم أو يسمع عنهم من دون هذه المذكرات، استشهدوا في مواقع مختلفة دفاعًا عن تراب المحروسة، جنود على الجبهة وفلاحين رفضوا مغادرة أرضهم في مدن القناة رغم القصف الإسرائيلي لها. مفارقات جمة؛ الجندي الذي نجا من عمليات بطولية كان فيها أقرب إلى الموت ثم وفاته في حادث طريق أثناء سفره لحضور جنازة والده. أقدار!.
لحظات إنسانية سجلها الشهيد أحمد حجي وقت خدمته في القوات المسلحة بعد تخرَّجه من كلية الطب البيطري عام 1967 ضمن كتيبة الشؤون الطبية على جبهة القناة حتى استشهاده في إحدى العمليات الفدائية عام 1972. ما إن تشرع في قراءة المذكرات بلغتها المباشرة حتى تسمع في الخلفية أصداء كلمات الأبنودي "أبكى.. أنزف.. أموت.. وتعيشى يا ضحكة مصر/ وتعيش يا نيل يا طيب/ وتعيش يا نسيم العصر/ وتعيش ياقمر المغرب/ وتعيش ياشجر التوت/ وتعيشى يا ضحكة مصر".
وأخيرًا، طوبي للصابرين المحتسبين المبتسمين القابضين على جمر الأمل في صمت. طوبي لكل يد امتدت بالخير وتوارت في الظل دون انتظار شكر. طوبي لأكف شققها شقاء العمل. ووجوه لوحها صهد شمس البناء. طوبي للشرفاء.