الحكاية العاشرة: سميحة مفارش
نــورا
نطقي للفرنسية يراعى ظهور حرف الغين في مواضعه، أناقتي أساسية لحياتي، اعتدت عليها واعتادت علي. لا أغير عطوري ولا مستحضرات تجميلي، جميعها من أرقى وأغلى الماركات، كريستيان ديور، كوكو، فيرساك، شانيل، فيكتوريا سيكرتس، وغيرها وغيرها، فالقائمة جد طويلة.
أقرأ عيون عملائي وأسعى لإرضائهن، عادة ينظر لي مديري برضًا وتشجيع، أتفانى في عملي، أقضى يومي أتحرك ونادرًا ما أجلس، لكم هو متعب العمل في محل كوافير للسيدات. ومع هذا فأنا سعيدة مقارنة بعملي السابق في محل كوافير البنفسج المتفرع من شارع شلهوب بعين شمس، لم يكن صاحبه يكف عن ملاحقتي وعندما يأس مني عرض على الزواج، تناسى أنه متزوج من اثنتين، صبرت على رزالته تحت وطأة الحاجة، كانت أجمل أيامي تلك التي قبلت فيها سميحة العمل معي، فبرغم الهموم والمواجع كنا نضحك من قلبينا.
في أحد الأيام اتصلت بي إحدى الزبائن، ظننت أنها تريدني أن أذهب إليها في منزلها بدلًا من حضورها للمحل، فمن خلال عملي اخترت بعض الزبائن اللواتي أثق فيهن وأعطيتهن رقم تليفوني، صرن يطلبنني متى احتجن لبعض الخدمات، صبغة، باديكير، مانيكير، وغيرها، أذهب لهن وأتقاضى الثمن لحسابي، عادة أطلب سعرًا أقل من المحل، لكنهن لا يترددن في إكرامي.
طلبتني السيدة وأخبرتني أنها ترغب في فتح محل كوافير في ميدان الحجاز بمصر الجديدة، سوف تتولى هي إدارته مع زوجها العائد من الخليج، فيما تنتقى هي العاملات اللواتي تثق فيهن. المسافة من بيتي إلى المحل ليست بعيدة، لكنني لا أستطيع أن أمشيها كما أفعل عند ذهابي لمحل البنفسج والذي يبعد عن بيتنا بشارعين. في المحل الجديد، أمشي في اتجاه موقف شارع العشرين مخترقة العديد من الشوارع، أستقل الميكروباص المتجه إلى الألف مسكن، وهناك أركب أي سيارة تتجه إلى مصر الجديدة أو مدينة نصر، فكلا الخطين يمران بمحطة الحجاز.
أنفقت السيدة وزوجها الكثير من المال حتى جعلا المحل مميزًا، كما قاما بخطة تسويق في محيطه سواء على المنازل أو نادي الطيران ونادي الشمس القريبين منه. مشكلتي اليوم، أنني صرت أعيش حالتين، الأولى نورا البسيطة التي تعيش مع أهلها في حارة بحي عين شمس، والثانية نورا التي تخرج بأبهى زينة فلا يشك أحد أنها بنت أسرة غنية، بنت ناس كما يقولون، وفر لي عملي الجديد دخلًا مكنني من تحقيق أحلامي في شراء الملابس الشيك والنظارة الماركة، أما مستحضرات التجميل فأحصل عليها كهدايا من مندوبي الشركات الذين يتمنون رضاي ورضا صاحبة المحل، أيضًا فكرت مؤخرًا فى شراء سيارة صغيرة.
قبل عملي الحالي كنت أنظر للملابس في حسرة ولا أشتريها فقد كان دخلي بسيطًا، اليوم تغير حالي وسيطرت على نفسي حالة أنني لا يجب أن أهجر مكان إقامتي الحالي، لكن كيف؟. تقدم لي العديدون واعتذرت، جميعهم لن يزيد طموحه عن فتح محل بقالة في شارع أحمد عصمت، فيما أبحث أنا عن منطقة جديدة، ما المانع أن أتزوج واحدًا يستحقني وأسكن معه في القاهرة الجديدة، وإن كنت أفضل منطقة الرحاب أو مدينتي.
أنتظر يوم يأتي فيه شاب شيك، يرتدي بذلة Slim بلا كرافتة، تبرق وسط شعر صدره القلادة الفضية، بذراعين مفتولتين. يفرض جسمه الرياضي نفسه على أنوثتي فأقبله زوجًا، ربما كان طيارًا يسافر كل أسبوع مرتين فأشتكي الوحدة وأن لا راحة في هذه الدنيا التي منحتني كل شيء، الزوج الشاب الغني الشيك، والسيارة آخر موديل، والسكن في كومباوند، والعشاء كل يوم في مطعم شكل، لكنني يوم سفره أغتم وأنتظر عودته كما تنتظر الأرض المطر، وكما تنتظر العصافير شروق الشمس.
يوم بعد يوم، تمضي الأيام، تتسرب من بين يدي، ظهرت بعض الخطوط الخفيفة أسفل العينين لكنني أعالجها ببراعة لا تقل عن براعتي مع زبائني، أيضا تسللت بعض الشعيرات البيضاء خلسة في غابة شعرى الليلي فصبغت شعري كله بلون الكستناء؛ فبدا وجهي مزهرًا طازجًا صالحًا للحب إلا أنه لا يأتي.
من حين لآخر، أتصل بسميحة نتبادل الأخبار وقلقها على أولادها الذين اكتشفت معهم فجأة أني كبرت، دخل أولادها المدرسة الثانوية وها أنذا ما زلت أنتظر أن يأتي الفارس الذي لا يأتي.
الدار البيضاء - 9 مارس 2017
صبحي
لأول مرة أسير في جنازة. أصاحب النعش الصغير الخفيف المحمول على الأعناق. خف على حامليه، فكأنما حملوه فارغًا. أصررت على مصاحبته في سيارة نقل الموتى إلى مسجد السيدة نفيسة لنصلي عليه صلاة الجنازة عقب صلاة العصر. جلست على أرضية السيارة، بين النعش المغطى بقماش أخضر مطرز بآيات قرآنية كتبت بخيوط فضية وجدار السيارة الساخن بفعل حرارة الشمس. تقرفصت حتى أتيح مساحة لإبراهيم القطة كي يجلس مسندًا ظهره إلى الباب الخلفي للسيارة. أصر على مصاحبتنا أنا وأخي التوأم الذي صار الحديث عنه محبوسًا في زمن الماضي. سلبه الموت الحاضر والمستقبل وبقي الماضي قابلًا للتجدد ما جاء ذكره. بقينا صامتين إلا من سعال لم يُشف منه إبراهيم. بدا وجهه ممسوخًا بفعل دموع يمسحها من حين لآخر، فتركت مع غبار الشارع والسيارات خطوطًا رمادية على بشرته البيضاء المُشربة بالحمرة.
هدَّأت السيارة من سرعتها وتحلق حولها بعض الأقارب، انزلقنا من السيارة ووقفنا إلى جوار أصدقائنا سامي الوزة، وحباطة، وعبده مستكة، وغيرهم. لكل واحد منهم لقب اكتسبه لسبب ما. سامي الذي أكل كوم أبيه من الوزة، وإبراهيم الذي لا نراه إلا وحوله قطط يطعمها أو تلهو حوله. وعبده مستكة الذى يعمل فى محل عطارة بعد الظهر. وحباطة وقصته الشهيرة مع الكلب البوليسى الذي اشتراه، ثم تبين أنه مُدرب على شم المخدرات، فما إن دخل به الحارة حتى اكتشفنا أن الشارع مشبوه، بين تاجر ومتعاط، راح الكلب يهجم عليهم، ومع أن المشهد كان مؤلمًا إلا أن الحارة انقطع نفسها من الضحك في تلك الليلة.
سرنا جميعًا خلف أخي، كما هي عادتنا، كأننا سنلعب مباراة كرة قدم بعد انتهاء اليوم الدراسي. كان دائمًا في المقدمة، حتى في موته. كم خبئنا خجلنا خلف جرأته، وجبننا خلف شجاعته. اليوم نتعثر صبيانًا في خجل طقوس لا نعرفها. وكما دخلنا المسجد خرجنا، يتقدمنا أخي محمولًا على الأعناق. غرقت أمي في بكائها، وغالب أبي دموعًا لا يعرف كيف يوقفها. ارتميت على صدر إبراهيم، ورحت في بكاء شديد، لكنه أبعدني عن صدره وجذبني من يدى. منعني الدمع من تمييز الطريق، فتعثرت، فأسندني بيديه. نهرني، وراح يدفعني إلى داخل السيارة، قائلًا "اركب .. اركب". مسحت دمعي بيدي، وحشرت جسمي في ذات المكان، بين النعش وجدار السيارة، منتظرًا أن يركب. أغلق شيخ ذو لحية كثيفة باب السيارة دونه، لم يستجب لصراخه، قال الرجل بلهجة صارمة "يكفي واحد".
تحركت السيارة، أشرت لإبراهيم ملهوفًا كي يأتي، لكن السيارة ابتعدت. لمحته من الزجاج الخلفي يجرى نحوها. أبطأ السائق من سرعته عندما اقترب من تقاطع شارع الأشرف مع شارع صلاح سالم، ثم توقف في الإشارة. أدركنا إبراهيم القطة، وقبل أن يهم بفتح الباب، تحركت السيارة مرة أخرى، فتعلق بها، واضعًا قدمه اليمنى على الإكصدام الخلفي وممسكا بيده الشبكة الحديدية المثبتة أعلى السيارة. أشرت له بإبهامي إعجابًا بإصراره وإخلاصه، لوح بيده بعيدًا وتحركت شفتاه بغضب مصحوبًا برزاز خفيف، كعادته عندما يسب ويـُخلِص في السباب، هكذا وصفه أخي، حيث تختلط أنساب من يسبه بأقذع الشتائم. داخلني أُنس، فارتسمت على شفتي ابتسامة خفيفة، فابتسم إبراهيم، بينما أخي التوأم يتابعنا بعينين ساكنتين وابتسامة خفيفة كعادته، لكنها كانت هذه المرة من خلف مفرش القماش الأخضر المسدل على النعش.
من يومها، وأنا أُكن لإبراهيم حباً عميقاً وتقديراً خالصاً، لن أنسى له وقفته معى فى وفاة أخى التوأم منذ أكثر من عشر سنوات، لذا عرضت عليه العمل معى عند الحاج سيد عندما رأيت حيرته فى البحث عن عمل، يريد أن يأكل لقمته بشرف، لكنى حزنت عليه بعد قصته مع أم إيلان، أحسست أنى السبب، أحاول إخراجه من حزنه لكن الأمر عسير. لن اتخلى عنه، هل جزاءُ الإحسان إلا الإحسان.
القاهرة – 22 سبتمبر 2017
رضــا الخضري
تخرجت في كلية الهندسة جامعة الإسكندرية أوائل الثمانينات، لم يصدق والدي أنني أخيرًا أنهيت دراستي، تعثرت عامين، فبدلًا من خمس سنوات صرن سبعًا. أنهيت خدمتي العسكرية وعُينت، بعد توسط البيك عضو مجلس الشعب في ذلك الوقت، في هيئة المساحة بالقاهرة، تزوجت وأنجبت ابنتين تزوجت كُبراهما وهاجرت مع زوجها إلى أستراليا، فيما تستعد الثانية لزفافها بعد أشهر قليلة، أقمت في بداية قدومي القاهرة في ميدان لاظوغلي، ثم انتقلت بعد ذلك إلى 35 شارع حسن المأمون بمدينة نصر، بالقرب من صديقي عبد الله الراوي حيث ركبنا معًا أتوبيس العمل لسنوات طويلة، إلا أن ترقيتي مؤخرًا منحتني سيارة خاصة فيما استمر هو يركب ذات الأتوبيس. أخيرًا رُقيت إلى درجة المدير العام في حين وصل زملائي لدرجات أعلى.
بالأمس طلبني رئيس المصلحة وأخبرني تلقيه خطابًا من هندسة الإسكندرية تطلب ترشيح أحد مهندسي الهيئة للمشاركة في مناقشة مشروعات التخرج لطلاب السنة النهائية بالقسم المدني، وكلفني بالأمر.
في اليوم المحدد، ركبت أتوبيس جامعة الإسكندرية من ميدان التحرير، وبالتحديد بالقرب من مبنى جامعة الدول العربية. أخذت مكاني ثم شرعت أتصفح جريدة الصباح، يتقاطر الدكاترة والمعيدون على الأتوبيس، يلقون تحية الصباح على السائق وعلى بعضهم البعض ثم يجلسون إما صامتين منتظرين بدء التحرك وإما مشتبكين في أحاديث تظل مفتوحة من رحلة لأخرى.
حانت منى التفاته تجاه باب الأتوبيس فرأيتها، هي هي، لا يمكن أن تخطئها عيني، كسا الوجه الجميل وقار السن وبدت في حجابها صورة جميلة لماضٍ أجمل. كانت الأولى على الدفعة في كل شيء، العلم والجمال والمال، بينما كنت أنا أول المتأخرين دراسيًا والمهوسين بجمالها، كفل تأخري عامين في الدراسة أن أنتقل من وقفتي معها كزميلة إلى جلوسي أمامها طالبًا. أعدت النظر إليها ثانية فوجدتها تخرج من شنطتها الأنيقة هاتفها المحمول الغالي الثمن، تصفحته ثم أعادته إلى شنطتها ثم أخرجت سبحة من كهرمان بحبات دائرية متوسطة الحجم وأخذت تسبح في طمأنينة بينما أسندت رأسها لظهر المقعد فبدا جانب وجهها الرخامي الجميل متألقًا زادته نظارة الشمس –التي ما زالت ترتديها داخل الأتوبيس- بهاءً على بهاء.
اقتربت من مقعدها، وهمست "صباح الخير"، فجاء صوتها هادئًا كعادته يرد التحية بينما كشفت نظراتها أنها لا تتذكرني، فابتسمت متشجعًا وقلت، "مسير الحى يتلاقى، لسه مش فاكره"، زمت بين حاجبيها وبدا أنها تذكرت "رضا الخضري"، فأجبت
- بلحمه وشحمه.
- معقولة، لم أرك منذ تخرجت، أين كنت؟
- لا يهم، المهم هو أنت، طمنيني عنك؟ "قلتها بنبرة صوت تسترجع تاريخًا غاص في أعماق بئر الماضي".
- بخير، حصلت على الماجستير والدكتوراه وتزوجت وأنجبت وتوفي زوجي.
- تلخيص رائع لحياة ليست غير عادية، خالص تعازي في وفاة زوجك.
- كان هذا من عشر سنوات، البقية في حياتك، وأنت ما أخبارك؟
- بخير، خلصت جامعة واشتغلت واتجوزت والأولاد كمان، وقربت أطلع معاش.
استمر الحوار بيننا دافئًا فلم نشعر بالوقت، أخبرتني أنها تزوجت من مهندس عمل بالكويت لسنوات حتى غزتها القوات العراقية، فخرجوا عبر الصحراء ولم يعودوا إلا بعد تحريرها، بوفاة زوجها عادت الأسرة مرة أخرى إلى مصر، هي للتدريس في الجامعة والأولاد للدراسة، أنجبت ثلاثة أبناء تزوجوا ويزورونها من وقت لآخر، تقيم في شارع النزهة بمصر الجديدة وتسافر للجامعة يومين في الأسبوع، على الرغم من مشقة السفر إلى الإسكندرية إلا أنها فضلت العودة إلى مناخ تعرفه عن الالتحاق بجامعة قاهرية لا تعرف فيها أحدًا أو تربطها بهم علاقات باهتة.
تبادلنا أرقام الهاتف واتفقنا على التواصل خاصة في النادي الذي اكتشفنا أننا مشتركان فيه منذ سنوات طويلة ولم نلتق فيه صدفة، ولو مرة واحدة. مرت الأيام ونسيت الأمر، حتى وصلتني ذات صباح رسالة معايدة بمناسبة عيد الأضحى على (واتس آب). ابتسمت لمرأى الرسالة، واسترجعت ماضيًا لم يخل من شقاوة وسوء نية، فيما بدت هي قوية تصد كل محاولاتي وكأنني طفل عابث. رددت على الرسالة بأخرى. بعد ذلك، بدت الرسائل خفيفة كرزاز المطر، يتصل حينًا، وينقطع حينًا آخر. اعتدت على صباحاتها ورسائلها المعطرة بصور الزهور. ثم، صرنا نتبادل المكالمات، فإن غابت أو تأخرت، أعيد فحص تليفوني، علها أرسلت أو اتصلت ولم أنتبه. صرنا ننتظر الصباح والمساء لنتبادل التحية ونبدأ ماراثون حديث نتمنى ألا ينتهي.
(تتزوجيني)، قلتها ونحن جلوس في النادي. نظرت نحوى في استغراب، ثم ابتسمت وقد احمر وجهها، ثم قالت (لا زلت على جنونك، ظننتك تغيرت)، فأجبتها:
- نعم تغيرت، صار عمري ستون عامًا، وما زلت مهووسًا بك.
- وهل نسيت عمري؟ (قالتها ضاحكة)
- أنت كما أنت.
- من قال هذا؟
- احمرار وجهك عند سماعك طلبي.
- هل كنت تظننين أني نسيت الخجل؟
- ما رأيك، أنتظر ردك؟
- هل أنت جاد فعلًا؟ (قالت وقد ارتفع حاجباها كقوسين)
- نعم.
- أنت مجنون فعلًا.
- سوف أعقل عندما نتزوج.
- رضا !! عمرى ستون عامًا.
- وأنا كذلك.
- أنا ماشية (قالتها وهي تجمع أغراضها وتضعها في الشنطة)
- أرجوك انتظري.
- إذًا غيّر الموضوع.
- تمام
- ...
- متى نعقد القران؟
- أنت مجنون فعلًا..!! (نظرت نحوي في تحدٍّ)
- لا. بل جادٌّ جدًا
- وزوجتك، وأولادك؟؟
- بخير !!.
- ....
- لم يعد أحد ينتظرني، الأولاد تزوجوا واستقرت أمورهم، وزوجتي تكاد تنسى أنني معها، يكفيها (الفيس بوك).
- كبرنا يا رضا، كلانا على المعاش (قالتها بغنج).
- ما زال أمامنا الكثير لنعيشه معًا.
- ....
عقدنا القرآن وسافرنا إلى العين السخنة، قضينا أسبوع عسل. أخبرت زوجتي بحصولي على عمل يتطلب قضائي نصف الأسبوع خارج القاهرة، فرحبت وأعدت لي شنطة السفر.
مر عامان على هذه الحال، نصف الأسبوع معها، والنصف الثاني مع زوجتي الأولى، وأحيانًا أقيم كامل الأسبوع وأتصل بزوجتي لأخبرها أن العمل يحتاج تواجدي يومين آخرين. الوحيد الذي يعرف السر وشهد على عقد القرآن، كان عبد الله الراوي.
يتصل بي من حين لآخر، ويمازحني قائلًا، (إيه أخبار الشغل)، فأعقب بصوت ممزوج بالضحك والمكر (مستورة)، فيبادلني الضحك، ويقول: إن حكايتي تستحق أن تروى. حقًا، صدق من قال إن الحياة تبدأ بعد الستين.
السويس - 21 ديسمبر 2017
المغيب
لم أتخيل أن العلاقة بيننا سوف تتجاوز عتبة الابتسامات المتبادلة عندما تلتقي وجوهنا، عادة، على رصيف حديقة الطفل في شارع أبي داوود الظاهري الرابط والمتقاطع مع شارعي الشهيد محمد مصطفى، وشارع حسن المأمون، الموازي له، من جهة الشمال، وشارع مكرم عبيد، من الجنوب. يزخر الرصيف بهواة المشي، إما اتباعًا لتعليمات طبيب على أمل التواؤم مع مرض مزمن، أو رغبة في الرياضة وهم قلة من الشباب. معظم الهواة من كبار السن، وتحديدًا ممن أُحيلوا إلى المعاش، مثلي.
عادة أتمشى يومًا بعد يوم قُبيل المغرب، ساعة العصاري بالتحديد، أحب هذه الساعة، حيث تحمر عين الشمس إيذانًا برغبتها في النوم مع دخول الليل، تفرك الشمس عينيها وترحل ليبدأ صباح جديد في بلد آخر. من وقت لآخر، أشتري ذرة مشوية وأتناولها أثناء تمشيتي.
في دورتي حول الحديقة التقت أعيننا أكثر من مرة، رجل يضع جاكت على كتفه الأيسر ويتمشى مع زوجته، مع تكرار المصادفة صاحب النظرة ابتسامة، ثم أُضيف إليها هزة رأس، فسلام باليد، وتعارف.
"دكتور رجائي مؤنس، أستاذ تاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة"، قال الرجل، ثم أردف "المدام" مشيرًا بيده نحوها. عرفته بنفسي، وتمنيت لهما وقتًا ممتعًا وشكرتهما على مودتهما. في الأيام التالية، لحقت بزوجتي عقب سفرها لزيارة ابنتنا في الإسماعيلية، أحسست مع الوحدة أنني كائن اجتماعي يصعب عزله عن مفردات حياته ومكوناتها، حتى وإن وضعته في الزحام. سافرت لأرى ابنتي، وبالأحرى لتقصير مدة إقامة زوجتي عندها، حيث تزورها من حين لآخر للاطمئنان عليها.
في اليوم التالي لعودتنا ذهبت أتمشى حول الحديقة، "أين أنت؟ انشغلنا على حضرتك"، بادرني الدكتور رجائي بوجه متهلل، فيما ملء وجه زوجته ابتسامة مودة وراحة. من يومها اعتدنا التمشية سويًا، كما ساعد خطونا الهادئ المتقارب على تبادل وتجدد الأحاديث حول شئون الحياة والمرور عبر بوابات الأدب والتاريخ بحكم تخصصه.
وعرفت أيضًا، سر الجاكت المعلق على الكتف الأيسر للدكتور بعد حادث السيارة الذي تعرض له وزوجته في طريق عودتهما من شاليه العين السخنة، حيث اعتادا قضاء بعض الوقت التماسًا لهدوء يحتاجه حين ينشغل بإعداد كتاب أو بحث يتطلب تركيز. فقد الدكتور ذراعه اليسرى إلى جانب إصابات بالغة، فيما أشرفت زوجته على حافة الرحيل.
ساءت الحالة النفسية للدكتور واستشعر ضعفه ووهنه ووحدته، زوجة تُشرف على الموت، ومحنة لا يشاركه فيها أبناء يساندونه ويقفون معه، وعجز يتعاظم بفقد ذراعه الأيسر وهو الأشول الذي طالما أمسك بالقلم وكتب. فترة عصيبة، لا يكاد يذكرها حتى تصرفه زوجته عنها وعن تفاصيلها بقولها، "نفتح سيرة ثانية، الله لا يعيدها أيام".
في صبيحة أحد الأيام، جاءني صوت الدكتور باكيًا مفزوعًا، لا أستبين كلماته من فرط نحيبه، بالكاد التقطت كلمات متقطعة مبتورة، "سامية، موت، أفعل، ..". أعلم أنه يقيم في شارع حسن المأمون بالقرب من سوبر ماركت "بيمن"، أخذت منه رقم العمارة والشقة، لا تستغرق المسافة بيننا سوى دقائق، ارتديت ملابسي في عجلة وهرعت إليه، فارتمى في حضني أول ما رآني، ضممته بشدة فمس ذراعي عضده الأيسر المبتور، هدأت من روعه قدر الإمكان، فيما أخذت بعض النساء يدخلن ويخرجن حجرة الفقيدة، والتي طالما ناديتها "مدام" ولم أعرف اسمها سوى يوم رحيلها، ثم دخل القس معلنًا النهاية.
تلت ذلك اليوم أيام شديدة البؤس على الدكتور واكتشفت فقره الاجتماعي، توفى إخوته وتفرق أولادهم ولا يملك من زمالة الكلية إلا بعض الأساتذة والتلاميذ الذين توقف واجبهم عند حضور العزاء، وأختين للمدام، إحداهما تقيم في الإسكندرية، والثانية مهاجرة إلى إنجلترا، فيما رجعت الأولى وأولادها إلى مدينتها عصر اليوم التالي للعزاء، لم تستطع الثانية النزول إلى مصر.
كم هو كارثي أن تكتشف، بعد فوات الأوان، أنك وحيد، عود حطب وسط صحراء قاحلة، أينما وليت وجهك صدمتك صُفرة الرمل، إحساسك بالوحدة يفقدك معنى الزحام، تراه موجًا يقذفك من جهة لأخرى، فيما أنت ريشة بلا وزن ولا معنى ولا قيمة.
اجتهدت خلال الأيام التالية أن أواليه، تليفون في الصباح، والتمشية في العصاري، بدلًا من يوم ويوم، أصحبه في سيارتي إلى الطبيب، وأصر في بعض الأيام على دعوته على الغداء أو العشاء، أحيانًا في البيت أو النادي، لم يكن خافيًا أنه يذبل يومًا بعد يوم، بدا عوداً يفتقد الندى والري، غابت شمس حياته، وينبوع مائه، تهدل كتفاه وصار أشبه بشبح، خفت عليه، ولا أدرى ماذا أفعل، فُزعت حين راودني هاجس وفاته، إلى أين يصير؟!
حاولت استدراجه في الكلام لمعرفة أقرب الناس إليه، فلم أجد، زاد هلعي على الرجل خاصة بعد ما صرت أراه يمشى نحو النهاية في رضا وبخطى دؤوبة. عصر أحد الأيام، وفيما أنتظره أسفل بنايته استعدادًا للتمشية معًا، جاءني بخطى واهنة، سلم عليّ بيدين من ثلج، ثم مد يده المرتعشة بورقة مطوية قائلًا، "رقم القس يوحنا"، إن أصابني شيء أرجو الاتصال به، أخذتها منه من دون تعقيب كأننا متفقين على كل شيء، مشينا ببطء يتناسب وضعفه، أحسست بنَفَسِه يعلو ويهبط، فأشرت إليه أن نجلس لنستريح، هز رأسه رافضًا وخرج صوته ضعيفًا محشرجًا كأنما يتفلت من تحت ثقل كبير "اقتربنا .. سامية تنتظرني"، فأجبته مُشفقًا "أنت مُتعب"، اتسعت عيناه من تحت النظارة وبدا وجهه الجاف أكثر نحولًا ثم قال "لا .. أشعر براحة تسري في أوصالي .. ووجه سامية يُضيء أمامي"، تأبطته فاستسلم، ثم استرخى جسمه فتثاقل، احتضنته مخافة أن يقع وأجلسته على الرصيف، مدد ساقية، واتجه ببصره نحو قرص الشمس المائل للغروب، فارتسمت على جانب شفتيه ابتسامة خفيفة ومضى نحو سامية.
وللحكايات بقية