لماذا يُلام غالبية الشباب العربي على خفّتهم وسطحية تفكيرهم واهتمامهم بالقضايا غير المنتجة. ولماذا يُراد لهم أن يكونوا عميقي النظر في ما يجري من حولهم، وهم لا يملكون أدوات العمق تلك، ولا عرفوها ولا تعلّموها ولا اختبروها. إننا في لومنا القاسي لهم، كمن يطلب أن تنبت الصحراء ورداً ورياحين وأشجاراً باسقة، وهي بَلْقَع لا ماء يرويها ولا ندى يظللها، ولا فأس تلتمع في هجيرها.
ثمة في التربية، وفي الحياة، أيضاً، مصطلحات تتصل بالتغذية الراجعة وبالمدخلات والمخرجات، فكما يكون المنهج المدرسي يكون الطلبة، إلا إذا وهبهم الله مدرّسين يأخذون على عاتقهم إخراج طلبتهم من عتمة الصناديق المغلقة إلى النور، وهؤلاء ندرة، ولا يُعوّل عليهم في إحداث التغيير المنشود في التفكير، وأهمّه التفكير الفلسفي، الذي يتغذى على الجدل العلمي، والتحليل المنطقي، والنظر في ما وراء الظواهر البادية للعيان.
كل إنجاز تحقق في العالم وراءه الفلسفة. ولا مبالغة في هذا التعميم الإطلاقي. الفلسفة تفكير خارج السائد، وتحطيم للقوانين، وتحديق في كل ما يحيط بحواس الكائن، وما هو خارج حواسه أيضاً، أي في «الميتافيريقا»، أو ما وراء الطبيعة.
في كل مكان حولنا نسمع، كما قال كانط، صوتاً ينادي لا تفكر: رجل الدين يقول لا تفكر، بل آمن، ورجل الاقتصاد يقول لا تفكر، بل ادفع، ورجل السياسة يقول لا تفكر، بل نفذ. لا أحد يقول تفلسف.
بالفلسفة، التي أطلقت العقل من أسره، تمرّد الإنسان على الطبيعة، وسيطر على الرياح والمحيطات واليابسة، واقتحم الغلاف الجوي، فصعد إلى القمر، وها هو «مسبار الأمل» الإماراتي، في طريقه إلى المريخ.
بالفلسفة هزم الإنسان المرض، حين أدرك العلة والمعلول، ووضع قانون السببية، فلا غرو أنّ التاريخ العربي الإسلامي، حفل بأطباء فلاسفة كابن سينا، وابن الهيثم، والفارابي، وأبي بكر الرازي، والكِندي الملقب «أبو الفلسفة العربية»، وكان أول من استخدم الموسيقى في العلاج النفسي.
الفلسفة ليست عقلَ الأشياء فحسب، بل هي الوعي العميق لتلك الأشياء، ومحركاتها الداخلية، إنها التفكير في التفكير، والتحديق في الظلام الكثيف، لاكتشاف الضوء، وحيازة الحكمة. الفلسفة تغلغلت في كل العلوم وفجّرتها، فعلم النفس لم يكن ليتطور بدون الفلسفة، وكذا علم الاجتماع والتاريخ والفنون وفقه التربية، وسوى ذلك من العلوم الإنسانية والاجتماعية. حتى العواطف تحتاج إلى فلسفة تعلّمنا كيفية التفكير في مشاعرنا وتحليلها. الفلسفة مجد العقل وأعلى ذراه.
يورغن هابرماس، الفيلسوف الألماني (91 عاماً)، أخذ على عاتقه في أعقاب النكبة التي تعرّض لها الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، إنقاذ المجتمع الألماني من اليأس وانهدام الأمل وانعدام اليقين في المستقبل، ووضعه على سكّة الحداثة، من خلال تحريره من فظاعات الفكر النازي، ونقد الماضي بشكل جذري، وإعادة الاعتبار إلى العقل الألماني وروحه الجمعية، التي عسكرَها هتلر، وأذلّ شموخها في معاركه الخاسرة.
ومن خلال أطروحته الفلسفية المعروفة بـ «الخطاب النقدي الخالي من الهيمنة»، أخذ هابرماس، صاحب نظرية «الفعل التواصلي»، على عاتقه، تجذير علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس في الجامعات الألمانية، وتعميق النظر في العلوم الإنسانية، من أجل تحرير الذات الألمانية من الأيديولوجيا النازية، وتدشين دولة الحداثة والمجتمع المدني.
بالفلسفة انتصرت ألمانيا، وأصبحت تمتلك واحداً من أكبر وأقوى الاقتصادات في العالم، ولا تزال تتمتع بواحد من أكثر القطاعات العلمية حداثة وابتكاراً.
وبالفلسفة أيضاً، هزم اليابانيون الموت الذي نشر حرائقه في ناغازاكي وهيروشيما، فانبعثت الروح اليابانية من الرماد، عبر اعتناق فلسفة «البوشيدو»، أي «طريق المحارب»، حيث جرى استلهام نموذج «الساموراي» في الانضباط، والاقتصاد في الإنفاق، والولاء، وتعظيم قيم الشرف، التي تدفع المحارب لاختيار الموت، إذا لم يكن قادراً على تأدية واجبه الأخلاقي.
الفلسفة تحقق المعجزات، فقبل الذهاب إلى المريخ بـ «مسبار الأمل»، الذي يذكّر العرب بأجدادهم الذين رفدوا شرايين العالم بالحضارة والعلوم، كانت مدينة دبي، تتأسس على فلسفة قوامها هزيمة المستحيل، وخلال زمن قياسي، أضحت هذه المدينة الراقدة في قلب الصحراء، أيقونة كونية، تعيد إلى العقل العربي مجده التليد، وكأنما برج خليفة يحاكي أحلام الأندلسي عبّاس بن فرناس، وهو يطير بجناحيه، بالقرب من قصر الرُصافة في بغداد، وينتصر على الجاذبية.