آخبار عاجل

الجزء الثامن .. حكايات شارع حسن المأمون لـ الدكتور محمد مصطفى الخياط

30 - 11 - 2020 1:52 454

الحكاية الرابعة عشر: الدكتور رجائي

غريب أمر هذا الرجل، أتوتر إن خطر ببالي، فما ظنك بي عندما أراه، أصافحه وأقبل يده، من المؤكد أنني أصبح في حال غير الحال. بينما كنت أقضى وقتي في النادي كعادتي يومي الإجازة، جو مشمس، وسماء صافية بلا غيوم، أهرب كغيرى من زحام المسئوليات والمشاغل، أُفرغ طاقاتي السلبية، أُعيد شحن بطارية الحياة، أبحث عن ضحكة صافية بلا خيط شجن يعكرها، للبيئة أثر على نفس وسلوك الإنسان، في المكتب يعشش عنكبوت العمل والممنوع والمسموح. في النادي، تخلع ثوب التزاماتك وترتدي عباءة الانطلاق والحرية، يجذبك أصدقاؤك لأيام لا تقدر بثمن، صبا، وشباب، وانطلاق، وحب، وإخفاق، ونجاح، نتذكرها ضاحكين حتى وإن تسببت وقتها في شجن أو ألم، نضحك كأن الضحك ترياق الحياة ضد الحزن.
حولي، فتيات، على حافة الطفولة وعتبة المراهقة. فتيان معجبون بشبابهم وأجسامهم الرياضية. كم تمنيت جسمًا رياضيًا. لم يفلح عدم الانتظام في تمارين البطن والمشي حول محيط حديقة الطفل في تقليل الكرش الظاهر للعيان. مع الوقت، تحول الأمر إلى مزاح، اعتدت أنا وأصدقائي –عند التقاط الصور- أن نصيح ضاحكين "اشفط"، إلا أن الصور كانت تفضح فشلنا في ستر كرش ربيناه على مهل فامتد أمامنا دون خجل. 
هنا وهناك، أطفال يصيحون، يلعبون، يقذفون بالكرة في كل مكان. هم بذور الحياة، نَنثرها أملًا في غد تمتلئ سنابلها اليانعات بالخير. الحسنة بعشر أمثالها –كما يردد صديقي محمود إبراهيم مبتسمًا- من يدرى، ربما ينجحون فيما أخفقنا فيه، يخرج منهم من يعوض سنوات عجاف عَقِمت فيها النساء والأفكار، وتعددت سبل البحث عن مخرج من الكهف المسحور.
على خلاف باقي النوادي، يكثُر في نادينا رجال الدين. أقول رجال الدين دون تعريف عن قصد. أغلبهم شمامسة يصحبون أسرهم. منهم من يحمل الكنيسة معه، فما إن يجلس حتى يبدأ الوعظ، وقليل منهم من يخلع عباءته الدينية على باب النادي. تتفاوت انطباعاتي تجاه تحويل جلساتنا الترفيهية إلى دروس كُنسية خاصة عندما تذكرنا بخطايانا فنلوم أنفسنا ونستشعر التقصير، أتفهم أن نتحدث في جلسة كهذه عن الجمال وعن حقنا أن نلهو دون إغضاب الرب. وحدها ظلت جلسة الآب يوحنا ذات صبغة خاصة، حديثه، تعقيباته، نصائحه، حتى نكاته من طراز خاص. يستشعر الآب يوحنا تقديري ومكانته السامية في نفسي.
تنيح أبي وترك لنا تجارة كبيرة، محلات ومخازن في عدة محافظات، كمبيالات وشيكات له وعليه. الوحيد الذي يعرف أولها من آخرها كان أخي الأكبر، يعقوب، لأسباب مختلفة ترك دراسته والتحق بتجارة أبي، تعلم الصنعة وأصبح سر أبيه، كما تصفه كل الأسرة. اعتبرناه أبًا أصغر، نمر عليه في المحل أنا وأخواتي البنات، فيحتفي بنا سواء كان أبي في المحل أم في مشوار، يُصر أن نشرب (الحاجة الساقعة)، كما تعود أن يسميها، يطلبها بصوت ملؤه البهجة فيسارع جورج بشرائها من محل الحاج محمد النشار، يناولها لنا يَقْطُر منها الماء من أثر قطع الثلج المبعثرة في الثلاجة الصاج، وقت أن كانت الثلاجة مجرد صندوق تُرص فيه زجاجات المياه الغازية وتنثر عليها قطع الثلج. يسألنا أخي عن حاجتنا ولا يتردد في إعطائنا ما نريد من مال وزيادة. ليلة الجمعة، حيث أخرج مع أصدقائي، أنتظر أن يناديني لنقف على جنب، كى لا يرانا أحد في البيت، ثم يمنحني ورقة بعشرين جنيهًا تكفي سهرتي وزيادة. 
في عيني أبي، نظرة حزينة لا تغادره، تمنى أن يتعلم أولاده ويدخلون الجامعة، حَلمَ أن يقصده التجار وكبار المعارف ليتوسط لهم من خلال أبنائه. ابنه الكبير لم يكمل تعليمه الثانوي، وأخواتي البنات الأربعة حَصَلن تعليمهن المتوسط بالعافية وقنعن بالزواج، فيما التحقت أنا بكلية السياحة والفنادق. كتم أبي انكساره في صدره ولم يخبر أحدًا، عوض ذلك بمتابعة أولاد عماله، يتتبع تفوقهم ويشجعهم وينتظر نتائجهم ويمنحهم الهدايا والعيديات.
بحصولي على البكالوريوس شجعني أخي على الالتحاق بوظيفة وتركني أبي ورغبتي. عملت في وظيفة بسيطة بهيئة تنشيط السياحة ووقفت محدودية لغتي في حصولي على مكانة متميزة، فكنت أقرب إلى نموذج الموظف التقليدي، أذهب للعمل وأعود في مواعيد لا تتغير، أتناول غدائي، أنام ساعة أو ساعتين، ثم أذهب للمقهى لمقابلة الأصدقاء. 
في إحدى الأمسيات انفرد بي أبي، سألني عن وظيفتي وراتبي وطلب مني أن أعاونه في تجارته. "البركة في يعقوب"، أجبته عن قناعة. "التجارة كبيرة وتحتاج عشرة رجال لا اثنين، وما تتقاضاه في شهر سوف تحصل عليه في يوم"، أجابني أبي وكأنه يدفعني للقبول، لكنني هربت بعينيّ ولذت بصمتي. منذ صغري، تربى في داخلي خوف من التجارة، اعتدنا قضاء صيف الأعوام الدراسية منذ الصغر في المحل، من الابتدائية حتى الثانوية. تسبب ضعفي في الحساب، وانطوائي ورغبتي الداخلية في الوحدة وعدم الاختلاط، ومع هذا اضطررت للمشاركة في أعمال المحل وأنا طالب، ففي هذا الوقت لم يكن لنا أن نقبل أو نرفض، أبي فقط هو من يقرر. لذا، أصبح ارتباكي وأنا أحاسب الزبائن أمرًا متكررًا ينتظره العاملين بالمحل، ولولا أنني ابن صاحب المحل لجاهروا بخيبتي وضحكهم، ما إن صرت في سن تسمح لي بمناقشة أبي حتى بادرت بالابتعاد، فاغتم واهتم، كمن يعلم بالقدر.
في أحد أيام الآحاد وبعد انتهاء القُداس، تأبط أبي ذراعي ومضينا لمقابلة الآب يوحنا. أحسسته يستند عليّ أكثر من كونه يتأبطني. على الرغم من أن الآب يوحنا أصغر من أبي، فإنه من حيث القرابة في منزلة خاله. قرابته لأبي من ناحية جدتي سارة، ومكانته كرجل دين جعلته فوق الجميع، بخلاف محبة أبي له. دار الحديث من قريب وبعيد وأنا أتململ في جلستي وأتساءل متى أغادر الكنيسة. عرج أبي إلى حديث التجارة، وكررت ما قلته من قبل، وكرر أبي ردوده. لا أعرف لماذا قر في صدري صد تجاه الآب يوحنا، ربما لإحساسي أنها جلسة مدبرة لإرغامي على العمل مع أبي. ما زالت صورة الآب يوحنا مبتسما ومشرقًا وهو يربت على كتفي قائلًا لأبي، "اتركه على طبيعته" مرسومة في ذاكرتي. حسمت كلماته الموضوع ولم يفتحه أبي بعدها طيلة ستة أشهر وعشرة أيام، حيث توفي. وعلى الرغم من الموقف الطيب للآب يوحنا فإنني بغضت هذه المقابلة، ولا أذكرها إلا وأحس بثقل في صدري.
أتت صدمتنا في أبي بتوابعها، تغير يعقوب فلُمنا أنفسنا والحمل الكبير الذي تركه أبي عليه. لامتني أمي، خاصة بعد أن عرض أحد أزواج أختي أن يأخذ إجازة بدون مرتب من عمله ويقف معه. بدا رفض يعقوب، وإن كان مهذبًا، قاطعًا. عقبت أمي "سيبوه براحته .. يعقوب واخد على الشقا"، في داخلها رفض لمشاركة غريب في تجارتنا، لا تحب أمي إطلاع أزواج بناتها على أسرار البيت، فمهما كان تراهم غرباء. 
وعلى رأي المثل، المصائب لا تأتي فُرادى، كأنها تخاف الوحدة فتأتي ومعها أخواتها، بعضها يأتي بصغار المصائب والبعض الآخر يأبى أن يأتي دون الكبار منها. شهور وتوفيت أمي، وتغير يعقوب، نسي دور الأب الأصغر وأصبح شخصًا آخر، ينهر من يكلمه لأتفه الأسباب، يغضب حين نطلب نقودًا، أما الثورة الكبرى فكانت يوم طلبت إحدى أخواتي نصيبها في الميراث، طلبته وعيونها تدمع فزوجها خرج من وظيفته معاش مبكر إثر بيع الشركة الحكومية وتسريح العمال. لم تُغن المكافأة في سد طلبات بيت به فتاة مخطوبة وترغب أمها في تجهيزها بما يليق. طلبت أختي جزءًا من ميراثها حتى تجهز ابنتها، يومها ثار يعقوب ورأينا فيه شخصًا آخر غير الذي نعرف. قَبِل بعدها تجهيز ابنة أخته على أن يخصم ثمن ما يشتريه من نصيبها. يومها فرحت أختي، ولولا العيب لزغردت.  
في ذلك الوقت تخرج بنيامين ابن أختي الكبرى في الجامعة، ومن دون سلام ولا كلام راح يجهز أوراقه للهجرة. سهل له عمه المقيم بأمريكا الأوراق وصار عليه أن يدفع ثمن تذاكر السفر والتأشيرة ورسوم ومصروفات أخرى في أمريكا، ولأنها كلها بالدولار بدت عند تحويلها بالجنيه كبيرة. وكما فعل يعقوب مع ابنة أخته، فعل مع ابن أخته الأخرى. وأيضا مع أختيه الأخريين، أرادت إحداهن استكمال ثمن قطعة أرض ورثها زوجها مع إخوته، فباعت ذهبها وأكمل لها يعقوب ما تبقى. في حين أنفقت الأخيرة الكثير من المال على زوج عليل الصحة وصار بلا دخل تقريبًا، فجعل لها يعقوب مرتبًا شهريًا.
"انت مش محتاج فلوس؟"، سألني يعقوب. "خيرك موجود يا اخويا، أما احتاج أطلب"، أجبته بامتنان. كنت في ذلك الوقت أتقاضى راتبًا هزيلًا لا يكفي للإنفاق على عازب، فما بالك برب أسرة، لذا جعل لي يعقوب مبلغًا من المال كل شهر، لم يكن كبيرًا، لكنه كافٍ لضمي إلى زمرة المستورين. نظر يعقوب نحوي، ثم قال كأنما يختبرني، "أخواتك البنات خلصوا نفسهم، ميراثهم أخدوه، تحب تعمل زيهم". نظرت نحوه باستغراب وتساءلت "خلصوا ميراثهم، متى تم ذلك، لا علم لي". خطا نحوي حتى صار أمامي بخطوتين، ثم أمال جذعه وقال "كله مكتوب بالورقة والقلم، كل واحد منكم وصله كام وعليه كام، أنت فاكر إن مصاريفهم كانت قليلة". أكدت له أننا نشكره على تعاونه معنا، لكن تقديراتنا تقول أن ما صُرف ما زال بعيدًا عما نستحق من هذه التجارة الكبيرة. ضحك نصف ضحكة ثم قال، "هي التجارة بالمنظر دي كلها ديون، أبوك مات وهو مديون، التجارة دي كلها لا تكفي لسداد ما عليه". استندت بيدي على الكرسي وجلست، ما عادت تحملني قدماي، تبدل حالنا في لحظة، فبدلًا من أن نكون أصحاب مال وتجارة أصبحنا مدينين، لكن شيئًا في نبرة يعقوب بدا غريبًا، طلبت الدفاتر فأحضرها ولم أفهم فيها شيئًا، كان يعلم أني لا أفهم فيها. ارتفع صوت أنفاسي وزاد اهتزاز ساقي. ولا أدرى كيف عُدت يومها للمنزل.
بعد ذلك، عرفت أن يعقوب باع لنفسه كل شيء قبل وفاة أبيه بموجب توكيل رأى أبي وقتها أنه ضروري لقضاء المصالح، كما أن ثقته في ابنه ليست محل شك، بل طمأنينة ويقين، لأنه إن شك في ابنه ففي من يثق. إذا ضاع كل شيء، وصرنا مدينين. تحطمت نفسيتي وأهملت عملي واهتز يقيني، فصار ترددي على الكنيسة نادرًا.
كل ما أذكره، أنني سمعت طرقًا خفيفًا على باب الشقة، قمت متثاقلًا لأفتح، فرأيت رجلًا علاه الشيب ذا لحية كثيفة، يرتدي قلنسوة سوداء كتلك التي رأيتها بها في الكنيسة، إلا أنها أكثر بهاءً، ربما ادخرها للخروج واستبقى غيرها للصلاة. لم أتمالك نفسى، فارتميت في أحضانه وبكيت. كفكف دمعي، وتركني حتى هدأت، سمع مني الحكاية، وزاد عليها بتفاصيل من عنده علمها من أبي. ذكرني بيوم زرناه في الكنيسة ونصيحته لأبي أن يتركني وشأني. أخبرني أنه عندما رآني أدرك أنني لن أتحمل عبء التجارة فخاف على وآثر أقل الخسائر، فإن تخسر بعض مالك أهون من خسرانك نفسك. 
تولاني الآب يوحنا وصار يتردد على يوميًّا، ثم طلب منى زيارته في الكنيسة، فصرت أعوده، وشيئًا فشيئًا عدت إلى طبيعتي، عاد اهتمامي بزوجتي سامية التي شجعتني على الالتحاق بالدراسات العليا لاستكمال دراستي للتاريخ وعملي، عدت إنسانًا طبيعيًا، وبدأت من جديد. صحيح بوضع مالي هش، إلا أن نفسى صارت قوية، ومحبتي للآب يوحنا أكبر من أي شيء، فحصلت على الماجستير ثم الدكتوراه ثم عينت بالجامعة فكانت نقلة كبيرة في حياتي. 

الحكاية الخامسة عشر: فنون جميلة
ولدت ونشأت بمركز كفر سعد بمحافظة دمياط. تخرجت من كلية الفنون الجميلة جامعة القاهرة منذ عشرين عامًا. أنهيت خدمتي العسكرية، ولعدم وجود واسطة لتعييني بالقاهرة عُينت بجامعة المنصورة. سارع أبي بتزويجي من ابنة عمي، فرحت بها وفرحت بي. هي مهمومة بالأولاد والطبخ. عادة يدور حديثنا حول الأولاد ومشاكلهم. دنياها بعض الجيران والمقربون من الأسرة وماذا سنطبخ اليوم، وأن سعر السمك ارتفع عشرة جنيهات، فيما تجاوز سعر كيلو اللحم المائة والعشرين جنيهًا. بدخولها عالم الفيس بوك والواتس آب انفتحت أمامها آفاق أخرى للاهتمام قلصت مساحة اهتماماتها بالبيت. لم تهتم بتدرجي العلمي، ولا بأنني ترقيت إلى درجة الأستاذية وتوليت رئاسة القسم، ولا بعودتي في بعض الأيام أحمل شهادات ودروع تكريم من بعض الجامعات المحلية والعربية، حتى دعوتي إياها لزيارة شارع المعز لترى نتائج مشروع تحديثه وتجديده تحت إشرافي، اعتذرت بأنها لا تحب السفر إلى القاهرة فالمشوار بعيد ومتعب. عندما جَمعت بعض لوحاتي المتناثرة في أرجاء البيت ووضعتها في صناديق تحت السرير، فرحت أنها تخلصت من الكراكيب التي تملأ أركان البيت. لم تتحدث يومًا عن كتاب قرأَته، أو لوحة شاهدتها، أو بيت شعر عابر.
"حضرتك الدكتور أحمد .. أنا جيهان المعيدة الجديدة"، جاءني صوتها من سرداب خفي بلكنة قاهرية بها رنة أثيرة ومحببة تشي بتلقي تعليمها الأولى في مدارس أجنبية. تتحدث فتتلألأ الحروف على ثغرها. تخرج الحروف من مكامنها الطبيعية طازجة وشهية على خلاف ما أسمعه في جامعتنا الإقليمية التي تستقطب أبناء الريف، ليظلوا مهما مر بهم الزمن محتفظين بلهجتهم وعاداتهم الريفية البسيطة، بنطقهم الفريد للغات الأجنبية جراء تعليم مشوه غلبت فيه التخمينات على المبادئ العلمية. 
لجيهان وجه من برونز وجسد ممشوق تحتال ملابسها في مداراته عن عيون الفضلاء والمتسولين. شجرة سنديان سامقة يهزها النسيم فتتمايل زهوًا. شجرة ليمون تتسرب رائحة زهورها عبر الحدود والمسافات. بستان فاكهة خالف القواعد وأنكر تغير الفصول والجغرافيا فاجتمعت ثمار الرمان والمشمش والبرتقال بحبات اللوز والفستق وعبير الخزامي. تقيم بالقاهرة وتأتى الجامعة من الأحد حتى الثلاثاء فيما تقضي بقية الأسبوع مع أسرتها. عرفت أنها تقيم في شارع حسن المأمون بمدينة نصر بالقرب من النادي الأهلي، أحببت المكان قبل أن أراه، حتى النادي الأهلي صرت أتابع مبارياته، ما إن ألتقي معها حتى تتهلل أساريري، نتبادل التحايا، أحوم حول تفاصيلها وشئونها، كيف تقضى أمسياتها وصباحاتها، كيف جاءت للجامعة، والدها، والدتها، أخوتها، ما يشغلها، لكم تمنيت أن أصبح جزءًا من اهتماماتها الشخصية.
تعمل على إعداد خطة البحث للماجستير. لديها ميل نحو دراسة تطور الفن الروماني في عصر النهضة. عبر لقاءاتي المتكررة معها حولت رغبتها إلى دراسة تقنيات الألوان والخطوط في الحضارة الإسلامية. تغيير خطة البحث يضمن لي إشرافي عليها. يمنحها اجتهادها مرونة تغيير المجال دون متاعب دراسية.
أخبرتني أنها إما تذاكر في البيت وإما في النادي، إلى جانب بعض الزيارات للمتاحف والآثار المتعلقة بالبحث، أو مقابلة الدكتور رجائي مؤنس أستاذ التاريخ بآداب القاهرة والمشارك في لجنة الإشراف على رسالتها، سبق للدكتور مناقشتي في الدكتوراه، أستاذ له مكانته العلمية وكثيرًا ما نلتقي في مؤتمر أو مناقشة دراسة ماجستير أو دكتوراه ونتبادل التهاني في الأعياد والمناسبات.
لا أدري ما الذي حدث لي، صرت مشغولًا بها، فكثيرًا ما ضبطت نفسي وأنا أفكر فيها، تمنيت أني التقيتها قبل ذلك. في حين تمارس زوجتي دور أم العيال ببراعة فائقة يصعب مجاراتها، تتصرف جيهان بأريحية فتاة مثقفة واعية. تتقن لغتين أجنبيتين . أي عالم كنت سأشاهد إن عشنا قصة حب تنتهي بزواجنا، يا إلهي كم هي قاسية فروق التوقيت.
منذ أيام شاهدتها تقف مع صلاح، أوحى المشهد بمودة وقرب، ثم ها هما يتبادلان شيئًا ما. تُرى ماذا أعطاها؟. نظرت نحوهما بغيظ شديد، من المؤكد أنهما أحسا بضيقي فبترا ضحكهما. صلاح معيد في نفس الكلية ويكبر جيهان بثلاثة أعوام، مجتهد وسيناقش رسالته للماجستير نهاية هذا الشهر، سبق له إقامة معرضين للوحاته أحدهما في ساقية الصاوي والآخر في دار الأوبرا. ولد شاطر يعرف أن العاصمة تملك مفاتيح المستقبل، فانطلق يقتحمها بجرأة. أرسل دعوات لكبار الفنانين والصحفيين المتخصصين. حضر من حضر، وغاب من غاب، ونشرت بعض الصحف صورًا للمعرض وأشادت بفنه المتميز وتوقعوا له مستقبلًا باهرًا. هو فنان بكل المقاييس وهذا لا يهمني، ما يشغلني هو قربه من جيهان، لكنني أعرف جيدًا كيف أوقفه عند حده.
قرأت رسالته للماجستير أكثر من مرة. وضعت خطوطًا حمراء عند نقاط بعينها. على الرغم من جودة الرسالة وصلاحيتها للمناقشة فإنني سوف ألقنه درسًا لن ينساه. في يوم المناقشة بحثت بعيني عن جيهان فلم أجدها بين الحضور، آه لكم تمنيت أن تحضر وتراني أصول وأجول فيما فارسها المنتظر ينكمش كفأر مذعور. ههه، ههه، لا شك سوف يسقط في نظرها. لا يهم عدم حضورها فمن المؤكد أن أصداء المناقشة سوف تصل إليها وسوف تُزيدها يقينًا بسطوتي، سوف تلجأ إلى وتستكين لما آمرها به.
تركت صلاح يعرض رسالته، بدا واثقًا مما يقول لكنني أعرف كيف أُسكته. حان دوري في المناقشة، فبدأت بكلمتين حييت فيهما المشرفين وأنهيتهما بلوم الباحث الذي لم يقتنص فرصة التتلمذ على أيدي أساتذةٍ أجلاء. في واقع الأمر أردت استمالتهم لصفي حتى إذا ما ضربت ضربتي ساندوني. تعمدت التطرق لموضوعات أعرف أن الباحثين ينسونها بفعل الزمن وبفعل الانغماس في تفاصيل أبحاثهم. جادلته وهاجمت رسالته، فأجاب بهدوء وثقة، حاولت استثارته فبدا جبلًا من ثلج، علا صوتي حتى نظر لي الحضور باستغراب، ومال عليّ الممتحنون الآخرون، همس أحدهم في أذني طالبًا شيئًا من السكينة، وعلى الرغم من أن اللجنة أجازت رسالته ومنحته الماجستير فإنني عدت إلى بيتي فرحا نشوانًا بانتصاري الشخصي عليه.
قضيت ليلتي جزلًا سعيدًا أتخيل جيهان وهى تسمع ما أصاب حبيبها. سوف أجعله ماضيًا تنساه، فيما أصير أنا المستقبل. آه من ذل المشيب وسطوة الشباب. رنات الهاتف إلى جواري تعلن توالي رسائل على الفيس بوك ومع هذا لم يكن لدي رغبة لأراها فقد حققت اليوم أهم انتصاراتي. أغلقت الهاتف وقلت في نفسي "آن لي النوم هانئًا". 
على الرغم من كونه يوم الإجازة الأسبوعية استيقظت في حدود الثامنة صباحًا. تثاءبت بفرح طفولي. مازالت زوجتي إلى جواري تغط في نومها، آه لو تعرف ما حققه زوجها من انتصار. ضحكت بيني وبين نفسى وقلت إذا عرفت لطمت. فانتصاري انكسارها. اعتدلت في جلستي على السرير، وقعت عيني على الهاتف، فتذكرت توالي تنبيهات الأمس، فتحته فأصدر أزيزًا مكتوما، قرأت على الشاشة بسرور تنبيهاً بمائة وتسعة مشاركة على جروب القسم، من المؤكد أنهم يتناقلون صولاتي بالبارحة، نقرت أيقونة الفيس ببنان منتصر متعجرف فهالني تبريكات وتمنيات بالزفاف السعيد، تغيرت ملامح وجهي، إذًا لم تكن تنبيهات الأمس بشأن انتصاري، فلأى شيء تكون. بلعت ريقي وجريت بإبهامي على الشاشة فغام الابتسام وبدت سحب الكآبة تحل حين بدأت صورة بعرض الشاشة تنزل ببطء لمحت فيها جيهان بفستان عُرس إلى جوار شاب في الثلاثينات من عمره قمحي اللون يشع فطنة وذكاء، فيما كتب تحت الصورة "ألف مبروك للعروسين .. جيهان وسامح". 

وللحكايات بقية



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved