الحكاية السادسة عشر: دفعة شالوم
أعشق الرسم منذ صغري، في المدرسة أنتظر حصته، وبين الحصص أرسم بالقلم الرصاص وجوهًا، وأشجارًا، وقططًا، زهورًا، وأشياء أخرى كثيرة تجذب اهتمام زملائي، لوحات النشاط المدرسي أرسمها لزملائي بنفسي لقاء جنيهات معدودة، الأمر الذي ضايق بعض مدرسي الرسم في مرحلتي الدراسة الإعدادية والثانوية بمدرسة أبي بكر الصديق بجوار مزلقان عين شمس.
عادة يقسمنا مدرس كل مادة إلى مجموعات من خمسة إلى ستة طلاب ويطلب من كل مجموعة إعداد لوحة عن أحد الدروس، في العادة نتفق مع أحد مدرسي الرسم على تنفيذها بمقابل مما يحقق لهم دخلًا لا بأس به، دخولي في المنافسة على تنفيذ اللوحات ضايقهم، صحيح أنني لا أرسم كل اللوحات المطلوبة، فعددها كبير جدًّا، إلا أن دخول منافس جديد أشعرهم بالضيق ربما مخافة انخفاض عائداتهم في ظل أسعاري المنخفضة جدًّا مقارنة بأسعارهم، أي أن خسارتهم صارت خسارتين، الأولى: انخفاض عدد ما يرسمونه من لوحات، والثانية: اضطرارهم خفض أسعارهم.
بالنسبة لي ساعدني رسم اللوحات على تحقيق دخل بسيط يكفي لشراء أدوات رسم جيدة إلى جانب تحقيق حلمي بشراء حامل ولوحة رسم، وبالطو أبيض، ولم يتبق لي سوى أن أطلق شعري على سجيته فيبدو مشتتًا أشعث على شاكلة بعض الفنانين الذين أرى صورهم في الجريدة، جورج بهجوري، وراغب عياد، وسيف وانلي، بيكاسو، فان جوخ، رنوار وغيرهم، حتى عندما وجدت صورًا لبعضهم بالبيريه ادخرت عائدات بعض اللوحات واشتريت واحدًا ألبسه عند الرسم.
على الرغم من براعتي في الرسم إلا أن الفارق كبير بين ما أرسمه وما أراه من لوحات، فوجوه فتيات ونساء محمود سعيد تختلف تمامًا عما أرسم من وجوه، حتى عن تلك التي يرسمها الأستاذ السمنودي مدرس الرسم الأول بالمدرسة، في الأولى تستشعر أن هناك روحًا تسري في اللوحة وأنك تستطيع أن تلمسها وتكلمها، للوحة شخصية مميزة وحضور لا يمكن تجاوزه، بخلاف ما نرسم أنا والمدرسين تحس أننا نطبع الوجوه والصور، صحيح هي تعطي الملامح التي نرسمها لكنها بلا شخصية ولا روح.
تحدثت في هذا الأمر مع أساتذة الرسم في المدرسة، بعضهم ذكر أنها مسألة نصيب وشهرة، وأن الأمر لا يعدو سوى ضربة حظ، غير أن الأستاذ السمنودي نصحني بقراءة كتب النقد والتذوق الجمالي في الفنون، والمواظبة على قراءة الروايات والشعر حتى أسمو بأحاسيسي وتعبيراتي، فما أراه من لوحات لفنانين محليين وعالميين إنما هي نتاج دراسة وعلم، وضرب مثلًا بسباحتنا في جمصة في المصيف وما نراه على الشاشة في مسابقات الأولمبياد، فقال: الحالتان سباحة إلا أن الأولى: بالفطرة مما جعلها أقرب للعوم الكلابي، والثانية: عن علم صار فيها الجزء من الثانية فارقًا كبيرًا بين المتسابقين، وربما استحق تقليل هذا الفارق التدريب لشهور طويلة في برامج إعداد نفسي وجسماني.
فتح لي الأستاذ السمنودي بكلامه بوابة عملاقة انسكب من خلفها وهج كبير، فصرت كلما جمعت بعض الجنيهات أشتري بها كتبًا في الفن، اشتريت بعضها من عنوانه وبعضها بتزكية من كتب أخرى، فتغير أسلوب رسمي شيئًا فشيئًا، وعندما بدأت المرحلة الثانوية استشعرت نضجًا ينمو وامتدت شهرتي إلى المدارس المجاورة، وفكرت أن أقيم معرضًا أقدم فيه لوحاتي الجديدة.
تعرفت في ذلك الوقت محمود شداد، طالب متميز في الرياضيات يحرص على إغلاق زرار ياقة قميصه فصرت أرى عنقه الغليظ -بعين الفنان- جذع شجرة قوي ينبت من بين شقوق الحجارة، فيما رسمت لحيته المهوشة والقليلة الشعر رتوشًا وظلالًا. لم يقلل ذلك من احترامي لاجتهاده ومحاولاته التميز والخروج من دائرة فقره الأسرى بالعلم. محمود أحرصنا على الصلاة، في الفسحة يخرج من الفصل ويتجه للمسجد ثم يخرج منه إلى الفصل مرة أخرى، فيما بعد عرفت أن جلوسه في المسجد كان لتجنب الإنفاق في الفسحة.
أحسست بشيء يشدني تجاهه، فتقاربنا وصرت أخرج معه من الفصل إلى المسجد، إلا أنني أصلى وأخرج لأشرب شايًا أو عصيرًا مع ساندوتش في حين يواصل جلسته كعادته حتى انتهاء الفسحة، عزمته ذات يوم على شاي فرفض فاحترمت إباءه وعزة نفسه. مع الوقت صرنا نذهب للمدرسة سويًّا ونعود معًا، يمر عليَّ في طريقه ونقضي طريقنا نتحدث في أشياء مختلفة إلا أن هوايتي للرسم استحوذت على الكثير من نقاشاتنا.
"الرسم حرام" قال شداد، كان قد مر على صداقتنا حوالي عام ونصف وأنهينا للتو امتحانات الصف الثالث الثانوي فيما ارتفع التزامي الديني ومستوى لوحاتي أيضًا، لم أجد وقتها أي تعارض بين الرسم والدين، بل كثيرًا ما بهرتني الصور القرآنية البديعة الفائقة الوصف. قصف محمود مستقبلي بكلمتين فحوله إلى عصف مأكول، ألقى بي في فراغ بلا قرار.
اتسعت حدقتا عيني ونظرت إليه غاضبًا مصعوقًا ثم قلت:
- من قال هذا؟
- "شيخي" قال شداد في استكانة.
- أي شيخ؟، أنا لا أعرف لك سوى الشيخ عاشور السبع.
- نعم، هو.
- ألم نقابله سويًّا أكثر من مرة؟ إنه يعرف منذ زمن أنني أرسم، ودائما ما كان يهز رأسه ويبتسم حين نذكر ذلك، لم يقل لي مرة إن ذلك حرام.
- قال لي أنا.
- هل طلب منك أن تخبرني؟
- لا، لكنه أخبرني بذلك أكثر من مرة.
- سوف أذهب إليه وأتحدث معه، مستحيل أن يقول ذلك.
في المسجد قال لي الشيخ إن التصوير بأنواعه حرام ومنها الرسم، وعندما ناقشته في الأمر قال: عليك أن تختار بين رغباتك وطاعة الله، وضعني الرد في موضع الاستسلام، تركته وأنا أجر قدمي وأحمل هموم الدنيا فوق رأسي، عافت نفسى الطعام والشراب، أنظر لأدوات الرسم في حسرة فيما داخلي رغبة ملحة للإمساك بالفرشاة والألوان، أتأمل الفرشاة كأنها المرة الأولى التي أراها فيها وكيف صارت بكلمة محرمة عليَّ، أغمسها في الألوان وأهم بوضعها على اللوحة فلا أجد رسمًا وإنما هذيان ألوان لا تعرف معنى ولا هدفًا.
حاولت مقاومة الصراع الداخلي فخسرت، أهملت دراستي في كلية الفنون الجميلة، جمعت لوحاتي واسكتشاتي ووضعتها في كرتونة أسفل السرير، أحسست أني أدفن روحي معها، ثم أيقنت أني وأدتها. هِمتُ على وجهي لا أعرف ماذا سيأتي وما سيكون.
نحن لا نعرف شيئًا عن المستقبل، لكننا نعمل أملًا في تحقيق الصورة التي نحلم بها، تختلف مهاراتنا في صنعه، منا مَن يحصل على صورة مطابقة بالألوان، وآخرون على صور أبيض وأسود، عدا هذين الصنفين يحصل الجميع على صور مختلفة، ربما كان بعضها أجمل وربما غير ذلك.
لم تجدِ محاولات أبي وأمي لإفاقتي من غيبوبتي وضياعي، اقترب امتحان نهاية الفصل الدراسي الأول وأنا لا أعرف أسماء المواد، تقدم والدي بطلب لتأجيل الامتحان فرُفض، ثم تكرر الحال في الفصل الدراسي الثاني، هنا أصر والدي على التحويل لكلية أخرى، أحسست أني أموت، قد أُهمل دراستي للفنون لكنني كنت أحيا بانتسابي إليها.
انتهى الأمر بقبولي في كلية الآداب، أُغلقت الأقسام المميزة، الإنجليزية والفرنسية، والإسبانية، تقريبًا لم يكن أمامي خيار سوى اللغة العبرية، عدد الطلاب قليل ومجالات العمل بعد التخرج محدودة ومشبوهة، يعرفنا باقي الأقسام بدفعة شالوم، ويتندرون على دراستنا لغة لا يستخدمها سوى حفنة إرهابيين نجحوا في سرقة وطن وإقامة دولة، لغة بلا مستقبل، تتفاوت ردود فعل زملائي بين استمرار لمسيرة إحباط، ومستقبل بلا عمل، إلى شهادة والسلام.
على غير المتوقع، انكفأت على دروسي أضع فيها كل كبتي وضيقي وجنوني، قطعت صلتي بشداد ومن يعرفه، فحصلت على الرغم من بغضي للغة العبرية على تقدير امتياز في السنوات الأربع وكنت الأول على دفعتي، فعينت معيدًا واستمر تفوقي في الدراسات العليا فحصلت على الماجستير في عامين، والدكتوراه في ثلاث وعينت مدرسًا وأنا دون الثلاثين، زادت شهرتي بين الأكاديميين والمتخصصين بمعرفتي الواسعة بالجغرافيا السياسية في إسرائيل ونشأة الأحزاب وتوجهاتها، وضعتني تحليلاتي لمجريات السياسة اليومية وأبعادها في بؤرة الاهتمام لدى جهات سيادية، حصلت على الأستاذية وأنا دون الثالثة والثلاثين ولم أكن قد تزوجت بعد.
مع تقدم درجتي العلمية انتدبت في بعض الجامعات. قسمت الأسبوع بين الجامعات، السبت: عين شمس، والأحد: للمنصورة، والاثنين: للقراءة والكتابة بمكتبي بالكلية، والثلاثاء للقاهرة، وباقي أيام الأسبوع لطلبة الدراسات العليا والجهات السيادية بحسب الأحوال.
في لحظات شرودي أجدني أرسم بالقلم الرصاص على الأوراق، لم أتخلص بعد من عشقي للرسم، أتخيل نفسي لم أقابل الشيخ ولم أسأله، ترى ماذا كان حالي الآن، سؤال غير مساري، ما أتفه حياتنا، كلمات تقلب كياننا، كلمات تُحيل حياتنا جنة وأخرى تقلبها جحيمًا.
في صباح الآحاد، أستقل أتوبيس جامعة المنصورة من أمام الجامعة العمالية بشارع النصر بمدينة نصر؛ حيث ينطلق في السادسة والنصف صباحًا ويصل الجامعة بعد ثلاث ساعات، أتوجه إلى كلية الآداب وأعود في ذات الأتوبيس في الثانية والنصف، يستقل الأتوبيس أساتذة ومعيدون من كليات مختلفة.
في إحدى المرات وأثناء وقوفي منتظرًا الأتوبيس تقدمت مني فتاة تجر شنطة سفر صغيرة وسألتني عن الأتوبيس، أخبرتها أنه سوف يأتي بعد دقائق، ثم أردفت:
- يبدو أن حضرتك أول مرة تسافري في هذا الأتوبيس؟
- بالفعل، عُينت معيدة في كلية الفنون الجميلة بالمنصورة منذ أيام.
- هل أنت خريجة المنصورة أيضًا؟
- لا، تخرجت في كلية الفنون الجميلة بالزمالك العام الماضي. للأسف لم يطلبوا تعيينات جديدة، فبحثت عن فُرص أخرى، وقُبلت في المنصورة.
استمر حديثنا حتى بعد قدوم الأتوبيس وتحركه، عادة لا يمتلأ الأتوبيس فجلسنا على كرسيين متقابلين، أخبرتني أنها سوف تمكث في المنصورة حتى الثلاثاء لتعود مع الأتوبيس وأنها تنزل في فندق الجامعة، عندما وصلنا إلى الجامعة مضى كل في سبيله.
انشغلت بمحاضراتي وبموعد انصراف الأتوبيس، وما إن استقريت في مقعدي حتى تذكرتها، جيهان، هذا هو اسمها، استرجعت بعضًا من حوارنا الصباحي بيني وبين نفسي فابتسمت، فتاة جميلة والأجمل أنها دارسة للفنون الجميلة، عشقي الأول والدائم.
مضت أيام الأسبوع رتيبة بحسب الجدول المعد سلفًا، وفي داخلي أنتظر صباح الأحد بفارغ الصبر، ذهبت قبل موعد الأتوبيس بحوالي نصف ساعة أملًا في رؤيتها مبكرًا، إلا أن الأتوبيس جاء وركبنا وانصرف ولم تأت. كسا وجهي خيبة أمل واغتممت، أخرجت هاتفي محاولًا الانشغال، فبعد قليل سوف يمر الأتوبيس على روكسي حيث ينتظره الأساتذة القريبون من مصر الجديدة ثم يمضي في طريقه إلى موقف عبود ومنه إلى المنصورة.
- صباح الخير "جاءني صوتها متهللًا متهدجًا تتلاحق أنفاسها"
- صباح النور، استريحي، ماذا بك؟
- قالت وهى تجلس إلى جواري "فاتني الأتوبيس في مدينة نصر، فأخذت تاكسي وبالكاد لحقته هنا، خشيت أن يفوتني".
- وأنا أيضًا.
- فاتك الأتوبيس "قالتها فيما اتسعت عيناها اللوزيتان وبدت دهشتها".
- لا أبدًا "قلتها ضاحكًا، ثم أردفت"، خشيت ألا تأتي.
نظرت نحوي في حياء وتخيلت أنها تمتمت "وأنا أيضًا، خشيت ألا أُدركك"، تبادلنا الحديث في موضوعات عديدة وبدا واضحًا حاجة كل منا للآخر، وأن هناك برعمًا أخضر جميلًا ينمو في داخلنا يحرص كلانا على رعايته. تبادلنا أرقام هواتفنا للتواصل وخاصة صباح الأحد إذا تأخر أي منا، بدأ تبادل الرسائل صباح كل يوم ثم تطورت لتصبح في كل حين، نمت علاقتنا وتحدث كل منا للآخر دون حرج، حدثتها عن عشقي القديم للرسم والتحولات التي مررت بها، وحدثتني عن دراستها للفن الإسلامي وكيف يهتم الدكتور أحمد بها ويشجعها، ثم صرنا نتحدث مع بعضنا البعض دون تكليف أو ألقاب، أناديها: جيهان، وتناديني: سامح.
دامت خطبتنا شهورًا قليلة كانت كافية لإعداد شقة الزوجية بشارع حسن المأمون أعلى كافيتريا لافيستا؛ حيث يمتلك والدها العمارة والتي باع منها ما باع واستبقى لنفسه ولكل من ابنتيه شقة، أختها الأكبر منها متزوجة وتقيم في دبي وتنزل مصر على فترات، في ترددي عليها شاهدت سميحة الحسيني، جارتنا في عين شمس تبيع المفارش أمام النادي والتي تزوجت فيما بعد من فاروق السني أحد أصدقاء محمود شداد في مرحلة المراهقة، ولا أدرى إن كانت صداقتهما ما زالت مستمرة أم لا.
تزوجنا وصرنا نسافر المنصورة سويًا فيما غيرت جيهان من جدولها، فصارت تسافر السبت ونعود سويًا يوم الأحد، ثم تسافر الثلاثاء وتعود في نفس اليوم، معاناة تهد الحيل خاصة أن الطرق لم تكن على حال جيدة، أضف إلى ذلك معاناتها في الماجستير وإحساسها أن الدكتور أحمد يبالغ في المطلوب منها، فكلما وصلت إلى نتائج اقترح جديدًا وبدا أن الأمور لا تسير على ما يرام، إلى أن اتصلت بي في يوم وأخبرتني أن الدكتور أحمد سيسافر خلال أيام للعمل فى الخليج، فحدد لها موعد المناقشة بالتنسيق مع اللجنة بعد أسبوع قضته جيهان بالكامل في المنصورة، وشاركتها نصفه الثاني للمساعدة في الإعداد والترتيب للمناقشة إلى أن عدنا بعد المناقشة في سيارة والدها وكلنا سرور بحصولها على الماجستير.
الحكاية السابعة عشر: غُرَبَـاء
لم أصدق نفسي حين جاءني صوته عبر الهاتف. ما زال كما هو بزخمه ونبرته الطفولية وضحكته المتقطعة. مرت سنوات -لا أدرى عددها- منذ آخر لقاء جمعنا. أخبرني أنه عمل في الخليج. طاف ببلاد العباد، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، حتى انتهى به المطاف في أم الدنيا بعد تقاعده المبكر لأسباب صحية.
"الأولاد بخير. ولد نِكدي لأبيه وبنتان جميلتان لأمهما" قالها ضاحكًا، ثم أردف "واحدة هاجرت مع زوجها إلى أستراليا، والثانية تعيد إنتاج قصة أبيها في الخليج"، شدتني ضحكته المتقطعة المميزة إلى سنوات الشباب، وقت كنا نفتعل النكات لنضحك على ضحكته.
انسابت كلماته تلقائية يخالطها شجن إنساني قديم، "الوقت ممل. أصحو من النوم بلا هدف. أتصفح الجرائد. أبدأ بصفحة الوفيات. عرفت أن صديقنا حسن عمران توفي. ترحمت عليه وأقرأ له الفاتحة كل صباح. لم أره منذ تخرجنا. اكتشفت رقم هاتفك بالصدفة". ثم سألني، كيف تقضي وقتك؟.
انتشلتنا ذكريات الجامعة من بحر آلامنا. جرجرتنا إلى صفاء بهتت ملامحه. نبحث عن إبرة الفرح في كومة قش الأحزان. تذكرت سفره للعمل في لبنان صيفًا، ثم عودته متزوجًا في البكالوريوس. نستغرب فعله علنًا ونحسده سرًا، خاصة عندما نتذكر تعليقه" بدلًا من زيارة لبنان، أحضرت لبنان معي" ثم تأتي ضحكته المتقطعة، فنضحك معًا. تزوج فتاة رائعة الجمال. لبنانية وكفى. توقعنا أن ينفصلا في أي وقت، فهو ما زال يدرس وأمامه خدمة عسكرية، وبحث شاق عن العمل، خابت ظنوننا، وظل هناك ما يربطهما. استأجرا شقة صغيرة ملأتها عليه أُنسًا وبهجة، يخرجان معًا صباحًا، هي للعمل في شركة مستحضرات التجميل، وهو للكلية، بينما تكفل ما جمعه من عمله الصيفي بلبنان في الإنفاق عليهما.
نجح بعد تخرجه في الحصول على عمل بشركة أجنبية في الإسكندرية فانتقلا معًا تصحبهما طفلتهما الأولى. يومًا بعد يوم يجتهد ويترقى، انتقل مديرًا لفرع الشركة بالبحرين، ثم مديرًا لفروعها بالخليج. عرف سكينة المنزل، ورغد العيش، وهناءة الحياة. تعلمت ابنتاه في مدارس أجنبية، وحصلا على شهادتهما الجامعية واحدة في الاقتصاد من لندن، والأخرى في الإدارة من باريس. هاجرت الأولى مع زوجها، وابن خالها في نفس الوقت. بينما عملت الأخرى هي وزوجها في مَسقَط، ويكمل الولد دارسته بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
يشكو صاحبنا الوحدة ويستشعر غربة. رفض الإقامة في بيروت مع أسرة زوجته، أو الهجرة لأستراليا بالقرب من ابنته. فضل العودة إلى محل ميلاده ومستقر جثمانه، بحسب تعبيره. إحساسه بالغربة يتنامى بشكل يزعجني. نلتقي يومًا بعد يوم وأهاتفه يوميًّا. ما بدا عارضًا صار مزمنًا. يخبرني هاتفيًّا "نحن في طريقنا إلى الساحل الشمالي، سوف نمكث هناك أسبوعًا أو اثنين". ثم أفاجأ به في الصباح يتصل بي ويخبرني أنه في طريق العودة.
يفضفض قائلًا: "الولد لا أعرف عنه شيئًا. يدخل غرفته فينسى أننا معه. أحادثه فلا يسمع. تشرنقت زوجتي في زقاقات التواصل الاجتماعي حتى لحس (الفيس) عقلها. نَسِيَت المكان والزمان. أكلت الغربة أصدقائي وعمري. ومزق أولادي أحلامي. أشعر بالغربة والوحدة"، ثم يُردف "لولاك لانفجرت". لم أعرفه ضعيفًا أو حزينًا. الغُربة نار تشوينا على جمر الزمن. طبيعي أن تستشعر غربتك في بلد آخر. قاسٍ جدًا أن تغترب في وطنك. أما ما لا يحتمل، فغربتك في بيتك. أن تنظر حولك فلا تعرف أحدًا ولا يعرفُك أحد. تتحدث فلا تُسمع. تنادي فلا تُجاب. بِحارُكَ بلا شُطآن. وسفرك بلا عودة. وحزنُك بلا قرار. إيه .. اللهم ارحمنا في غربتنا.