تتسم السياسة بسرعة التحولات، تتحدد المواقف طبقًا للمتغيرات، لا صداقة دائمة، ولا عداء دائما، وإنما حيث المصالح المشتركة تتجه البوصلة. لا يفرض عدد الأوراق رأيًا على الطاولة، يفرضه تأثيرها.
لا يخفى المشروع النووي الإيراني على أحد، تعلم إيران أن امتلاك سلاح نووي، حتى وإن لم تستخدمه، يغير المعادلة. الوصول إلى الهدف أمر غير يسير. رغم ضخامة التضحيات، لا يزال بريق النتائج المتوقعة أكثر إغراءً.
تعود بدايات البرنامج النووي الإيراني إلي ما قبل الثورة الإيرانية، فبراير 1979، وإن تعثر بعدها وحتى وفاة آية الله الخميني في 1989، حيث كان يري أن تصنيع السلاح النووي ينافي الأخلاق والعقيدة الإسلامية. بمعاودة النشاط، بحثت إيران عن شركاء يساعدونها على تطوير برنامجها النووي فتعاونت مع كوريا الشمالية، وفرنسا، والأرجنتين، والصين، وغيرها من الدول، إلا أن أمريكا وحلفائها كانوا لها بالمرصاد؛ إما إقناع الشريك الأجنبي بالرحيل وترك إيران وحيدة، أو حظر إمدادها بمعدات تمكنها من تخصيب اليورانيوم، أو تعقب علمائها، أو تدمير أجهزتها.
فى يونيو 2009، زرعت المخابرات الأمريكية فيروس ستكسنت Stuxnet فى حواسيب استوردتها إيران من ألمانيا لأغراض بحثية، ما إن وُصِلَت الحواسيب بشبكة المعلومات المرتبطة بمراكز أبحاث الطاقة النووية حتى انتقل الفيروس إلى الحواسيب المسئولة عن مركز بوشهر النووي. صُمم ستكسنت ليعطي الأمر للمحركات داخل أجهزة الطرد المركزية بالدوران بسرعة هائلة قد تؤدى إلى انفجارها، وفى الوقت نفسه، يُظهر رسائل تفيد بأن التخصيب يجرى طبيعيا فيطمئن العاملون حتى يجدوا أنفسهم وقد دُمر عتادهم بعد ما حاصرهم الفيروس.
أيقنت إيران أن وصولها إلى ما تطمح إليه مرهون بأيدي الإيرانيين أنفسهم، فأعدت كوادرها وأخفتهم قدر استطاعتها، إلا أن أعين أجهزة أعدائها كانت لهم بالمرصاد، فاغتالت من ثقل وزنه وتيسر الوصول إليه. مؤخرًا تم اصطياد القط السمين، محسن فخرى زاده، المسئول الأول عن الملف النووي الإيراني. اختلفت الروايات حول ملابسات اغتياله، وظلت حقيقة واحدة لا تقبل اللبس، أنه أغتيل باستخدام الذكاء الاصطناعي.
أيضًا، بعثت عملية الاغتيال عدة رسائل، أولها عمق الاختراق الأمني لشخصيات ذات مناصب حساسة تعلم إيران أنهم مستهدفون، سواء في عملية اغتيال زاده أو اللواء قاسم سليماني في العراق، يناير الماضي، هل كانوا ضحايا ثقة زائدة جعلتهم أكثر تساهلاً، ربما. ثانيها، عدم الالتزام بتعليمات الحماية الشخصية، حيث استخدم زاده سيارة عادية خلاف سيارته المصفحة، والتى ربما كان بمقدورها توفير قدر أفضل من الحماية. ثالثها، أن المراقبة اللصيقة لشخصية ما ينتج عنها كم هائل من المعلومات، ربما كان بعضها غير معلوم ورهن السرية بخلاف التعريف بشخصيات هامة في محيط الشخص المُراقب.
بعد الاغتيال، نشرت صحف إسرائيلية عدة أخبار مفادها أن إسرائيل كانت تراقب زادة منذ أكثر من عشرين عامًا، وأنها تمتلك تسجيلات صوتية له عن برنامج إيران النووي، وغيرها من معلومات، تردد أنها كانت سببًا في إلغاء الرئيس الأمريكي ترامب الاتفاق النووى مع إيران في مايو 2018، والذى وافقت الأخيرة بموجبه، في يوليو 2015، على تقليص أنشطتها النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
في العادة يُسرب خليط من المعلومات الصحيحة والخاطئة بهدف خلخلة ثقة الطرف الآخر في نفسه وشَغلهِ بمراجعة كافة إجراءاته الداخلية وعلاقاته الخارجية ذات الصلة بالملف النووي، وكذلك المسئولين الوطنيين في مستوياتهم المختلفة، ناهيك عن حذره في كل خطواته المستقبلية، حذر ربما يُبطئ أو يؤخر خطوات حاسمة. تُري هل ستتمكن إيران من تغيير قواعد اللعبة، ربما.