آخبار عاجل

الجزء العاشر.. حكايات شارع حسن المأمون لـ الدكتور محمد مصطفى الخياط

12 - 12 - 2020 2:09 637

الحكاية الثامنة عشر: حباطة

لم يتخيل حباطة أن تحقيق حلم حياته سوف يتسبب في مأساة بشارع شهاب المتفرع من شارع أحمد عصمت بعين شمس، يتجاذب فيها السكان مشاعر الأسى والعجب، الشماتة والسخرية، الأنين والضحك الهستيري المخلوط بالدموع. يناديه الجميع حباطة، حتى أوشك أبواه وإخوته أن ينسوا اسمه الحقيقي، محمود. 
تربى في ورشة الأسطى شعبان الميكانيكي الكائنة بحارة عبد الله عفيفي الممتدة حتى شارع العشرين. لم يعرف من التعليم سوى ما حصله في بضعة أسابيع بالصف الأول الابتدائي بمدرسة رفاعة الطهطاوي. لا ينسى جيرانه الزفة الصباحية التي دائمًا ما رافقت ذهابه للمدرسة كأنما يساق إلى الموت. صراخ وصياح ونحيب لا يتوقف حتى بعد إلقائه في الفصل ككيس مخلفات سارع صاحبه بالتخلص منه. استمرار صخبه لم يمكن مدرسي الفصل والفصول المجاورة من التدريس. في بداية الأمر ظنوه أمراً عارضاً فتجاهلوه وعندما لم يتحملوه أخرجوه من الفصل وطلبوا والده الذي راضاه مرة وضربه مرات، ليستسلم في نهاية الأمر ويأخذه من يده ويسلمه إلى الأسطى شعبان وينسى المدرسة.
هناك وجد حباطة نفسه حتى مع شدة الأسطى وتضييقه الخناق عليه وعلى كل الصنايعية في الورشة. أحس بنفسه حرة طليقة يتعامل مع معدات يمسكها بيديه، يتجاوب معها وتتجاوب معه، بخلاف محاولات إرغامه تعلم حروف وأرقام لا يدرى صلتها بالواقع فقامت بينهم عداوة لا تنقطع. تجاوز الستة عشر عامًا بقليل وتحسنت مكانته وخبرته بعمله. عينه الأسطى مسئولا عِدة فحافظ عليها كمِلك خاص. يحصيها كل صباح قبل بدء العمل، وكل مساء قبل إغلاق الورشة والذهاب مع بعض زملائه لشراء ساندوتشات الكفتة من محل فاروق السني ببعض ما حصلوا عليه من بقشيش، أو يشتري علبة مياه غازية من كشك حسين يتقاذفونها بأرجلهم ككرة. حياة بسيطة مفرداتها جنبته الصدام مع تضاريس الجغرافيا وتفاعلات الكيمياء وفروض الفيزياء.
بخلاف الورشة نما حب حباطة للكلاب، يسعد بطاعتها له، ولهفتها عليه لدى رؤيته. تهز ذيولها. تتقافز حوله. تتمسح بساقيه وتمر بينهما. معلقة عيونها بعينيه. في الجانب الآخر، لا يبخل عليها بحفنة من عظم دجاج يشتريها من سيد الفرارجي. اعتادت كلاب الحارة- وهى كثيرة- مصاحبته في مشاويره في الشوارع المحيطة بالورشة، وإن حافظت على عدم الاقتراب من الورشة بعد ما نهرها الأسطى شعبان وهدده بالطرد إن هي اقتربت، فاعتادت أن تجلس بعيداً باسطة ذراعيها معلقة عينيها بحباطة، خاصة قبل موعد إغلاق الورشة بقليل وكأنهم على موعد. 
في ذات الوقت، بدأ شعور حباطة ينمو تجاه امتلاك كلب بوليسي كتلك التي يراها في صحبة بعض الجيران، أو أولئك الذين يمرقون بسياراتهم في الشارع العمومي بينما تحتل كلابهم المقعد الخلفي. حتى عندما راعته أسعارها، التي تعادل أجر سنة من عمله في الورشة، ظل يحلم بامتلاك إحداها.
في صبيحة أحد الأيام، ما إن وقفت سيارة ملاكي بالقرب من باب الورشة حتى تدافعت كلاب الشارع تنبح بشدة تجاهها بعد ما لمحت كلبًا بوليسيًّا بمقعدها الخلفي. فيما تعالى سباب الأسطى شعبان لحباطة ليصل إلى آخر الشارع لاعنًا اليوم الذي رآه فيه، صاح حباطة في كلابه مُبعدًا إياها عن الورشة ثم عاد يهمهم بكلمات غير مفهومة مداريًا بها خجله. نادى على أحد الصبيان ليفتح غطاء سيارة الزبون فيما بقت عيناه معلقتان بالكلب الدوبرمان المتحفز في المقعد الخلفي.
"بكام يا باشا؟" سأل حباطة صاحب السيارة مُشيرًا برأسه في اتجاه الكلب. فأجابه مبتسمًا "تشترى؟"، فرد قائلًا: "والله نفسي، بس بكام؟". "حوالي عشرين ألف جنيه"، أجاب الرجل. على الرغم من شعوره بالضيق إلا أنه عاود السؤال، "ومصروفه اليومي؟"، "من خمسة وعشرين إلى ثلاثين جنيهًا"، قال الرجل في شيء من لا مبالاة. شعر حباطة باليأس يتسرب إليه، فما يتقاضاه في اليوم لا يكفي لإطعام كلب، ناهيك عن ثمنه الخرافي الذي لا يعرف كيف يدبره حتى لو دفع تحويشة عمره لدى أخته فتحية والتي اعتاد زيارتها أسبوعيًّا ليعطيها جمعته، كما اعتاد أن يسمي أجره الأسبوعي، بعد أن يجنب مصروفه.
في موعد زيارته الأسبوعية عرف منها أن تحويشته لا تزيد عن خمسة آلاف جنيه جمعها من عمل عشر سنوات في الورشة، أجر وعيديات من الأسطى شعبان وبقشيش من الزبائن. مضى من عندها حزينًا مكسوفًا يحدث نفسه بأن حلم امتلاك كلب بوليسي صار شبه مستحيل، كما أن أمنيته امتلاك ورشة خاصة متطورة تعمل أجهزتها بالكمبيوتر بدت سرابًا.
مرت الأيام وأوشك حباطة على نسيان حلمه والاكتفاء بالعطف على كلاب الشارع التي رباها جيلًا بعد جيل حتى ظن أن كبارها ربت صغارها على طاعته. "إزيك يا حباطة"، التفت نحو الصوت فوجد البك صاحب السيارة الفارهة، إلا أنه هذه المرة جاء من دون كلبه الدوبرمان. "فين الكلب يا باشا؟" سأله بلهفة، ثم أردف:" بقالنا كثير مش بنشوف حضرتك". "مشاغل يا حباطة، المرة دي جاي علشان عربية الأستاذ حاتم"، قال البك وأشار إلى صديقه.
بينما انزلق حباطة أسفل السيارة لتحديد العطل دخل في حديث مع البك بشأن الكلب، ثم تطرق في الحديث وأفاض عن حبه للكلاب وأمنيته شراء كلب. "حقيقي نفسك تشتري كلب يا حباطة"، سأل الأستاذ حاتم. "نفسي يا باشا ومنى عيني"، قالها بشغف نم عن لهفة. "بتدخن"، سأل الرجل، فأجابه حباطة بالنفي. فسأله "معاك كام"، "حوالى ستة آلاف جنيه" أجاب حباطة، ثم قال "إن شاء الله أوفر حتى أشتري الكلب". "أنا عندي طلبك"، قال الرجل وضحك البك وانزلق حباطة خارجًا من أسفل السيارة ناظرًا نحوهما بعينين مشدوهتين وسأل:" والله يا باشا". "نعم، ووقت ما تحب"، عقب الرجل. فرد عليه في لهفة "الآن"، فتساءل مبتسمًا " معاك فلوس". وقبل أن يجيب تدخل البك ضاحكًا "أنت صدقت يا حباطة، الأستاذ حاتم بيضحك معاك"، فأجاب الرجل جادًّا "أبدًا، أنا جدّ جدًّا". لم يصدق حباطة أذنيه إلا بعد أن اتفق مع الأستاذ حاتم على موعد استلام الكلب الجيرمين شيبرد. 
على الرغم من تبقي يومين فقط، بدا يوم الجمعة بعيدًا. اتفق حباطة مع صديقه سامي الوزة على الذهاب معه لاستلام الكلب بعد صلاة العصر. يعمل سامي في ورشة "دوكو" الأسطى إسماعيل والتي تبعد شارعين عن ورشة الأسطى شعبان. وبين الأسطوات ودّ قديم وعمل مشترك. اكتسب سامي لقب الوزة بعد ما أكل نصيب أبيه من الوزة التي لم يدخل غيرها بيتهم، فكان نصيبه علقة ولقبًا. أسر سامي إلى صديقه بوجود سيارة في الورشة تحتاج شغل لمدة أسبوع، وبالتالي يمكنهم استخدامها في المشوار دون أن يدري أحد ويعودا فيتركا السيارة مكانها.
راجع حباطة مع صديقه خطة وتفاصيل استلام الكلب أكثر من مرة أنهاها سامي بكلمة "لا تقلق". في نفس الوقت زار فتحية على غير موعد وطلب منها وديعته. راوغ في الردود فاستشعرت قلقًا لكنها لم تملك سوى إعطائه ماله وهى تقول له: "يا حباطة دي تحويشة عمرك. شقى عشر سنين. أنت حوشتهم حتى تملك ورشة. لو ضاعوا عليه العوض. ستعيش باقي عمرك صبي ورشة تشتغل عند الناس"، ثم تمتمت "ربنا يستر".
 قبل الموعد بساعة وحباطة يقف مع الوزة إلى جوار السيارة الملاكي المغطى جانبها الأيمن بالمعجون، يلتفت يمينًا ويسارًا بحثًا عن الأستاذ حاتم، فبعد لحظات سوف يرى كلبه الجيرمين شيبرد لأول مرة. تخيل نفسه يمشي به مزهوًّا في شوارع عين شمس، ممسكًا به من خلال حزام جلدي ينتهي بمقبض أنيق. يتحاشاه المارة. تنبح عليه كلاب الشوارع فيبادرها بالنباح والرغبة في مهاجمتها. يعرف فارق القوة بين كلبه وغيره من كلاب تهيم على وجوهها، تفتقد القوة الجسمانية والرعاية. يجذب طرف الحزام مانعًا إياه من الاهتمام بهذه الحيوانات الضالة فيتطلع إليه في طاعة. يأمره بكلمات معينة فينصاع ويعاود سيره الوئيد إلى جواره. تذكر كلاب الشارع ونوى في سره ألا يقطع عطفه عليها، سوف يشتري لها الهياكل العظمية من سيد الفرارجي كما اعتاد، وربما استطاع أن يجعلها تتآلف مع "ركس"، وهو الاسم الذي قرر أن يطلقه على كلبه الجديد قبل أن يراه. 
كان سامي يجلس مربعاً على مقدمة السيارة بينما يحدثه حباطة عن نيته اصطحاب ركس يوميًّا في نزهة صباحية حتى يقضي حاجته، وحاجته إلى الاستيقاظ مبكرًا ساعة ليتواجد في الورشة في الموعد المحدد. وحدثه عن السقيفة التي أعدها للكلب على السطوح. يتحسب من الجيران لكنه سوف يجد حلًّا. كل ما يركز فيه الآن أن حلمه سوف يتحقق بعد دقائق قليلة. لا يهم إنفاقه تحويشة العمر، فالعمر ما زال طويلًا، والعمل لا ينتهي. سوف يكسب ويكسب، ويصبح لديه ورشة خاصة يربط على مدخلها كلابه البوليسية. سوف تكون عنوانًا لورشته.
فضل في طريق عودته مع سامي أن يجلس بالمقعد الخلفي إلى جوار كلبه الهائل الحجم الفائق القوة. لن ينسى نصائح الأستاذ حاتم بأهمية كسب ثقته وتمرير يديه على رأسه وأن يعرك أذنيه من حين لآخر، فهذه علامات المودة، يستكين بها الكلب ويعلم أن ملكيته انتقلت إلى شخص آخر، عليه طاعته التزامًا بمبادئ الوفاء التي تعيش بها الكلاب وتموت عليها أيضًا. دفن الكلب رأسه في صدر حباطة فعلم أنه صار طوع أمره فانشرح صدره وزال انقباضه من غضب أبيه وأمه وأخته حين يعلمون أن تحويشة العمر ذهبت ثمنًا لكلب.
بهدوء، أزاح سامي البرميل من أمام ورشة الدوكو وأعاد السيارة إلى مكانها وحمد الله أن أحدًا لم ينتبه لغيابها. في حين نزل حباطة إلى الشارع ممسكًا بالحزام الجلدي ناظرًا للكلب في سرور وغبطة بدا جسده نحيلًا إلى جوار ركس. رمقه بعض المارة بعيون تتساءل وتتعجب، فتجاهلها ومشى يتبعه حلمه، كما قرر العودة إلى البيت متأخراً تجنبًا لأي مشاحنات محتملة ومفضلًا التمشية مع الكلب في شوارع عين شمس. 
ما إن انتهى المصلون من صلاة العشاء حتى خرجوا يستطلعون سبب ما يسمعونه من صراخ وضجيج يملآن الشارع، بينما تداخلت الأصوات دون تمييز: جري من هنا. لأ من هنا. هجم على الواد حسين. أنا شفته وقع المعلم عوني في الأرض، كان قاعد على القهوة يدخن الشيشة، وشه اتبهدل وكمان صدره. الغريب أنه كل ما يشوف حد بيدخن يجري عليه ويهجم عليه ويبهدله. بتاع مين. حباطة لسه شاريه النهارده. الكلب ضخم وقوى ومش قادر يسيطر عليه. يا عم لأ ده شكله كلب بيشم المخدرات.
جاءت الكلمة الأخيرة بمثابة حجر ألقي فوق رؤوس الجميع. وعندما أفاقوا انفجروا في ضحك هستيري. فالكلب الذي أصاب ما لا يقل عن عشرة أفراد واقتحم كشك حسين الذي علا صراخه، وأقسم من شاهدوه أنه تبول على نفسه من هول الصدمة، وضع الجميع أمام حالة من الذهول بكشفه متعاطي المخدرات، وأن كثيرين ممن ظنوهم أشخاصًا طيبين وفي حالهم، إنما هم "ميه من تحت تبن"، كما يقول المثل.
لم يتخيل حباطة أن حلم حياته تبخر بعد ثلاث ساعات من تحقيقه. في البداية لاحظ توقف الكلب أمام سالم المنوفي الذي كان يدخن سيجارة تشير رائحتها أنها مخلوطة ببانجو مما يبيعه الدوكش في حارة عبد الله عفيفي. الدوكش لا يحمل مخدرات، إنما يوزعها على صبيانه المنتشرين على النواصي. هجم الكلب على سالم، قطع قميصه وجرحه في وجهه وصدره. حاول حباطه منعه، لكن الكلب قوي وضخم. جرى منه، وكل ما يجرى ويقابل مُدخنًا يقترب ويشمه، رجال محترمون اتبهدلوا وخاب ظننا فيهم. المعلم عوني تاجر الإسمنت والذي اعتاد تدخين الشيشة على ناصية القهوة مع البن المحوج والتطلع إلى المارة، جرحه الكلب جرحًا شديدًا في ذراعه الأيسر. هاج الكلب وفقد الجميع السيطرة عليه. بينما وقع الجميع بين شعورين متضادين، الأسى على الجرحى والمصابين والضحك من كلب كشف المستور دون تمييز.
هنا فهم حباطة، لماذا باعه الأستاذ حاتم الكلب بهذا المبلغ، فعندما اتفق معه أراد أن يطمئن أن الثمن مناسب. ذهب إلى هشام في محله لبيع طيور الزينة والحيوانات الأليفة في الألف مسكن، وعرف منه أن أقل سعر لكلب كهذا لا يقل عن خمسة عشر ألف جنيه. تكتم حباطة الأمر، ولم يخبره أنه اشتراه بأقل من نصف السعر. الآن فهم حباطة، لكنه لا يعرف كيف يعثر على الكلب الذي انطلق هائجًا متناسيًا مبادئ الطاعة. حتى وإن عاد فكيف يضمن ألا يتكرر ذلك، كما أن حباطة أصبح يخشى على حياته بعد ما أقسم المعلم عوني على قتل الكلب وصاحبه. 
جرى حباطة في كل الشوارع، اتصل على سامي الوزة وكل من يعرفهم، داروا في الشوارع المحيطة والبعيدة، فتشوا مداخل العمارات، سألوا الكثيرين فلم يعثروا له على أثر. ذهب إلى هشام في محله وسأله عما يفعل، فانهار في ضحك هستيري غير مصدق ما حدث. وعندما استجمع شيئًا من تركيزه أخبره أنه يمكن أن يساعده عندما يجد الكلب، أما الآن فلا شيء، ثم عاود ضحكه الهستيري.
اتصل بالأستاذ حاتم فأنكر معرفته بشيء كهذا ثم اعتذر عن إتمام المكالمة ونصحه بالبحث عن الكلب. عاد حباطة محبطًا يجر ساقيه ويلعن اليوم والساعة التي اشترى فيها الكلب، مشى من شوارع بعيدة عن المنزل. دخل البيت متجنبًا صدور أي صوت، صعد إلى السطوح، نظر إلى السقيفة الفارغة والتي أعدها لاستقبال الكلب. جلس على بابها وانخرط في بكاء شديد.

الحكاية التاسعة عشر: محمود البارودى

يقطن محمود البارودي بالدور السادس من عمارتنا. تنتظره زوجته كل ليلة ليتناولا العشاء معًا. يعود في حدود السابعة مساءً من مكتبه في شارع محمد فريد. محاسب ناجح ومغامر، ترك عمله الحكومي وأسس عمله الخاص محققًا اسمًا وشهرة جيدين في عالم الشركات. بينما تعد المائدة يستمتع بدش دافئ يزيل به شيئًا من هموم وضغوط العمل. "العشاء المقدس" كما اعتاد تسميته. لا يسمح عمله ولا مواعيد دراسة أولادهما بالجامعة أن يتحلقوا حول المائدة سوى في هذه الوجبة التي صارت آخر خطوط الترابط الأسري. بدا مشغولًا فبادرته مستفسرة عَلَّها تكشف ما به، فأجاب:
-    أبدًا. كمال صديقي. يبحث عن زوجه منذ فترة ويلح في مساعدته.
-    وزوجته؟!
-    لا أدري؟! .. لكني أستشعر توافقًا بينهما حول الموضوع. ألمح إلى ذلك.
-    عيني عليك يا هالة.
-    طلب مساعدتي. 
كانت زوجته قد تعرفت على هالة منذ سنوات طويلة في رحلة نيلية جمعتهما من القاهرة للأقصر، اتصلت علاقتهما قليلًا ثم لم تلبث أن انقطعت إلا من أخبار متقطعة تسمعها بين حين وآخر. كعادتها، انشغلت زوجته بأعمال البيت عن طلب صديقه فصار يُذكِّرها بالإشارة مرة وعن عمد مرات أخرى فتعتذر حينًا وتَعرِض عليه، عبر شاشة هاتفها المحمول، صورًا لسيدات ترملن أو طُلقن أو عَنِسْنْ، حينًا آخر. تحدثت عن مزايا كل منهن واعتبارات ذكرتها بعضهن، أملًا في جذب مزيد من الخُطاب، فيما بدت طلباتهن ساذجة تدعو للرثاء والشفقة. استبعد بعضهن ووعد بعرض البعض على صديقه. 
ذات يوم، وبينما كان يتناولان الشاي تطرق الكلام إلى الحديث عن الجيران وسكان العمارة، ألقى الجريدة جانبًا كمن تذكر شيئًا فجأة، ثم قال:
-    أحلام؟ .. 
-    أي أحلام؟
-    أحلام جارتنا في الدور الثالث !!
-    ما بها؟
-    هل تزوجت أم ما زالت أرملة؟
فأجابت وكأنها استوعبت ما يرمي إليه واستحسنته، (هل تقصد كمال ... عروسة لكمال؟ .. أي والله !!)، فأمن على كلامها. بعد يومين عرضت عليه صورتها. افتر ثغره عن ابتسامة وشكرها على صنيعها ثم سألها عن رد أحلام حين عرضت عليها فكرة الزواج وانفرجت أساريره حين أخبرته ترحيبها ثم عقبت (ما زالت صغيرة)، هز محمود  رأسه مؤيدًا فيما راح خياله يمضغ صورة أحلام على مهل.
ما زالت تحتفظ بجمالها رغم وفاة زوجها منذ عدة سنوات. تركها وحيدة بلا أطفال. تخطت الثلاثين بقليل. أحيانًا يلقاها في المدخل صدفة، فيلقي السلام موليًا إياها شطر وجهه. لم ينظر في وجهها كما رآه يوم المصعد والآن في صورتها المضيئة على الشاشة. تفضح شفتاها أنوثتها وينم وجهها عن جمال فطري يخفي ويخبر عن مكنونها الشيء الكثير.
راوح في الأيام التالية رسولًا بين كمال من جهة وزوجته وأحلام من جهة أخرى. يبلغ زوجته الرسالة فتعود بالإجابة من أحلام، أو يرافقها ليعرض عليها ويستفسر منها وينقل إلى صديقه. ثم يصمت اليومين أو الثلاثة فإذا سألته (هل من جديد؟)، أجابها أن كمال لم يحسم أمره بعد. 
في لحظات وحدته وشروده يستشعر شيئًا خفيًّا، غاب عنه منذ سنين. عاوده الحنين. تغيرت زوجته وتغير. اختلفا على قائمة الأولويات. لم يجن من جهوده المضنية لتنبيهها، باللين مرة  وبالشدة مرة أخرى، سوى علاقة غير منتظمة يؤطرها التوتر فآثر السلامة ونسيان الأمر، فضلت دور مديرة المنزل وأيقن نسيانها دور الزوجة. راح يدفن آلامه في عمله، يعطيه كل وقته ويستنفذ فيه جهده. 
على خلاف باقي الصور نسخ صورة أحلام إلى قسم خصوصياته على الهاتف، يسترجعها من حين لآخر، يتأملها، يمشى بأصابعه على ملامحها. صارت تُلح على تفكيره ويلهو بها خياله في وحدته. تمنى أن يفاتحها فيما يفكر فيه، أن يصارحها، يخبرها أنه اخترع قصة كمال المزعوم ليعرف رأيها في الزواج. ود لو أخبرها أن كل الأسئلة التي نسبها إلى كمال إنما هي أسئلته هو. هل تغفر له. هل تقبل منه. هل تظل على رأيها عندما تعرف أنه هو كمال وأن لا كمال سواه. 
أي عذاب هذا. وأي فخ رمى نفسه فيه. وقع في هواها منذ التقيا في المدخل، هي قادمة من عملها وهو ينتظر الحارس ريثما يغلق باب المصعد المعلق في الدور السادس. تجاذبا الحديث وتمنى في داخله أن يتعطل المصعد وتمنى ألا يأتي مطلقًا، ثم إذا ما استقر وفتح الحارس بابه داعبه ثم صعدا معا، أكملا حديثًا ما لبث أن بتره توقف المصعد في الطابق الثالث، فخرجت مودعة ليكمل صعوده إلى شقته متقوقعًا في شرنقة حضورها، مستنشقًا بقايا عطرها. ما زالت صورتها تلك محفورة بداخله. بهية. شهية، فيما بدا هو تائهًا لا يدري من أين يمضي.
ذات صباح، مرت أحلام على جيرانها مودعة بينما العمال منهمكون في نقل أثاث بيتها إلى السيارة الجاثمة أمام مدخل العمارة. أكدوا عليها استمرار التواصل وأكدت عليهم بدورها. سألت نفسها:( أين كانوا حين كنت بينهم، حتى يتذكروني وقد غادرتهم). سلمت عليهم من باب الواجب ليس إلا. ليالي طويلة قضتها بين جدران شقتها وحيدة تتلقى كلمات الاعتذار عبر الهاتف وبرامج التواصل الاجتماعي عن عدم قدرتهم مصاحبتها في أحد المشاوير أو حتى شرب فنجان قهوة معها في شقتها، حجج روتينية مكررة تصلح لكل زمان ومكان، شغل البيت، مذاكرة الأولاد، تعب مفاجئ، وغيرها مما لا ينضب معينه لكل غير مهتم.
في الحي الجديد، راحت تراجع مع أختها الكبرى إلهام ترتيب الأثاث، باعت غرفة نومها واشترت أخرى جديدة وغيرت بعض القطع. انسابت موسيقى هادئة في الشقة المتلألئة. رغم صغر مساحتها بدت جميلة متناسقة. حاولت قدر جهدها أن تنتهي من وضع لمساتها الأخيرة على الشقة. اقتربت الساعة من السابعة مساءً ودعتها أختها على الباب. وشوشتها فضحكت وضربتها برفق على كتفها. هنأتها وتمنت لها ليلة سعيدة بعد ما قرصتها بلطف في خدها. نظرت في عينيها وهمست بتوسل "ادعي لي"، فأجابتها بصوت أم أقرب منه إلى أخت كبرى "ربنا يهنيكم". 
أغلقت الباب. وضعت باقة الورد في منتصف غرفة الاستقبال واتجهت إلى غرفة نومها. أخرجت قميصًا تآمر مع جسدها على إظهار مفاتنه، بعضًا من مساحيق هنا، وكحلًا وعطرًا هنا وهناك. رن جرس الباب. تسارعت نبضات قلبها. ألقت نظرة سريعة على جسدها في المرآة فاطمأنت. نظرت من ثقب الباب. ثم فتحت. دخل محمود  ملقيًا تحية المساء. وقعت عيناه على بوكيه الورد. قرأ الكارت "ألف مبروك للعروسين ... إلهام". نظر نحوها في حب وحنان، بادرته قائلة "أخيرًا. صار لنا بيتنا الخاص"، نظر نحوها صامتًا مبتسمًا، "أشعر أنني الآن حرة وأن لا عيون تراقبني". همس في أذنها "مبروك"، أجابته بخجل مصطنع وغنج فطرى "مبروك لينا"، في الخلفية كانت الشمعتان اللتان أوقدتهما حول باقة الورد تحترقان وتذوبان دون صخب.  
وللحكايات بقية



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved