شهد العالم خلال العقدين الماضيين تغيرات كبيرة في مجال توفير تجارب ومشاريع صحية فعالة ومبتكرة، وكان أحدها التجارب السريرية التي أضحت المتغير الصحي الأكثر قدرة على المنافسة عالمياً، فحتى عام 1990 كانت الغالية العظمى من اختبارات الأدوية والأجهزة من خلال التجارب السريرية، تجريها دول متقدمة ذات دخل مرتفع مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أوروبا واليابان، حيث إن أمريكا الشمالية وحدها كانت تستحوذ على 51.2% من السوق العالمية لهذه التجارب في عام 2019.
وبحلول الألفية الجديدة، دخلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا السباق العالمي، باعتبارها منطقة جاذبة للتجارب السريرية؛ على الرغم من عدم استغلال كامل إمكانياتها، حيث من المتوقع أن يرتفع حجم هذا السوق في منطقتنا من 8 إلى 10 أضعاف خلال العقد المقبل. ووفقاً لتقرير صادر من شركة «جراند فيو» للأبحاث، قُدّر حجم سوق التجارب السريرية العالمية بـ 46.8 مليار دولار (171.7 مليار درهم) في عام 2019، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل سنوي يبلغ 5.1% من عام 2020 إلى عام 2027 بتوقعات إيرادات تصل إلى 69.9 مليار دولار (256.5 مليار درهم).
وفي عالمنا العربي، حدد عدد من المتخصصين في القطاع الطبي، 60 تحدياً تعيق تقدم الأبحاث والتجارب السريرية في العالم العربي، أبرزها ضعف الدعم الحكومي، وقلة الحوافز التنافسية كون الأبحاث من هذه النوع تتطلب دعماً مادياً ومعنوياً، وعدم تخصصية الجوائز الممنوحة للأبحاث الطبية، إلى جانب نقص الخبرات التخصصية، ونقص التشريعات الرسمية المنظِّمة، مؤكدين أن جائحة «كورونا» كشفت ضعف التجارب السريرية عربياً.
وأكد متخصصون أن سبب تأخر الدول العربية في إنتاج أدوية مبتكرة هو ضعف الميزانيات المخصصة لمراكز الأبحاث، والتي قد تقل عن 1% من إجمالي النفقات على الرعاية الصحية في الكثير من الدول العربية، وهي من الأقل عالمياً، رغم امتلاكها للكفاءات والخبرات ورأس المال الكافي لتمويل المراكز البحثية، فهناك أكثر من ٤٠% من البلدان ليس لديها سياسة للبحث الطبي، وأكثر من 85% ليس لديها برنامج للبحث السريري.
ورغم ذلك هناك دول عدة في المنطقة نفذت خطوات طموحة خلال الأعوام الأخيرة لتعزيز القطاع ومجاراة معايير الجودة العالمية، جراء ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة مع أهمية توفير سبل تعتمد التقنيات الحديثة للوقاية المبكرة.
ونجحت لبنان في تسجيل نفسها كإحدى أهم الدول في مجال البحوث السريرية عبر إطلاق «السجل الوطني للأبحاث السريرية»، وتمتلك عدة شركات ومراكز بحثية متخصصة بهذا المجال، فيما تعد مصر من أكثر الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط، ريادة في مجال التجارب السريرية، وتعد أيضاً الثانية أفريقياً والخامسة عالمياً بالنسبة لاستضافة التجارب السريرية، وتستعد لإطلاق قانون شمولي للتجارب السريرية.
وخليجياً، أطلق المجلس الصحي السعودي مبادرته الوطنية بإنشاء هيئة سلامة الدواء ووحدة متخصصة بـ (التجارب السريرية وتطويرات المختبرات)، حيث تمتلك المملكة ما لا يقل عن 20 مركزاً بحثياً في التجارب السريرية الحكومية والخاصة مع نخبة من الباحثين والخبراء في هذا المجال.
غياب الاستثمار
في هذا الملف نسلط الضوء على تحديد سبب غياب الاستثمار الحيوي لهذا القطاع في المنطقة العربية، رغم فائدته الكبيرة، ويتركز الملف على 5 محاور رئيسية وهي: واقع التجارب السريرية داخل الوطن العربي والإمارات، وكيفية تقييم التحديات والعمل على تجاوزها، وكيفية الاستفادة لمستقبل الخمسين، والتجارب الناجحة في الوطن العربي، واستطلاع الآراء المشاركة في التجارب السريرية.
ومن أجل فهم الرؤية الشاملة لهذا القطاع الحيوي، يجب أن نبدأ بسؤال جوهري: ما هي التجربة السريرية؟، حيث تُعرفها منظمة الصحة العالمية بأنها: «أي دراسة بحثية تعين مستقبلياً مشاركين بشريين أو مجموعات من البشر لواحد أو أكثر من التدخلات المتعلقة بالصحة لتقييم الآثار على النتائج الصحية. هذا يعني أن الأشخاص مدعوون للمشاركة في الدراسة التي قد يتلقون فيها التدخل الجديد، ويتم متابعتهم بمرور الوقت لتحديد ما إذا كان يعمل كما هو الحال مع أي صناعة».