الحكاية العشرين : أحـــلام
وحيدة أنا وسيجارتي وفنجان قهوتي. لا صوت. لا حركة. يتمطع الملل حولي مستمتعًا بجو مثالي. أعود إلى شقتي فأنقطع عن العالم وينقطع العالم عنى، بابها بوابة جنتي صباحًا، حين أغادرها، وبوابة جهنم عصرًا، حين أعود إليها. أتوجس اقتراب الساعة من الخامسة عصرًا، موعد الانصراف من العمل. أتردد في دخول الشقة. حال ما أدخل أقذف حذائي المعلق بقدمي فتستقر كل فردة في ناحية، ألقي حقيبتي والمفاتيح على الترابيزة. أضيئ الطرقة، يتمدد اللون الأصفر في الفراغ باهتًا بليدًا، أتعمد إلقاء ملابسي يمينًا ويسارًا كسرًا للروتين وبأن في هذا البيت شيئًا حيًّا يتحرك، ويرفض، ويغضب، وكثيرًا ما يثور.
منذ فارقني أحمد زوجي، والغرفة تزداد برودتها يومًا بعد يوم. من أكثر من ثلاثة أعوام، وعلى أثر آلام مفاجئة في البطن، دخل المستشفى وأجرى له الأطباء عملية الزائدة الدودية، مثله مثل ملايين قبله وبعده، لكنه تفرد بتلوث الجُرح؛ ليخطفه طائر الموت ويختفي في الفراغ الكالح الرمادي بحثًا عن صيد جديد، أُلَوح له فيتجاهلني، أقذفه بغضبي ويأسي وجنوني دون جدوى. لم يمر على زواجنا سوى ثمانية أعوام، عشنا فيها أسعد زوجين، أشبعته حبًّا وأشبعني عشقًا. لم نرزق أطفالًا. منذ رحل والحياة بلا طعم ولا لون. تشققت أرضي وأوشكت بساتيني على الذبول.
مللًا، أجلس أمام التلفاز، أُمدد ساقيَّ على الطاولة الصغيرة، أضع الأكل في طبق واحد، الأرز واللحم والسلطة والخضار، أمضغ على مهل، أحملق في الشاشة المضيئة، أتنقل من قناة لأخرى دون بوصلة تحدد رغباتي، مسلسل، نشرة إخبارية، إعلانات، برامج حوارية مملة، فقط لأقتنع أن الزمن يمر. من قال إن سرعة دوران الأرض ثابتة. هُراء. وخداع. هل يمر الزمن في فترات الحزن والألم والترقب بنفس إيقاعه في الفرح والسعادة؟، لا، بل ثقيل جدًّا على الحيارى والمجروحين والمكلومين.
أغطس في مواقع التواصل الاجتماعي، أتبادل رسائل استهلاك الوقت، ألبي دعوات الخروج مع صديقاتي ومعارفي دونما تردد، تفصيل ملابس، زيارة طبيب، تسوقًا، وأحيانًا توصيل أولادهم إلى دروسهم الخصوصية. أقبل ونادرًا ما أرفض. على العكس من ذلك، عندما أشكو الوحدة وأبدأ رحلة يأسي منقبة عن جليس، عن صديقة، عن جارة، أدعوهن لفنجان قهوة مع بعض الحلويات، تنهال على سيل اعتذاراتهن.
عصر أحد الأيام وجدت محمود ينتظر المصعد ريثما يحضره حارس العمارة بعد ما نسي أحد السكان إغلاق بابه. لم أره منذ فترة، بدا ودودًا راغبًا في الحديث. على غير عادته، لم يبعد عينيه عن مجال جسدي تركهما على راحتهما تتجولان، تهرولان وتتمشيان، ترتفعان وتهبطان، تختفيان وتظهران. بغريزة الأنثى أحسسته يفتشني، ولولا شيء من حياء لصلبني وراح يتأملني. غادرت المصعد وأنا أحس صهد عينيه في ظهري.
بعدها بعدة أسابيع هاتفتني سلوى، زوجته، تستأذن في الجلوس معي بضع دقائق. علاقتنا ليست وطيدة يحكمها البروتوكول. أعددتُ فنجاني قهوة رشفناهما خلال تبادل أسئلة رفع الحرج، الأولاد والمدارس، والعمل، بعدها أخبرتني وجود عريس. حدثتني عن كمال صديق زوجها، وشكرت فيه حينًا وحزنت لزوجته حينًا آخر، حتى صرت في حيرة وتساءلت، هل تختبرني أم تبحث عن زوجة لكمال. بعد انصرافها انتابني شعور متباين، حينًا ألُوم نفسي على تسرعي بالرد وحينًا لا أجد في ذلك شيئًا من حرج، فأنا لم أقبل العريس بعد، ولكني قبلت أن نلتقي ثم يقرر كل منا، مثله مثل غيره ممن تقدموا لي خلال السنوات الماضية واضطررت لرفضهم. لم تكن عروضًا متكافئة ففضلت كتم صرخات وحدتي في داخلي وحمل لقب أرملة في صمت.
بعد أيام من التواصل المتبادل أخبرتني رغبة زوجها معرفة بعض التفاصيل مني مباشرة، عندما زارني بدا مختلفًا شيئًا ما، تنظر عيناه إلى لا شيء. بعد ما غادرا رحت أسترجع شريط الحوار شيء مت بداخلي يخبرني أن هناك أمرًا غير عادي، لا تبدو الأسئلة نقلًا عن شخص، إنها أسئلته هو، ورحت أتخيله الزوج المنتظر، ثم ضحكت من سذاجتي وعمدت إلى صنع فنجان قهوة منتظرة ما سيسفر عنه الغد. تكررت الزيارات وفي كل مرة يترسخ لدي أن لا كمال في الموضوع وأن العريس المنتظر ليس سوى حسام نفسه، ومع هذا آثرت التجاهل، من ناحية أعرض طلباتي دون حرج ومن ناحية أخرى يُخرج كل ما عنده.
ظُهر أحد الأيام، اتصل بي وطلب مقابلتي، مر عَلىَّ بعد انتهاء عملي، ذهبنا إلى مطعم الشجرة، وما إن استقر بنا المجلس حتى نظر في عيني ثم راح يعترف في هدوء (لا كمال، ولا أحد آخر يطلب الزواج، أنا من يطلب منك الزواج)، قال محمود، ثم انتظر ليرى تأثير كلماته عليَّ. بدا وجهي قطعة ثلج كأني لم أسمع شيئًا. كرر كلامه وزاد عليه (.. اضطررت لذلك خشية أن ترفضي، رأيتها وسيلة آمنة لمعرفة رأيك بحيادية، إن كان إيجابيًا صارحتك بالحقيقة، كما أنا الآن، وإن غير ذلك طويت آلامي في صدري صامتًا). انتظرته حتى أفرغ كل ما لديه، ثم أخبرته معرفتي بالحقيقة. سألني ملهوفًا (كيف عرفت؟)، فأجبته بهدوء:( من عينيك).
ينتابني إحساس بالذنب تجاه سلوى، أتخيل ردود فعلها تجاهي حين تعلم بزواجي من محمود. أتنهد. يأكلني الألم. يقرقش عظامي وأحاسيسي. يتلذذ بحيرتي. آخذ نفسًا عميقًا من سيجارتي. أقف أمام المرآة أضع كحلًا ثقيلًا حول عيني، أُسوي شعري، أرفعه، أعبث به، أبدو غجرية تصرخ عينيها بلهيب لغة الكون الأولى. أتأمل سهولي وتلالي، أرضي وجبالي، بساتيني وثماري. أتضرع للسماء. أبتهل كي يهطل المطر. طال انتظاري على أغصان الصبر. أترقب الربيع وكف البستاني في مواسم الحصاد. تتأجج في داخلي نار حيرة وقلق. تقهرني وحدتي. أطلب محمود على الهاتف. يتوتر صوتي. يأتي صوته قلقًا، (لا شيء .. فقط أردت أن أعرف متى نعقد القران)، قلت له، يتهدج صوته على الجانب المقابل، (وقت ما تحددين)، يرد بفرح.
أخبرته بصعوبة أن أظل في ذات العمارة وأنني عرضت شقتي للبيع، ابتسم وناولني مفتاح شقة يملكها في القاهرة الجديدة، رغم صغر مساحتها جعلتها تليق بعروسين يبدآن حياتهما الجديدة، جهزتها بأحسن ما يكون الأثاث ولم يبخل عليَّ في طلب. ساعدتني أختي وزوجها في إنهاء الكثير من الإجراءات، خاصة أننا عقدنا القِران وسافرنا على ظهر مركب من الإسكندرية إلى اليونان وقبرص وتركيا، من ميناء إلى ميناء، تَلَفَّعْنا بالشمس والبحر والحب. عوضته سنوات من الحرمان ومنحني عمرًا كاد يضيع على ناصية اليأس، ولتغفر لي سلوى.
الحكاية الأخيرة: عيد ميلاد الراوى
منذ خرجت إلى المعاش وأيامي تمضي على وتيرة شبه ثابته، المسجد المقابل لما تيسر من صلوات، والنادي الأهلي في نهاية الشارع ثلاث مرات أسبوعيًّا، والطبيب مرة كل ثلاث أسابيع. تزوج الأولاد وصارت الوحدة ثالثنا، أنا وزوجتي. وافق الأمس عيد ميلادي. تلقيت اتصالًا من ابنتي، اعتذرت عن عدم تمكنها من الحضور وتقبيلي على وجنتي كالمعتاد، تستعد ابنتها لامتحان الشهر في المدرسة الابتدائية. للتأكيد على عدم تقصيرها أقسَمت أنها لم تصحب أولادها للنادي الكائن في نفس الشارع منذ أسبوع، هونت عليها وأنني لا أزعل منها أبدًا، وسأنتظرهم متى سمح الوقت.
مر أسبوعان على آخر مرة رأيتها فيها، عادة لا أحتفل بعيد ميلادي، أحيانًا تطلب زوجتي تورتة فنشرب معها الشاي سويًّا. على خلاف العادة انتظرت عيد ميلادي هذا العام، في داخلي رغبة مُلحة كي أرى الأولاد والأحفاد رغم علمي أنني سوف أصرخ فيهم بعد ساعة من وصولهم وآمرهم بصوت كله ضجر أن يكفوا عن صخبهم. حلقت ذقني في الصباح، اتصلت على الفكهاني، وحجزت بالتليفون تورتة من محل الحلويات الغربية في أول الشارع، نظفت زوجة حارس العمارة الشقة، واتصلت بمطعم "أكل البيت"، طلبت محشي كرنب وورق عنب، وشددت على زيادة كمية محشي الكوسة التي تحبها ابنتي وابنها الصغير، أمليته العنوان (25 شارع الشهيد محمد مصطفى). انتقدت زوجتي تصرفاتي وبذخي فلم أهتم، كنت ألبي رغبة ملحة بداخلي تبحث عن خيط فَرح، عن سرسوب سرور. "طالع لجدك" كثيرًا ما ترددها زوجتي لحفيدنا في إشارة إلى حبي للمحشي. حاليًا لا يمكنني أكله، انضم مع الوقت إلى قائمة المحظورات التي يضيف الطبيب إليها سطورًا مع كل زيارة. بعد مكالمة ابنتي، اتصلت بالحلواني، والفكهاني، والمطعم، طلبت موافاتي بفواتير الحساب فقط، واعتذرت بأنني سأغير مكان استلام الطلبات إلى (15 شارع الشهيد محمد مصطفى)، حيث تقطن ابنتي.
****** ****** ***** *****
يأتيني صوت ابني عبر الهاتف، كآلة ترغب في الانتهاء من واجباتها المملة في أسرع وقت، عادة يزورنا وأخته، المقيمة في نفس الشارع، مع أولادهما كل جمعة فينقلب البيت رأسًا على عقب، أما ابنتي الثانية المقيمة في الإسماعيلية والتي تزورها أمها يومين من حين لآخر، فعادة تأتي في الإجازات، نصف ونهاية العام الدراسي، والأعياد، وبما يسمح لها بقضاء يومين معنا، أما زوجها، الذي يعمل في هيئة قناة السويس، فيقيم عند أسرته في مصر الجديدة. هذه هي الأيام التي يتغير فيها نمط حياتنا بعد خروجي إلى المعاش، عدا ذلك تمضي الأيام رتيبة وبطيئة إلا من بعض مشاكسات مع زوجتي.
- أبحث عن الجريدة من الصباح، أين هي؟ لا أشك أنك فرشتِها لنفطر عليها اليوم؟!
- من يسمعك يعتقد أننا آخر الليل، الساعة لم تغادر الثامنة صباحًا. أنا لم أحضرها من على الباب بعد. هل أحضرتها أنت؟ أم أنا من يجب أن يحضرها.
- اعتدت أن أجدها على ترابيزة السفرة، أنتِ من يقوم بذلك؟
- معلهش، اتعب النهاردة وهاتها.
أتجه إلى الباب مفتعلًا الغضب، بينما أداري ابتسامتي، بعد هذا العمر معًا لا تُفرق بين جدي وهزلي، وأيضًا لا تتورع عن صب جام غضبها عندما يفيض بها الكيل.
****** ****** ***** *****
علمني سفر زوجتي ليومين عند ابنتي قيمة نقارنا اليومي، مِلح الحياة وبهاراتها، كم اختلفنا حول أشياء تافهة اكتشفت اليوم أنها تعطي حياتنا معنى وطعمًا محببين، منذ سفرها أمس وأنا أستشعر فراغًا، حتى مع اتصالاتها الدائمة، وغدائي عند ابنتي في نفس الشارع، ظننت أن ما ستتركه من صمت في الشقة سوف يعينني على مزيد من الهدوء والاستمتاع بالقراءة فإذا بالصمت يأتي وصويحباته، الوحدة، والحيرة، والضيق.
آوي إلى مقعدي أسفل الشباك، أتصفح الجريدة بدءًا من صفحة الوفيات، حيث الأخبار المؤكدة، ثم أتابع قراءتي من الشمال لليمين. كلما توغلت يمينًا زاد الشك في المكتوب. سحبت كتابًا من مجموعة اشتريتها منذ أسابيع طويلة ولم أبدأ في قراءتها بعد، أحس بالملل، أعددت كوب شاي أخضر واستعذت بالله وقررت معاودة القراءة، ألح عليَّ توتر الصمت والهدوء، نحيت الكتاب جانبًا، مررت على مواقع التشتت الاجتماعي، رسائل باردة بلا روح، تحيات صباح، دعوات لم يقرأها من أرسلها، ألقيته جانبًا. زممت شفتيّ، تمشيت في الشقة الباردة في عز الصيف، تناولت الهاتف مرة أخرى.
- أين أنتِ؟ عجبتك القعدة عند بنتك؟ متى تأتين؟ لا تضيعي حقوقي كي تُرضي ابنتك.
- يا راجل... نسيت إني لسه ماشية امبارح بعد الظهر، مش قلت لي تعالي آخر الأسبوع؟، ممكن تقل لى ناقصك إيه.
لم أجد شيئًا أرد به، هل أعلن لها هزيمتي أمام غيابها، وحيرتي في وحشتها، أم أُكابر وأطلب منها أن تزيد المدة أسبوعًا آخر، نظرت في الجريدة المهلهلة أمامي، وقلت
- مش لاقى الجورنال.
- شفت عند الباب؟
- ....
- طيب أجيبه منين أنا دلوقتي، كلم البواب يشتريه، ولا عاوزني أشتريه من الإسماعيلية واجيبه لك؟!!
- آه. بالظبط كده !.
- ....
قلت وعلى شفتي ابتسامة ماكرة، "تعرفى، عندى فكرة لكتاب جديد، إن شاء الله يعوض ما فات، ستنهال الطلبات لشراء حقوق طبع كل مؤلفاتى السابقة والجديدة، سوف ...."، قاطعتنى صارخة "كتاب تانى ... لم يعد فى البيت مساحة أضع فيها كتبك ... امتلأت الزوايا والأركان بجثثها ... ألا يكفى ما نشرت ... كم بعت منها حتى الآن ... لا شيء ... من قرأها غيرك؟ ... لا أحد، حتى أولئك الذين تهديهم إياها لا يقرأون ... أضعت مكافأة نهاية الخدمة على جيوب الناشرين ... أين يجدوا مثلك؟ ... إياك أن تمس ما تبقى من نقود ... سأعود اليوم ولن ترى منها جنيهاً واحداً ..."، ارتسمت على شفتي ابتسامة نصر وأجبتها بتجهم "فى انتظارك ... إن شاء الله نتحدث فى الأمر عندما تصلين .... سلام ..."، ولم انتظر ردها، أغلقت الهاتف وانفجرت فى ضحك هستيرى ورحت أردد "أخيراً وجدت للكتابة فائدة أخرى ... ستعود اليوم"، ثم محاولاً محاكاة دندنة نجاة الصغيرة "ما أحلى الرجوع إليه ... ما أحلى الرجوع إليه ....".
تمت