بإسدال الستار على الحرب العالمية الثانية وجهت الدول كافة جهودها لإعادة البناء والتنمية، وارى الثرى ملايين الضحايا ولم تُبق القنابل حجرًا على حجر، طال الخراب الجميع. سياسيًا، منح انتصار بريطانيا ونستون تشرشل، رئيس الوزراء ورئيس حزب المحافظين، أملاً في نتائج الانتخابات العامة عام 1945، ولكن كان للناخب رأي آخر؛ فاز كليمنت آتلي، رئيس حزب العمال. طبقًا لمتطلبات المرحلة، يتخذ الناخبون قرارهم.
عندما علا نفير الحرب اختار الناخب تشرشل ذو الخلفية العسكرية المميزة منذ الحرب العالمية الأولى، إيمانًا بقدراته على مواجهة الأزمات ووقف أرتال القنابل الألمانية على لندن صباح مساء، ويقينًا في قيادته الإمبراطورية البريطانية نحو النصر. أدار مع مساعديه اقتصاد حرب؛ أَمَنَ احتياجات جيوش لا تغيب عنها الشمس وشعب موزع وقته بين المخابئ والمصانع. إلى جانب احتضان المقاومة الفرنسية، حيث أتاح للجنرال شارل ديجول ملاذًا آمنًا نظم منه حركة المقاومة الداخلية ضد الاحتلال الألماني. وعندما انتهت الحرب، وجاء وقت التعمير، اختار الناخب قائدًا آخر.
منذ عدة أيام أظهر استطلاع للرأي في بريطانيا احتمال فقد بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، مقعده في انتخابات 2024 بعد ما حقق حلم الأغلبية بالخروج من الاتحاد الأوربي، بريكست، انفصال تام لا رجعة فيه، بعد نحو 48 عاما من العضوية، وعبر جلسات طويلة وشاقة من المفاوضات تمكن الطرفان من إبرام اتفاق تجاري بعد أكثر من أربعة أعوام ونصف من التصويت لصالح الخروج من الاتحاد.
جونسون الذي كان وزيرًا للخارجية في حكومة تريزا ماى (2016 – 2019)، استقال مع وزراء آخرين -اعتراضًا على إدارتها ملف الخروج من الاتحاد الأوربى- مما اضطرها للاستقالة والإعلان عن انتخابات مبكرة فاز فيها جونسون وتعهد بتحقيق الخروج الكامل، لكن الطريق لم يكن مفروشًا بالورود.
قدم في سبتمبر 2019 برنامج البريكست إلى البرلمان، فخسر الجولة بفارق سبع وعشرين صوتًا منهم واحد وعشرين من حزبه؛ المحافظين. فما كان من رجل يعتبر تشرشل مثله الأعلى، إلا أن دعا لانتخابات تشريعية مبكرة اكتسح بها مقاعد البرلمان وفتحت له أبواب الانفصال عن الاتحاد، في حين مُني حزب العمال بهزيمة مدوية، استقال على إثرها زعيمه جيرمي كوربن.
لا يتوقف التشابه بين تشرشل وجونسون على امتلاك كل منهما روح التحدي والإصرار والمثابرة، بل تمتد إلى الحياة العملية، فكلاهما مارس العمل الصحفي والكتابة والتأريخ وأصدر عدة كتب. بعد خسارة تشرشل في انتخابات عام 1945 أمام كليمنت آتلي، قسم وقته بين قيادة المعارضة في مجلس اللوردات وبيته الريفي لكتابة مذكراته عن سنوات الحرب العالمية الثانية، أصدرها في ستة مجلدات، استحق عنها جائزة نوبل للآداب عام 1953، أي بعد فوزه في انتخابات عام 1951 وانتزاعه مقعد رئاسة الوزراء من غريمه مرة أخرى.
تُرى، هل يحذو بوريس جونسون حذو تشرشل -إن خسر في انتخابات عام 2024- هل يعتكف في بيته ويؤرخ لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، يسجل لحظات الإخفاق والنجاح، الخداع والولاء، وعندها ستكون شهادة غير مسبوقة من رجل صنع الأحداث، وربما ينال عنها نوبل. وفي نفس الوقت يراجع حساباته؛ فيسد ثغرات حزب المحافظين تمهيدًا للجولة القادمة. معاودة الوقوف بعد الانكسار ليست أمرً هينًا، تحتاج عزيمة وإصرارا وروح تحد وقدرة على المواجهة، وجميعها سمات يمتلكها جونسون.
وختامًا، فسواء قرأنا قرار الانفصال من منظور أوروبي يراه خسارة فادحة لبريطانيا، أو من زاوية بريطانية تراه مكسبًا كبيرًا، سيظل جونسون –في نظر البريطانيين- رمز البريكست، كما ظل تشرشل رمزًا للنصر.