
لكل كاتب قلمه الخاص. يستقى مرادفاته من ينبوع تشكله الثقافة والتعليم والمعتقدات، الحقيقى منها والأسطورى، وكذلك البيئة المحيطة به. من هنا تأتى أهمية معايشة الأحداث عند الرغبة في الكتابة عنها. نشأ نجيب محفوظ في حى الجمالية بالقاهرة فكتب ثلاثيته الأشهر، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية. تشبعت رواياته بأجواء الحارة، الفتوات المسيطرين، والحرافيش المقيمين على الهامش. مع استئثار القاهرة بكتاباته دون غيرها من المدن، واستطاع بأدواته صياغة حكاياته، واطلق رسائله بمعانيها الظاهرة والباطنة، بداية من عنوان رواياته إلى تفاصيل الحوار.
تحرك محفوظ في جغرافيا رواياته وأزمنتها بحرية. لا تتجاوز جغرافيا رواية زقاق المدق أكثر من عدة أمتار، ومع ذلك جسد من خلالها تداعيات الحرب العالمية الثانية بين جبهتين عالميتين، الحلفاء والمحور، على حياة بسطاء يعيشون على الهامش. تهرب حميدة، فتاة الحارة الجميلة، من المنزل وتتعلم الرقص والغناء. في الوقت الذى يسافر فيه خطيبها، عباس الحلو، للعمل في معسكر الإنجليز بحثاً عن المال. يعود عباس ويبحث عن حميدة حتى يجدها في بار، فتتصاعد الأحداث وتصاب بطلقة رصاص من جندى إنجليزى، ويحاول عباس إسعافها ويخرج بها سريعًا، إلا أنها تلفظ أنفاسها على مدخل الحارة.
بعيداً عن ضجيج القاهرة وجفائها، تزخر روايات الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد بأجواء البحر، المراكب، رائحة اليود الطازج، وشاطئ المتوسط؛ حيث يلتقى ابناء الثقافات الشرقية والغربية. قبل الكتابة، يغمس عبد المجيد قلمه في بحرها فتتمدد حروفه المبللة على حواف السطور. ضمت مؤلفاته العديد من الروايات: "قناديل البحر، غواية الأسكندرية"، وسكندرياته الثلاث: "لا أحد ينام في الإسكندرية، طيور العنبر، والأسكندرية في غيمة". على نهج محفوظ، وقع عبد المجيد في فخ المدينة الواحدة.
زمنياً، تعد رواية "لا أحد ينام في الأسكندرية"، الخط الموازى لزقاق المدق، دارت أحداث كلا الروايتين فى فترة الأربعينينات، وتحديداً خلال الحرب العالمية الثانية. كَثَفَ محفوظ الأحداث العالمية وحافظ على تفاصيلها ثم رصها بعناية في بقعة صغيرة بحجم فنجان قهوة، بينما امتدت مساحات عبد المجيد من الأسكندرية إلى العلمين مُضَفِرًا العديد من العلاقات الإنسانية. صداقة الشيخ مجد الدين القادم من الدلتا بدميان المنحوت من صوان صعيد مصر. عملهما معًا في مكتب السكة الحديد بسيدى جابر.
رحلات اكتشاف الذات. حكايات ركاب قطار الأسكندرية / مطروح. جلسات سمر جنود الحلفاء، في صحراء العلمين، والمرغمين على خوض حرب ليسوا سبباً فيها. سودانيون، مصريون، وهنود دفع بهم المستعمر الإنجليزي للحرب. صارت الغارات على الأسكندرية طقساً يومياً ينتهى بضحايا ومصابون جدد.
من قلب المأساة تتقارب العلاقات الإنسانية. عبر إطار الصداقة، يستشعر دميان حاجته للالتزام الدينى. تشغله الرهبنة، لكن القدر أسرع، فعلى إثر تدمير مكتب السكة الحديد بمطروح يستقل الصديقان القطار هرباً إلى الأسكندرية، وفى الطريق تدمره قذيفة أطلقتها إحدى الطائرات الألمانية ليعود مجد الدين وحيداً، يفكر في العودة إلى قريته بعد ما فقد صديقه، وبعد مناقشات عديدة مع زوجته يقرران الاستقرار في الأسكندرية. في الصباح، يعود إلى عمله بمحطة السكة الحديد بسيدى جابر. قطارات شتى تنطلق صوب وجهتها. يمسح بظهر كفه دمعة سبقته حين يرى القطار المتجه إلى مطروح ومنها إلى العلمين، متذكراً صديقه دميان.
روايتان تاريخيتان عن الحرب العالمية الثانية كُتبا بفاصل زمنى يصل خمسين عامًا، قدمت الأولى صورة لحارة منسية في القاهرة، والأخرى لشارع شبه مجهول في الأسكندرية، ليظل الإنسان هو المحور الرئيسى للحكائين أملاً في ميلاد فجر جديد.