
لا أذكر كم مرة قرأت رواية (سارة) للأستاذ محمود عباس العقاد. أعود إليها فأرى فيها نمطًا صعبًا للسرد، سهلاً للقراءة. ذلك أن العقاد بفكره الجامع العميق في نواحي الآداب والعلوم، وامتلاكه ناصية اللغة لا يصدر عنه ما اعتاد الكُتاب إرساله إلى المطبعة. عندما تحدث عن الشخصيات الإسلامية كتب العبقريات؛ عبقرية عمر، وعبقرية الصديق، وعبقرية علي، وعبقرية خالد، وعلى رأسها تاج العبقريات؛ محمد (ﷺ). وعندما سُئل سؤالاً عابرًا عن أي اللغات أكثر ثراءً، أصدر كتابه الماتع (أشتات مجتمعات في اللغة والأدب)، ثم أتبعه بكتاب فريد عن (اللغة الشاعرة)، مبينًا ومبرهنًا تفرد العربية على غيرها، لا من قبيل التعصب ولكن مُحللاً ومُدققًا وشارحًا ومُفصلاً أصول جذور اللغات، وأجروميتها، وصوتياتها، وتطورها، وما دخل عليها فطغى، وما أهمل فنُسي، كتابة خبير أريب محيط ببحور اللغة ويابستها.
أحب الشعر فنشر خمسة دواوين خلاف ما نظم ولم يُنشر؛ هدية الكروان، بعد الأعاصير، وحى الأربعين، عابر سبيل، وأعاصير مغرب، وموقفه من الشعر الحر معروف؛ عُرض عليه وقت كان رئيسًا للجنة الشعر ديوان (الناس في بلادي) لصلاح عبد الصبور، فأحاله إلى لجنة النثر.
أخذ العقاد نفسه بالشدة فغاص في نواحي العلم والأدب، من الفلك والنجوم إلى قراءة الطالع، ومن علم الحشرات إلى الدورة الدموية، لم تقف مطالعاته على قراءة قشور تكفيه لكتابة مقال، أو التلميح لها في معَرِضِ كتاباته، بل قراءة متخصصٍ مدققٍ صاحب رؤية ورأي.
عندما تقرأ (سارة)، لا تجده يعرض لعلاقة عاطفية جمعت رجلاً وامرأة وحسب، لكنه راح يحلل ما اجتاحهما من عواطف ومشاعر تباينت مع سير الأحداث، مستخرجًا كل دقيق خفي في يسر ثم يعرضه سهلاً على القارئ فلا يجد فيه غرابة ولا نشوزا، بل يتمهل معه ويهرول جزلاً نشطا بحسب السياق ودون أن ينفصل عن الأحداث. وتجده في مواضع أخرى يعرض آفاق معارفه الرحبة، عن الطيور، والفلسفة، والطهى، والآثار، والأزياء، وأصل الأجناس، وغيرها عرضًا لا يخل بالسياق ولا يخرج عنه.
يقول عن (سارة): "هي تجربة نفسية كان لا بد لها أن تكتب في يوم من الأيام. مزيج من الواقع والخيال". أراد لها أن تكون (رواية تحليلية أو تحليلاً روائيًا)، كتبها ليجرب قلمه في القصة، وهو باب لا يراه عالي المقام بين صنوف الأدب الأخرى، خاصة إذا قورن بكتب الفكر.
استخدم العقاد فى عرض الرواية أسلوب الاسترجاع أو ما يُطلق عليه (الفلاش باك Flashback)، حيث يبدأ العمل الفني من موقف معين، ثم يتوالى في الاسترجاع بين تقديم وتأخير، مما ناسب جو قصة تدور حول صراع نفسى يعتمل في داخل البطل، (همام)، تجاه محبوبته، (سارة)، فتارة يراها أقرب لراهبة وتارة لمستهترة. امرأة تعلمت في الغرب وخبرت من الحياة الكثير رغم صغر سنها.
ولأنه العقاد، ولأننا كشرقيين مولعون بكشف الأسرار، فقد راحت الظنون تدور حول من تكون (سارة)، فقالوا إنها الأديبة مي زيادة، وكانت وقتها حديث المجتمع بمقالاتها وصالونها الأدبي وسعة اطلاعها مع إتقانها عدة لغات، وقال آخرون بل هي الممثلة (هنومة خليل) المعروفة باسم مديحة يسرى، رجمًا بالغيب، ويقول فريق ثالث بل الكاتبة والمترجمة أليس داغر، وسواء كانت واحدة منهن أو أخرى لا يعرفها إلا العقاد، ستظل تلك الرواية يتيمة دون شقيقات يشبهنها في التركيب والنَظم والتحليل، فلا العقاد حي ليكتب غيرها، ولا هناك أحدُ غيره يطاوله قامة وعلمًا فيكتب توأمًا لها أو حتى شبيه.