لم يكن الشيخ عمرو بن أحمد، قاضي قوص بمحافظة قنا يعلم أن السيدة التي ستطرق بابه مساء تلك الليلة سوف تغير مسار حياته، كان قد أوى إلى فراشه بعد ما اطمأن على ولديه الصغيرين. طرق الخادم باب غرفته معتذرًا بأن سيدة فقيرة، ممن يبعن الملح تريد مقابلته. قَتل الأمير جُمُق ابنها، وجاءت للقاضي تطلب القَصاص. كان الحكم قد صدر بالحبس على والد الطفل بعد ما اعترف بأنه القاتل، أصرت المرأة أنه اضطر للاعتراف تحت وطأة التعذيب.
في الصباح، أرسل مساعديه لتقصي الخبر فأكدوا صحة ادعاء بائعة الملح. كان القاضي يعلم أن الأمر لن يكون سهلاً مع المماليك، فالمتهم ابن الوالي، الذى ما إن علم بتحركاته حتى ثار وعزله وحبسه، فيما استطاع عمرو بمساعدة أصدقاءه تهريب أولاده إلى جدهم، قاضي القضاة، مع رسالة إلى السلطان برقوق يطلب مقابلته.
عندما وقف بين يدي السلطان، قص عليه ما حدث وطلب منه أن يكون كعادته نصيرًا للعدل. أدرك السلطان أن إقامة الحد على أحد المماليك ستكون له تبعات كبيرة، وربما مسته شخصيًا، لكنه وبعد مراجعات طويلة نفذ الحد في ابن الوالي أملاً في ردع المماليك، وتوجيه رسالة غير مباشرة لهم، بأنه لا يخشى تهديداتهم التي زادت خلال الفترة الأخيرة.
ثارت ثائرة المماليك، وحشدوا جنودهم وهاجموا القلعة، وقبضوا على السلطان برقوق والقاضيعمرو، وقضيا سنة معًا في الأسر، حتى استطاع أنصار السلطان رشوة الحراس وتهريبه، وبقي بعدها عمرو سنة أخرى، اختلطت فيها الحقائق عليه بالخيالات، وتمنى الموت من شدة التعذيب، ولأن الأيام دُول، استطاع السلطان برقوق اقتناص الحكم مرة أخرى، وأفرج عن عمرو وعاد قاضيًا على قوص، بعد ما خرج منها خائفًا يترقب بطش الوالي الذى هرب إلى الشام.
في ذلك الوقت، كانت قوص تنافس القاهرة والإسكندرية في مكانتهما، قِبلة للتجارة، ومعبرًا للحجيج، ومحلاً لجَمَالِ العمارة والتخطيط. عاد عمرو إليها بين مشاعر متباينة لسكانها، منهم من يراه عادلاً كالقديسين وجريئًا كالمجانين، ومنهم من يراه مختالاً مغرورًا يبغي المناصب كجده عبد الكريم الذي عُرف بجرأته وقربه من المماليك، وخاصة الأمير محمد عبد الله المحسني، والد شادِ العمائر، محمد بن بُليك، مُصمم وباني مسجد السلطان حسن.
عين السلطان برقوق، عمرو في منصب قاضي القضاة وهو دون الأربعين وانتقل إلى القاهرة، فأثار ذلك حفيظة المشايخ جميعًا، بما فيهم جد أولاده، وخاصة بعد زواجه من سيدة من قوص كان قد قضي بطلاقها من زوجها، فكثرت الألسن والمكائد عليه لدى السلطان، فاعتزل منصبه واكتفي بالتدريس في مسجد السلطان حسن، واهبًا نفسه للعلم، فعين له السلطان حارسًا جركسيًا، ومع الوقت توطدت العلاقة بينهما. عرف منه عمرو أنه قد سُجن أيضًا عندما انقلب المماليك على السلطان برقوق، فأقسم إن تولى السلطنة ليحولن سجن (خزانة شمائل)، بشارع المعز لدين الله والملاصق لباب زويلة، إلى مسجد، وهو ما حدث وأسماه باسمه، السلطان المؤيد شيخ بن عبد الله المحمودي.
كانت تلك حكاية أخرى من حكايات ريم بسيوني الشائقة في روايتها (أولاد الناس..ثلاثية المماليك)، من حكاية مسجد السلطان حسن إلى قاضي قوص، الذي استمرت الحياة به وبأولاده، يتغير عليهم السلاطين تغير الليل والنهار، وإذا طاش المماليك وقامت بينهم حروب، اعتزل العامة الحياة وأغلقوا الدكاكين ريثما تنتهي الحرب ويوزع السلطان الجديد الحلوى على الناس، لحظتها يخرجون ويحتفلون قرب النيل، وما هي إلا أيام ثم يفرض السلطان المُكوس (الضرائب)، وهكذا دواليك.