عندما مات زوج شقيقتي، بقيتْ في البيت أكثر من ثلاثة شهور، لا تبارحه حتى لزيارة ملحّة لطبيب. كان الطبيب يحضر بنفسه، أما هي فقد ظلت جالسة على أريكتها قبالة الكرسي الفارغ، تبلّل وجهها بالدموع، حتى ظننا أن المرأة هالكة لا محالة.
ولطالما رجوناها أن تخرج، وتخلع ثيابها السوداء، وتكتحل، وتتعامل مع الأمر كأنه جرى ويجري، وسيجري لجميع الناس، لكنها ظلت وفية للحظة الحزن النادرة، التي شعّت من داخلها، وأثمرت كمداً شديداً وإحساساً مرعباً بالفقدان.
وعندما مات أبي، وكنتُ فتى صغيراً لم يتجاوز الثامنة، تجمّعت نسوة الحارة وقريباتي وخالاتي حول الجسد المسجّى، ورحن يمزّقن ملابسهن من شدة الجزع، وأذكر أن الدموع ضمّخت الغطاء الملقى على جسد أبي البارد. وكنت أفكر بخيال الطفل أن بمقدور ذلك النواح أن يُحيي الميت، ويعيده إلى الحياة فرحاً بهذا الحب العظيم، الذي شعر به لا محالة. ولما أخفقت توقعاتي وآمالي حسبت أن أبي سينام أبدية عميقة، يشعر خلالها بالطمأنينة والسكينة والحبور، وهو ما حُرم منه في حياته العابرة القصيرة المعفّرة بالشقاء والتعب، بصحبة قلب أثخنته الأيام بسهامها.
وحدث ذات يوم أن أعلن جارُنا عزمه الزواج، فمضى يجهّز الزينة، وينصب الأضواء، ويحضّر مكبّرات الصوت، إيذاناً بالليلة الكبيرة، فغداً زفافه من ابنة عمه، التي ظل ينتظرها سبعة أعوام حتى ناهزت السنّ القانونية. وكان يتحرّق لتلك اللحظة، في حين كانت أمه ترقص غيرَ مصدّقة بأن ابنها البكر سيتزوج، وسيمنحها عما قريب لقب جدة.