غادر دنيانا منذ أيام الشاعر الفلسطيني مُريد البرغوثي، أو شاعر الدهشة كما يُخبرنا به شعره، اعتاد صياغة أبياته بعفوية رجل مفرط في بساطة العرض وإقامة البراهين مع لغة تقليدية، يدون ملاحظاته واستنتاجاته المدهشة على الهامش ويرحل في هدوء، راسمًا على وجوهنا نصف ابتسامة، تقف بين الدهشة والإنكار. يقول في قصيدته "استراحة" (غالبني النعاسُ في انتظارِ نجدة تأخرت/ باعدت جثتين/ ونمت هادئا بينهما(. قارن بين نعاس لا يعرف ذهنًا مشغولاً، وذهن مشغول يتطلع لقدوم النجدة، فلما تأخرت لم يجد بُدًا من الرقاد في مدينة الموتى.
عاش يلاحقه الإحساس بالمطاردة، ترن في أذنه خطوات المخبر السري ويغشاه ظله آناء الليل وأطراف النهار، فجاءت قصيدته "تفسير"، (شاعر يكتب في المقهى/ العجوز ظنّته يكتب رسالة ً لوالدته/ المراهقة ظنّته يكتب لحبيبته/ الطفل ظنّه يرسم/ التاجر ظنّه يتدبر صفقة/ السائح ظنّه يكتب بطاقة بريدية/ الموظف ظنّه يحصي ديونه/ رجل البوليس السري مشى نحوه ببطء !). كلما قرأت لمريد اكتشفت أن هناك وسيلة أخرى لفهم ما حولك بطريقة أكثر بساطة، طريقة خارج أُطر التنظير، واللغة النحاسية، والياقات المُنشاة، وشاشات التلفزيون، والميكروفونات.
ولد مُريد في إحدى قُري مدينة رام الله بالضفة الغربية، وتصادف حصوله على ليسانس الآداب من جامعة القاهرة مع احتلالها من جانب إسرائيل. على إثر ذلك، مُنع من دخولها، فصارت طيفًا يلازمه في تنقله بين البلدان العربية والأوربية، وحين أعيته المحاولات البائسة للعودة كتب بحثًا عن مخرج (لا بُدَّ أنّ هناك طريقةً أُخرى/ لا بُدَّ أنّ هناك قبطاناً آخر/ لا بُدَّ أنّ هناك شراعاً أكثر متانة/ لا بُدَّ أنّ هناك سُفُناً لا تغْرَقُ مَرَّتيْن/ لا بُدَّ أن يحيا المَرْءُ أوَّلاً ويموتَ ثانياً).
وبعد قرابة الثلاثين عامًا تمكن من زيارة قريته، فكتب روايته (رأيت رام الله) وصَدَرَها بعبارة شعرية (العالم كله خلفي وعالمي أنا أمامي). حقًا، يحن كل منا إلى موطنه، حتى وإن كان حفنة من رمل أو بيتاً من طين. يظل الوطن أُمًا مقدسة.
عاد مُريد من زيارته لرام الله بأوجاع وطن مفتت تتناثر المستوطنات في أنحاءه، وبوابات التفتيش على نواصيه، ولعل ما كتبه الشاعر محمود درويش في قصيدة وصف فيها وقفة المفكر إدوار سعيد أمام بيته المسلوب في القدس معبرًا عما أحسه مريد، (وقفتُ على الباب كالمتسوِّل/ هل أطلب الإذن من غرباء ينامون/ فوق سريري أنا.. بزيارة نفسي لخمس دقائق؟/ هل أنحني باحترامٍ لسُكَّان حُلْمي الطفوليّ؟/ هل يسألون: مَن الزائرُ الأجنبيُّ الفضوليُّ؟). إحساس دائم بالغربة والشتات.
تزوج مُريد من رضوى عاشور (1946 – 2014)، أستاذة الأدب الإنجليزي ومؤلفة روايتي ثلاثية غرناطة والطنطورية، ومعًا عاشت الأسرة شتاتًا آخر، قضت شطرًا كبيرًا منه تتنقل بين العواصم والمدن والمطارات، فوصفها قائلاً (أنتِ جميلة كوطن محرر/ وأنا متعب كوطن محتل/ أنتِ حزينة كمخذول يقاوم/ وأنا مُستنهض كحرب وشيكة).
عندما رحلت رضوى كتب في رثائها (افتحوا الأبواب لتدخل السيدة/ من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب ينشغل عن المحبوب/ الآن أطلب من حزني أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر هادئاً كما أشاء أو هادراً كما يشاء لكن دون أن يلفت الأنظار). ومن يومها وهو يستعد ليلحق بها، جمع أشعاره وكلماته وتأهب للرحيل، كما اعتاد دائمًا، وعندما حان الأجل (باعد بين جثتين) وتمدد بينهما بحثًا عن وطن افتقده في دنياه ووجده في آخرته. وداعًا مريد.