كلمةٌ في إنسانية سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم وليّ عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي
يذكر المؤرخون في سيرة الإمام المفسّر فخر الدين الرازي (ت 606 هجرية) رحمه الله، أنه كان رجلاً رقيق القلب جداً، عميق التأثير في النفوس، لا سيّما حين كان يجلس على كرسيّ الوعظ، ويذكرون من دلائل رقّته أنه كان حين يشرع في درس الوعظ كانت تأتي حمامةٌ رقيقة فتحطّ على كتفه وتبقى ساكنةً حتى ينتهي الفخر الرازي من درسه، في إشارةٍ منهم إلى أنّ هناك أُلفةً بين الأرواح الرقيقة، وأنّ ذلك من علامات كمال إنسانية الإنسان، وهو قولٌ صحيح لطيف، وإليه أشار الإمام أبو حامدٍ الغزالي في حديثه عن مراحل الأُنس بين الإنسان ومظاهر الطبيعة والكون.
تذكرتُ هذا كلّه حين شاهدت ذلك الفيديو الرائع الجميل الذي يصوّر سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، وليّ عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، وهو يحنو على حمامة ضلّت طريقها في عرض البحر، واستبدّ بها العطش والتعب بعد أن تاهت في عُرض الخليج كما يتيه الإنسان في مجاهل الصحراء، وحين أبصرها سموّ الشيخ حمدان خاطب أصحابه في رحلة البحر قائلاً: «يا الربع، فيه حمامه بعيده تعبانه»، ليأمر بعد ذلك بتخفيف سرعة اليَخْت كي تصل هذه الحمامة الجميلة التائهة، وأخيراً وصلت واضطربت أجنحتها بشدة عند الوصول دلالةً على مبلغ التعب الذي وصلت إليه، ومدى ما أصابها من العطش، ويبدو أنها شعرت بكرم الضيافة، فلم تجد حرجاً في أن تحطّ على وسادة سموّ الشيخ حمدان، ولتبحث بلهفة عن قطرة ماء تروي بها ظمأها، فوجدت بقايا من الماء على طرف اليخت، فكانت فرصة لسموّ الشيخ لاختبار إحساسها بالألفة، فاقترب منها بلطفٍ ملحوظ، ووضع لها الماء في صحن خاص، وهناك ظهر عطشها الشديد، حيث أقبلت على الشرب غَبّاً، ولم تشعر بأدنى خوف حين اقترب منها سموّ الشيخ الذي ظلّ يرقبها حتى ارتوت كبدها الحرّى، واطمأنت روحها الملهوفة، خاطبها قائلاً: «هلا يا حمامه، اخلصتْ مهمتنا، عندك دبي برّ الأمان، برّ الإمارات»، لتنطلق هذه المطوّقة الرقشاء ذات الطوق البُنّي الجميل وهي ترفرف بجناحيها وكأنها تؤدي التحية والشكر لإنسانية سموّ الشيخ، ولفتته الكريمة لهذه الحمامة الرقيقة الحائرة، في مشهدٍ عميق التأثير في النفس، فالمواقف الجميلة لا تقتصر على جنس الإنسان، بل هي شاملة لكل ما هو موجود على ظهر هذه الأرض العامرة بالمخلوقات، وهو ما عبّر عنه النبيّ المصطفى، صلى الله عليه وسلّم، أروع تعبير حين قال: «في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر»، ليكون عمل الخير نابعاً من روح الإنسان العميقة الإحساس بالرحمة والخير، فكيف إذا كان الإنسان شاعراً مرهف الإحساس بالأشياء في جميع تجلياتها.
إنّ «الحمامة» ذات حضور عميق في وجدان الشعراء منذ القديم، وتحفل دواوينهم بالكثير الرائع من الشعر الذي يحكي قصة الانسجام بين الحمامة والإنسان، وهي واحدةٌ من رموز الحب بين الأحباب، فهي رسول العشاق، وهي رمز الوفاء للحبيب المفارق، وحين تهدل الحمامةُ بصوتها العذب الرخيم يذوب قلب أكبر الشعراء، ويعبّرون عن هذه المشاعر بأروع الأبيات، ومن ذلك قول قيس بن المُلوّح يصف بكاء الحمامة في جُنح الليل:
لقد هتفتْ في جُنح ليلٍ حمامةٌ
على فَنَنٍ تدعو وإني لنائمُ
فقلتُ اعتذاراً عند ذاك وإنني
لنفسيَ فيما قد رأيتُ للائمُ
أأزعمُ أني عاشقٌ ذو صبابةٍ
بليلى، ولا أبكي بُكاءَ الحمائم
كذبتُ، وبيتِ الله لو كنتُ عاشقاً
لَما سبقتني بالبكاء الحمائم
ونختم هذه الكلمة المتواضعة بمقطع من أبدع ما جادت به قريحة الشعر العربي في محبة الحمام والأُنس به، وذلك ممّا ذكره ابن داود الأصبهاني الفقيه في كتابه البديع «الزهرة» الذي عقد فيه فصلاً جميلاً بعنوان: «في نَوْحِ الحمام أُنْسٌ للمنفرد المستهام» ذكر فيه الكثير من رقائق الشعر في هذا المعنى، نذكر منه قول الشاعر وهي أبيات طائرة الشهرة في الشعر العربي، نظراً لِما اشتملت عليه من ملامح الرقة والحنين الصادق العفيف:
ألا يا حمامات اللِّوى، عُدْنَ عودةً
فإني إلى أصواتكنّ حزينُ
فعُدْنَ، فلما عُدنَ كِدْنَ يُمتْنَني
وكدتُ بأسراري لهنّ أُبينُ
ولم ترَ عيني قبلهنّ حمائماً
بكينَ ولم تدمعْ لهنّ عيونُ
سيبقى هذا الموقف الإنساني النبيل محفوراً في الذاكرة، عميق الدلالة على إنسانية فارسٍ مرهف القلب، لا تمنعه فروسيته التي يعتلي بها ظهور أشرس الجياد من أن يرِقّ قلبه لحمامة هائمة في عرض البحر تبحث عن قطرة ماء ولحظة أمان، فجاء بها الحظ السعيد إلى مَن يُكرمها، ثم يطلقها حرة في سماء دبيّ التي تحفظ العهد وتعشق روعة الإحسان.