في لحظات الرخاء يصعب التمييز بين نماذج القادة والفرسان، لكنّ الشدائد والتحديات هي التي تكشف عن أصالة المعادن وأخلاق الرجال، وصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، هو واحد من رجال الشدائد والتحديات، ففي اللحظة التي تختفي فيها الأصوات، ويتوارى بعض الرجال عن مواقعهم يطلع هذا الفارس الصنديد، وبنبرة الزعيم الواثق يضخّ في عروق أبناء الوطن أصفى أنواع الدماء وأكثرها غزارة وقوة، صانعاً بذلك منهج حياة عاشه شابّاً يتلقى دروس التحدي في سياق البناء التاريخي المبكّر للوطن حين كانت الدولة تشقّ طريقها نحو الحياة، فأورثه ذلك المنهج قيمة الثبات والإصرار على استخراج أفضل ما في الإنسان من كنوز القوة والتجدد والإبداع.
تغمرني الثقة الحقيقية حين أسمع صوت صاحب السموّ وهو يتحدث عن قيمة الزمن في صنع الحياة، وكيف أنّ الإرادة الإنسانية لا تعرف الفتور ولا التواني وهي تواجه تحديات عصرها، فضلاً عن ربطه الرائع بين مسيرة الماضي وسيرورة الحاضر وصيرورة المستقبل، فهذا هو شأن القادة العِظام: الإحساس الواثق بأنّ الزمن تحت السيطرة، وأنّ الأزمنة الثلاثة متشابكة متكاملة فلا مجال لإضاعة لحظة واحدة من الزمن لأنّ هذه اللحظة يمكن أن تكون ظرفاً لإنجازٍ من نوعٍ ما صغيراً كان أو كبيراً، وفي هذا السياق تتوقف هذه القراءة عند الكلمة الثاقبة لصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد التي نشرها على حسابه في إنستغرام تحت عنوان: ومضة قياديّة، والتي شدّد فيها على فلسفة الوقت ودعا بنبرة واثقة إلى تجديد العزيمة والإرادة في بناء الوطن.
«مشاكل العالم لا تتوقف، لو قلنا من أربعين سنةً إننا نحن بنتوقف حتى يدبّ الأمن كان ما وصلنا لمكان». بهذه العبارة القوية يفتتح صاحب السموّ كلمته منطلقاً من طبيعة الحياة التي جُبلت في جوهرها على وجود العقبات واستنفار طاقة الإنسان لمواجهة التحديات {لقد خلقنا الإنسان في كبَد} (البلد: 4)، وهذا يعني بالضرورة أن يكون الإنسان مستيقظ الملكات على ما سوف يواجهه من تحديات وصعوبات، ثم يضرب صاحب السموّ مثالاً من الواقع الذي نحياه، فلو توقفنا منذ أربعين عاماً وتعلّلنا بالخوف والحذر وعدم القدرة على الإنجاز لكانت النتيجة أن نظلّ نراوح مكاننا وربما تقهقرنا إلى الوراء، لكنّ كل هذه الإنجازات التي تبهر العالم تمّت ضمن ظروف لم تكن سمناً على عسل، وكم كانت توصيات المستشارين توصي بالتريث وعدم اتخاذ القرار لكن القيادة السياسية كانت تستشرف ببصيرتها أنّ الوقت هو وقت العمل وركوب ظهر المغامرة وعدم تضييع الفرص المتاحة، وعدم الوقوف في طابور الانتظار حتى تأتي اللحظة التي نظنها نحن مناسبة تحت وطأة مشاعر الخوف والترقب، لكنّ الإرادة الجازمة والعزيمة الحاسمة هي التي كانت وراء ما نحن فيه من حقيقة الإنجاز والتقدم.
«لا بدّ أننا نحن نستمرّ في النموّ، ونجتهد في حقّ شعبنا وبلدنا ونطوّر»، وتأسيساً على الجملة السابقة التي افتتح بها صاحب السموّ كلامه جاءت هذه الجملة كثمرة لتأكيد العزيمة وفتح الأفق الواسع أمام الإرادة الإنسانية في سبيل الحفاظ على وتيرة العمل والتقدم في هذا الوطن الذي قامت بنيته الأساسية على قيمة التنمية واستثمار الوقت وطاقة الإنسان، فالإمارات تأسست تحت فاعلية الروح النشيطة، وما زالت تستلهم الجهود الضخمة التي بذلها رجال البناء الكبار، فهي ثقافة موروثة وأسلوب حياة ليس طارئاً على بلدنا الحبيب الذي يستحق بحسب عبارة صاحب السموّ أن نجتهد في حقّ هذا الشعب ونطوّر مسارات العطاء والإنجاز التي تفتح الآفاق وتأتي بالجديد.
«نحن ما نضيّع الوقت، الوقت يمرّ ولا يرجع مثل ماء النهر ما يرجع»، ومن قلب إيقاع الحياة يقتنص صاحب السموّ هذه الحكمة التي تتمثل فيها ثلاثية البساطة والعمق والصدق، فالوقت كالنهر لا يمكن أن تقطع الماء نفسه مرتين، بل إنّ جَرْية الماء التي تمرّ أمامك لا يمكن استعادتها وكذلك الوقت في فلسفة الحكماء، وليس من الحكمة في شيء إضاعة الوقت في الفراغ واللهو، فالوقت هو الحياة، ومَنْ ضيّع الوقت فقد ضيّع الحياة، ومن ضيّع الحياة فهو غير جدير بها.
«نحن لازم نستمرّ في العطاء والتقدم لبلادنا ولشعبنا ولمجتمعنا، فلا نتوقف ولا نفقد الأمل، وكل يوم نتعلم شي جديد»، وبهذه العبارة الفيّاضة بالعزيمة والقوة والأمل يختتم صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد هذه الكلمة المُلهمة التي تنعش القوى العملية والأخلاقية لدى الإنسان، فالمنهج الذي يختاره صاحب السموّ هو الاستمرار في العطاء، والغاية التي يتغيّاها هي مزيدٌ من التقدم والرفعة للبلاد والشعب والمجتمع، والحادي الذي يحدو هذه المسيرة هو الشعور القوي بالأمل، والثقة بالمستقبل القادم، والأخلاقية التي توجّه هذه الدولة هي التواضع والإحساس بقيمة التعلم والإصرار على ذلك، فنحن بحسب نظرة صاحب السموّ لسنا من سكان كوكب آخر، بل نحن بشر نمتلك إرادة قوية ونعمة متمثلة في الأمن والطاقة البشرية والموارد الثمينة وليس من الحكمة أن نُبدّد شيئاً من هذا في غير الصالح العام الذي يزيد من قوة الوطن وسعادة أبنائه، ويجعل الأجيال اللاحقة تذكر رجال هذه المرحلة بكل خير لأنهم يلمسون عمق نظرتهم ونفاذ بصيرتهم حين كانوا يمتلكون هذا النمط النادر من الشجاعة والإقدام، تماماً كما نتذكر بفيض الامتنان جهود الرواد الأوائل الذين وصلوا بهذا الوطن الطيب الجميل إلى أعلى مدارج الرفعة والسؤدد بين الأمم والشعوب.