
لم تكن مجرد ستة أيام عصيبة تعطلت فيها الملاحة بقناة السويس، كانت حلقة من حلقات حكاية القناة، ونقطة توقف عندها الزمن قبل أن تتوقف الملاحة بين ضفتيها، ومشهدًا أعاد رسم ملامح رجال بسطاء الحال عظماء القيمة، أيام ست كان فيها الوطن على المحك، وللأيام الست في تاريخنا ذكريات قاسية استدعت سنوات من الكفاح والتضحيات، وصدق أمير الشعراء حين قال (قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعاً).
كانت تحديًا مراوغًا يصعب معه تقدير الوقت اللازم لإعادة الأمر إلى ما كان عليه قبل تعطل الملاحة، فَفُتح سقف المخاطر على مصراعيه. تلونت أسهم البترول في البورصات العالمية باللون الأخضر؛ صعودٌ متواصل بمتوسط 1-3% يوميًا، فما أن انفرجت الأزمة حتى اكتست باللون الأحمر، ومن قبلها وجوه الشامتين بحمرة الخجل.
علاقة مباشرة بين القناة والتجارة العالمية، وتحديدًا إمدادات الطاقة من نفط وغاز طبيعي. تأخر وصول الشحنات إلى مواطن استهلاكها في أوربا وأمريكا الشمالية يستدعي شبح الموت صقيعًا. في فبراير الماضي، ضربت عاصفة ثلجية ولاية تكساس تعطلت معها مصادر انتاج الطاقة. انقطعت الكهرباء وقتل ما يزيد عن 20 شخصًا صقيعًا. وتكرر المشهد في هولندا، وبلجيكا، وألمانيا، وانجلترا.
من هنا، تسعى الدول لتأمين إمداداتها من الطاقة، بمعني اتاحة مصادرها اللازمة للتنمية الاقتصادية بكميات كافية، واستقرار نسبي، وأسعار مقبولة، لطرفي المعادلة؛ الدول المستوردة والمستهلكة. ولتأمين الإمدادات عدة معان، للحاضر طمأنينة دوران عجلة الاقتصاد بأذرعها المنتشرة في كل زاوية، وللمستقبل التخطيط لمزيد من التقدم والرفاه.
تحديات عدة تواجه مصادر الطاقة بين طبيعية، بأن تتواجد آبار البترول أو الغاز في مناطق تتهددها الأعاصير والبراكين، مثل منطقة خليج المكسيك حيث 48% من مصافي النفط الأمريكي. وأخرى أمنية أخطرها هجمات منشآت أرامكو السعودية في بقيق وهجرة خُرَيص سبتمبر 2019، أو تعرض الناقلات لتخريب متعمد كما حدث مع عدة سفن في الخليج العربي أواخر العام الماضي، آخرها هجوم بزورق مفخخ على ناقلة نفط بميناء جدة السعودي، أو جراء اضطرابات عرقية، كما في إقليم كردستان حيث خطوط إمدادات البترول التركي، أو نتيجة انقسامات داخلية، كما حدث في جنوب السودان قبل الانفصال.
أيضًا، يعد مرور ناقلات البترول أو الغاز عبر مسارات مائية ذات طبيعة ملاحية معقدة مثل مضيق هرمز/باب السلام المتحكم في نفط الخليج العربي، ومضيق ملقا الرابط بين المحيط الهندي، حيث نفط الشرق الأوسط، والمحيط الهادي، مستقر الأسواق الآسيوية، ومضيق باب المندب الواصل بين البحر الأحمر وخليج عدن. وهناك قناة بنما وتربط المحيطين الهادي والأطلنطي، علاوة على قناة السويس.
وربما لا توجد كلمة تعبر عن قيمة قناة السويس ومكانتها توازي أو تفوق تعبير استاذنا جمال حمدان، حين وصفها بأنها (نبض مصر، والقلب النابض في النظام العالمي، ومركز النقل الأول في أوروبا). وبها أرخ الأستاذ محمد حسنين هيكل للصراع العربي الإسرائيلي وتبعاته عالميًا، غروب بريطانيا وفرنسا وشروق أمريكا.
قناة السويس، حكاية عشق ونار، بداية من توهج فكرة حفرها، وافتتان الخديوي إسماعيل بأوجيني، زوجة نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا، تلك المرأة خمرية اللون، المسكونة بالسلطة، حتى قرار تأميمها في يوليو 1956، فالعدوان الثلاثي بعده بثلاثة أشهر، فحرب الأيام الست وإغلاقها لنحو ثمان سنوات، ثم حرب أكتوبر 1973 واستخدام مائها كمذيب للساتر الترابي على الضفة الشرقية، فإعادة افتتاحها في يونيو 1975، ثم محاولات بعض الإرهابيين النيل منها، ثم افتتاح القناة الجديدة في أغسطس 2015، وصولاً لانتهاء محنة الأيام الست الأخيرة. حفظ الله الوطن.