آخبار عاجل

أمل دنقل ... رحم الله الأمل.. بقلم د محمد مصطفى الخياط

20 - 05 - 2021 8:57 594


تعرفت على شعر أمل دنقل من المقاطع المدونة فى مجلات الحائط بالكلية. لم يكن الفضاء الإليكتروني قد ولد بعد، والكمبيوتر الشخصي يحبو بطيئاً خَجِلاً. اجتذبت القصائد ذات الجَرْسِ النُحاسي أطياف شباب ينقبون عن غدٍ واعد في حاضر قَلِقْ وغامض، ليقترب استشراف المستقبل من قفزة في ظلام لا يدرك أحد تبعاتها. امتلك أمل ناصية اللغة فتأبط مقاليد الشِعرَ الحر، الذى صنفه استاذنا العقاد تحت بند النثر، وقت ترأسه لجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب منتصف الخمسينيات.  

بعد أيام من نكبة 1967 نشر أمل قصيدته (البكاء بين يدى زرقاء اليمامة)، متخذاً من ذخائر التراث زاداً للحاضر. يُروى أن امرأة زرقاء العينين رأت جيش الاعداء يتقدم نحو مضارب قبيلتها، اليمامة، متخفين خلف فروع الأشجار، فحذرت قومها فَسَخِروا منها وشككوا في نظرها، وما هي إلا أيام حتى فاجئهم العدو، فقتل وأسر، فندموا وقتَ لا ينفع الندم. يُسقط أمل القصة على الحاضر، وكيف أهمل متخذو القرار، حينها، صيحات التحذير، حتى وقعت الكارثة؛ (أيتها العرافةُ المقدسة/ ماذا تفيد الكلمات البائسة؟/ قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبار/ فاتهموا عينيك، يا زرقاء، بالبوار/ قلت لهم عن مسيرة الأشجار/ فاستضحكوا من وهمك الثرثار/ وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا/ والتمسوا النجاة والفِرار).

ولد أمل في 23 يونيو 1940 بأحد قري محافظة قنا بصعيد مصر، ونزل القاهرة بعد حصوله على الثانوية، وكانت حياته مزيجا بين التمرد على العمل وكتابة الشعر. برع فى ربط التراث العربي بالواقع، حتى تظن أننا نعيش دورة تاريخ لا تنفك تتكرر أحداثها وتختلف شخوصها. في أوائل السبعينات كانت مصر تمور وتئن تحت وطأة ضبابية الموقف من الحرب ضد إسرائيل، وسياسات اللا سلم واللا حرب، اندلعت المظاهرات واعتصم الطلاب بأحد الميادين حتى حاصرتهم الشرطة وانتهى الأمر كالمعتاد فأصدر ديوانه (العهد الآتي)، كتب تحت عنوان سفر الخروج، الإصحاح الأول؛ (أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحةْ/ أَشهِروا الأسلحة!/ سَقطَ الموتُ؛ وانفرطَ القلبُ كالمسبحة/ والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!/ المنَازلُ أضرحَةٌ/ والزنازن أضرحَةٌ/ والمدَى.. أضرِحهْ/ فارفَعوا الأسلحة واتبَعُوني!/ أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحة/ رايتي: عظمتان.. وجمجمة، وشِعاري: الصَّباحْ!)

نُصِبَ أميراَ لشعراء الرفض، وكناهُ آخرون (شاعر لا تصالح) نسبة إلى مدخل ديوانه الأشهر (أقوال جديدة عن حرب البسوس)، استلهم رسالة كُليب لأخيه الزير سالم قُبيل مقتله على يد أعداءه مُعبرًا عن رفضه الصلح مع إسرائيل: (لا تصالحْ!/ ولو منحوك الذهب/ أتُرى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟/ هي أشياءٌ لا تشترى..).

دامت حرب البسوس نحو أربعين عامًا بين قبيلتي تغلب وبني شيبان، وهما أبناء عم، أربعون عامًا والعرب يقتل بعضها بعضًا ثأراً لناقة قتلها كُليب. أربعون عامًا والعرب تتفاخر بانتصاراتها العربية-العربية، وتذلها هزائمها العربية-العربية أيضًا. ببراعة أسقط أمل الأحداث على الصراع العربي الإسرائيلي، فعندما جاءت الوفود تناشد اليمامة، ابنة كُليب، الصلح، قالت لهم: (أبى.. لا مزيد !!/ أريدُ أبى.. عند بوابة القصر/ فوق حصان الحقيقة منتصبا من جديد)، ولكن هيهات أن يعود الأب الفقيد أو يحلَ الصُلح.   

مضى على رحيل أمل قرابة الأربعين عامًا؛21مايو 1983، وما زال أيقونة تتلألأ في سماء الشعر، ونختم بمقطع من قصيدته الموت في الفراش: (بيان../ أيها السادةُ، لم يبقَ اختيار/ سقط المُهرُ من الإعياء/ وانحلَت سيورُ العَرَبة/ ضاقت الدائرةُ السوداءُ حول الرقبة/ صدرنا يلمسهُ السيفُ/ وفي الظَّهرِ: الجدار!). يا إلهي أي حصار هذا. رحم الله الأمل؟!.



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved