آخبار عاجل

رواية مايا بقلم د: محمد مصطفي الخياط

30 - 05 - 2021 3:47 1410

الغلاف: لوحة للفنان المصري الراحل يوسف فرنسيس

يتقدم الكاتب بالشكر للجريدة على تفضلها بنشر الرواية.
مفتتح
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت
إلا و حُبّـــك مقــــرون بأنفــــــاسـي
ولا خلوتُ إلى قوم أحــــــدّثهــم
إلا و أنت حديثي بين جـــلاســــــي
ولا ذكرتك محــزوناً و لا فَـــــرِحا
إلا و أنت بقلبي بين وســــــواســــــي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رَأَيْـتُ خـــــيالاً منك في الكــــأس
ولو قدرتُ على الإتيان جئتـُكم    
سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس
ويا فتى الحيّ إن غّنيت لي طربا
فغّنـني وأســفا من قلـــــبك القـاســـي
ما لي وللناس كم يلحونني سفها
ديني لنفسي ودين الناس للنـــاس
حسين بن منصور الحلاج (26 مارس 858م  -  26 مارس 922م)
1    


سانتياجو، صيف 2018
مد المصباح لسانه إلى خارج غرفة النوم حتى بلغ غرفة المعيشة متوسطة المساحة وتمدد مسترخيًا على أرضيتها كقط أصفر اللون كسول، رغم الظلام أعرف طريقى واتجاهاتى؛ في الركن يومض هاتفى، المتصل بالشاحن بضوء خافت، انحرف يسارًا، أضغط زر النور عن يمينى، ينسكب الضوء في زوايا المطبخ، افتح ضلفتي الدولاب الخشبى المعلق على الحائط، فيصفق الصوت بين جدران المطبخ البسيط، لوازم رئيسية تكفى احتياجات شخص واحد، أتناول كنكة القهوة النحاسية اللون؛ أسكب فيها بعضًا من ماء، وشيئًا من بن، وقليلاً من سكر، أقلبها، وأضعها على سطح الموقد الكهربائى منتظرًا بدء فورانها، يعلو فقاعاتها البنية الداكنة بعض بن جاف لم يبلغه الماء بعد، شيئا فشيئا ترتفع حرارتها، تكتسب لونا أشد قتامة، ترتفع حوافها قليلاً، تنتفخ كإطار سيارة أطفال، تعبئ فيه النار غيظها المدفون فينتفخ ببطء مستندًا على الفوهة الداخلية للكنكة، تواصل الحواف ارتفاعها دون كلل، وفى اللحظة الفارقة؛ قبل إدراك ذروة سنام تمام الفوران أرفع الكنكة، أضعها على الرخامة الجرانيتية، أتناول من غسالة الأطباق كوبًا متوسط الحجم، أصبها فيه وأمضى يصحبنى عبقها إلى غرفة المعيشة.
أُضيء أباجورة المكتب، أعود وأطفيء نور المطبخ فيغرق البيت مرة أخرى في الظلام إلا من تلك البقعة المضيئة، افتح حاسبى الشخصي، اطلع على بريدى الإليكترونى، بضع رسائل روتينية عن العمل، أقرر إرجاء فتحها لوقت آخر، رسالة من الناشر (عزيزى ... ما زلت انتظر النسخة النهائية من الرواية. المعرض على الأبواب. علينا الشروع في العمل. هل يمكن أن ترسل لى مسودة نهائية ليعمل عليها مصمم الغلاف)، انتهى.
أى جنون هذا الذى فعلته حين وقعت عقد نشر روايتى الجديدة قبل الشروع في كتابتها، فقط بضعة محاور رئيسية وأفكار كتبتها وفاءً لنذر قطعته على نفسى؛ اكتفى بها الناشر ووافق عليها. بنى قراره اعتمادًا على تعاون مسبق في نشر أحد رواياتى السابقة؛ كانت قد حققت قبولاً متوسطًا، ناشر موتور، لا يشغله سوى جاهزية الرواية للنشر في معرض الكتاب، لا يهمه ما أنا فيه ولا ما يشغلنى.
من حين لآخر يذكرنى بالعقد وضرورة التفرغ للكتابة حتى انتهى، أيظن أننى آلة كاتبة؛ تنهمر كلماتها بمجرد الضغط عليها ؟، مؤكد أنه لم يجرب قضاء الليالى والساعات بحثًا عن كلمات في سحب الصيف الجافة وسراب صحراوات العمر؛ أكتب وأمحو، ما استحسنه وقت كتابته أنفر منه وأبغضه بعد حين، كر وفر بين قلمى وبين قطعان الكلمات وأسراب المفردات وقوافل الجُمل؛ تراكيب هندسية معقدة، أمضى الليالىّْ بين إضافة ومسح حتى أصل -بعد جهد- إلى نَصٍ أقبله بأقل نسبة من الجدال الداخلي، حينها أرضى عنه صاغرًا، ومن فقرة إلى أخرى تتجدد عذاباتى ومعاناتى؛ ولادة الكلمات ووأدها، استنباتها وشتلها، رعايتها حتى تُزهر وتطرح ثمارها من فضاء فقري اللغوى ورودًا ورياحين. 
على عجل وقعت العقد قبل مغادرتى بيروت بيومين، كنت مشغولاً مشتتا بين قطع حبلى السُرى ببيروت والتوجس من سانتياجو، علاوة على حزم امتعتى في حقائب وصناديق، أكثر من عشر سنوات قضيتها في تلك المدينة دون أن انتبه لمرورها، حين بدأت حزم أغراضى اكتشفت تغلل جذورى في تربتها وفروعي في سماواتها؛ فاجئتنى كثرتها وتفاصيلها، ثلاث حقائب متوسطة الحجم وصندوقان كبيران سلمتُهم جميعًا إلى شركة الشحن، ودونت العنوان 105 شارع كاداكوس، ضاحية سانتا ماريا دى مانتيكويه، سانتياجو العاصمة، تشيلى، ثم وَقَعْت على نموذج الشحن؛ وبعدها بدقائق تلقيت رسالة على هاتفى تؤكد ما تم من إجراءات مع رقم كودى مدون في مستطيل أسود اللون بخط ثقيل بارز أعلى الشاشة يتيح لى متابعة مسار شحنتى عبر أحد تطبيقات الويب Online حتى لحظة استلامها في العنوان المحدد.
وها أنذا أجلس الآن في ذات العنوان، وحيدًا في بيتى الصغير في سانتياجو تلك العاصمة المستقرة في قارة أمريكا اللاتينية الممتدة كشريط على حافة المحيط الهادى. رغم مضى أكثر من ستة أشهر على وصولى ما زال الكثير من لوازمى رابضًا في حقائبها التى جاءت فيها؛ لم أُفرغها بعد، أبحث عما احتاجه مُبَعثِرًا محتوياتها، فإذا ما وجدته، وعادة بعد عناء، أعدت ما أخرجته دون نظام حتى صارت الحقائب أشبه بصناديق نفايات؛ أكداس بعضها فوق بعض دون ترتيب.
لا أدرى كيف تراكمت لدى كل هذه الأشياء الصغيرة والكبيرة خلال إقامتى ببيروت؛ ملابس، كتب، قصاصات جرائد، هدايا زجاجية وأخرى خزفية وثالثة خشبية جمعتها من أسفارى ومناسبات عديدة شاركت فيها، اكتشفت أنى نسيت بعضها في زحام الحياة، فكرت في شحنها لشقتى في القاهرة ثم تراجعت تحت وطأة احتمال الحاجة إليها، مثال معبر عن ترددي في اتخاذ القرارات.
يا إلهى، لشد ما تشبه ذاكرتى هذه الصناديق المكتظة بتفاصيل لا يربطها سوى انتمائها إلي، أنا السبب في وجودها؛ ضحكات، دموع، كلمات مديح، هجاء، شكر، ذم، علاقات أسرية، أب، أم، أخوة، أجلس في قطار العمر خلف نافذة الزمن فتعبرنى الوجوه سريعًا قبل أن أدرك تفاصيل ملامحها، مشاهد وأحداث قضمت من عمرى دون رحمة، نقضت راحتى وطمأنينتى، قرقشت عظام وحدتى وقلة حيلتى، قطارات ومطارات وسيارات وجوازات سفر، بوابات وصول ومغادرة، حقائب وصالات انتظار وتسوق، وجوه سمراء وبيضاء وصفراء، من كل حدب ولون، تتناهى في أذنى صوت عجلات الحقائب المكتوم على بلاط أرضيات المطارات، يفرقع الصوت عند الفواصل، مشغول البال بما يأتى وما لا يأتى، يا لها من ذاكرة مشتتة تحتاج إلى ترتيب، كثيرًا ما اتساءل كيف أحيا بذاكرة مسكونة بالفوضى، الغريب أنها رغم اضطرابها وتشوشها ما زالت قادرة على حفظ تفاصيل صورة واحدة فقط؛ صورة واحدة، امرأة لم يخلق مثلها في البلاد، ببهائها وجمالها، بأنفاسها الهادئة والمتوترة، بخارطة جسمها، بدفئها وبرودها، بجنونها ورزانتها، بغضبها وغنجها، بصوتها القادم من قاع بحر الإغواء وهديرها الصاخب في سماوات الرفض.
اعتدل في جلستى مجددًا نشاطى، ليس لدى وقت أجلس فيه مسترخيا أنبش فيه ذاكرتى في كسل متجاهلاً إلحاح رسائل واتصالات الناشر. على شاشة حاسبى اتصفح الملفات بحثًا عن ضالتى، فيما يشدو عبد الحليم حافظ -عبر موقع "Sound Cloud"- في الخلفية ببعض أغانيه؛ يتفاوت انتباهى للكلمات بحسب اندماجى في العمل، يأتينى صوته متسائلا بكلمات الشاعر محمد حمزة،
-    لو حكينا يا حبيبي نبتدى منين الحكاية
عقبت ساخرًا،
-    لا يهمنى من أين تبدأ يا سيدى، دع البروتوكولات والمراسم وأطلق للسانك العنان. حتى لو بدأت من المكان الخطأ تأكد أن الأفكار والكلمات لا شك ستنتظم لتُعيدك للمسار الصحيح، الشجاعة في أن تبدأ
تجرى عيناي على أيقونات الملفات المتراصة بنظام على الشاشة أين أنت أيها الملف اللعين؛ سِجل شقائى ونعيمى، نارى وجنتى، حرى وظلى، شاهد لى وشاهد على، ما أصعب أن تغمس سبابتك في مداد دمك وتسجل آلامك وعذاباتك، أمنياتك وإحباطاتك، لا تنتظر شهادة الآخرين، تبادر من تلقاء نفسك وتجلس أمام قس اعترافاتك الذاتى؛ ترفع كفك الأيمن وتقسم أن تقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، تغتسل بسردك الذاتى، تتطهر من أدران خطاياك، تُفتش في زوايا الذاكرة، تقلب سرادقات النيات، تُخرج كل خبيئة وتتأملها بين يديك في صمت، تقلبها رأساً على عقب، تضعها على ميزان أوزوريس، تتعلق عيناك بريشة ماعت، تغلق عينيك مع تأرجح الكفتين مبتهلاً معتذرًا متوسلاً، ثم تحكى مُسَربلاً بخمار الدمع دون توقف ودون خجل. 
ما إن وقعت عيناى عليه حتى تمتمت وأنا أضغط على اسمه بالفأرة مرتين،
-    ها هو  ؟
فَتَحت الصفحة الأولى على بياض في أعلاها، أنزل قليلاً قليلا، تظهر شواشى حروف سوداء غليظة بعرض الشاشة راسمة كلمة واحدة، "مــايا"، بينما تظهر في الخلفية عبارة، مسودة نهائية؛ كعلامة مائية كتبت بخط رمادى فاتح اللون يتمدد مائلاً بقطر الصفحة، أرشف من فنجان القهوة متلذذًا بطعمها الممزوج بشئ من مرارة، "أما آن لهذه الرواية أن تنتهى ؟، أما آن لهذا النذر أن يُوَفْىَ ؟"، همست لنفسى، وهل هناك من أسأله غيرى في هذا الصمت المقيم، بيت من دور واحد تتجاوز مساحته الثمانين مترا بقليل تحيط به حديقة صغيرة بأحد ضواحى سانتياجو، هادئة أو ميتة إن شئت الدقة، لا تكاد تسمع صوت في الشارع اللهم إلا سيارات السكان وبعض هواة التريض صباحًا، عدا ذلك لا صوت ولا حركة لإنسان، فقط حفيف أشجار وزقزقة طيور، تُعجب بالضاحية أول نزولك بها ثم لا تلبث أن تزهدها وتزول دهشتك؛ مكتشفًا أنها صارت سجنك الاختيارى.
كنت اتحرى البحث عن حي سكنى هادئ وليس ضاحية تموت كل ليلة مع آخر شعاع ضوء، تتراقص أضواء أعمدة الإنارة المغروسة في الجزيرة الفاصلة بين اتجاهى السير المتوازيين على إيقاع زغزغات الريح، أتمشى وحيدًا على الرصيف الممتد بطول الضاحية لا يؤنسنى سوى صوت أقدامى وخشخشة أوراق الشجر الجافة كأنما تدفعها الريح نحوى لتؤنس وحدتي، أدوس بعضها فيعلو صوت تهشمها تحت حذائى الثقيل فتذروها الرياح ذات اليمين وذات الشمال، من بعيد يتوهج ضوء سيارة قادمة؛ "يا لها من مصادفة سعيدة، على غير العادة أقابل سيارة، كم أنا محظوظ هذه الليلة"، أقهقه، كم من ليلة خرجت وعدت لا يصحبنى سوى ظلى المتراقص على أضواء المصابيح. صخب وموت؛ هذا أقل ما يوصف به الحى.
قبل وصولى سانتياجو، لم يكن يفصلنى عن كورنيش بيروت سوى دقائق سيرًا على الأقدام أو خطوات معدودات لأكون مع سعيد، أو الحاج سعيد كما اعتدنا مناداته؛ رَبِعَة، بين الطول والقصر، ممتلئ الجسم، يرتدى قلنسوة صوفية شتاء وبيرية مضلع صيفا لا يفتأ يرفعه من حين لآخر هارشًا رأسه الأصلع، فارق الخمسين من عمره بقليل ولم يزل روح طفل مشاغب، رغم الفاصل الزمني بيننا تقاربنا وتعارفنا ومن خلاله تعرفت على شلة الكورنيش واختزن عقلى الباطن، على غفلة منى، صور مايا أثناء ممارستها رياضتها الصباحية قبل تعارفنا وجهًا لوجه.
الآن، يفصل بينى وبين مايا أكثر من أحد عشر ألف كيلومتر؛ رحلة طويلة استغرقتها الطائرة، من بيروت إلى القاهرة فالبرازيل ومنها إلى سانتياجو، ست وثلاثون ساعة تقريبا قضيتها في وسائل مواصلات مختلفة، طائرات وسيارات، حتى دخلت هذا المنزل الذى تفقدته وحجزته من بيروت عبر موقع الإنترنت، متعمدًا البعد عن ميدان بلازا دي أرماس، سُرة المدينة ومركز صخبها، اخترته للسكن فإذا به يصلح لإقامة دير أكثر منه بيت لشخص وحيد مثلى.
خلال رحلتي إلى سانتياجو نزلت مطار القاهرة قُرب منتصف الليل ومنه إلى شقتى، وضعت حقيبتى إلى جوار الباب ومضيت أتفقدها؛ مرت شهور طويلة على آخر زيارة، فتحت باب البلكونة فأصدر صريرًا خفيفًا، خطوت نحو السور على الأرضية المتربة -عدة طبقات تسمح لعلماء الجيولوجيا معرفة مدة غيابى- كان النيل هادئًا نائمًا وكعادته يطبطب على المجروحين والمكسورين، تنعكس على صفحته أضواء المراكب الراسية، وتُهدهد الريح الخفيفة الأضواء على صفحته؛ ريح سبتمبر، أخذت نفسًا عميقًا، ملئت رئتي وببطء أخرجت زفيرى، كررتها عدة مرات، ورحت اختزن المشهد بكل تفاصيله وتناقضاته؛ الفيلات والأكشاك المتواضعة المنثورة هنا وهناك، الأزقة والمناطق الشعبية، السيارات الفارهة والمراكب البسيطة. 
قرب الفجر سافرت لوداع والداي بالقرية، رفضت أن يحضرا للقائى بالقاهرة كعادتهما؛ كان لدى رغبة ملحة كى أملأ عينيّ من مشاهد القرية، أشم رائحة الطفولة والصبا؛ استنشق عبير الحقول، أخطو في البيت البسيط المتواضع، ألمس حوائطه الخشنة، أنظر من الشباك المطل على أرض أبي، أمشي في الشارع الترابي، أملأ حواسى بكل ذرة من ذرات قريتنا، بالكاد مكثت حوالى ست ساعات عدت بعدها إلى المطار مباشرة حيث قابلت أخي واختى وأسرتيهما في الكافيتريا الملحقة، وبعد حوالي ساعة من الدفء العائلي ودعتهما وقد تداخلت ستائر دموعنا قاصدًا سان باولو/البرازيل في رحلة امتدت نحو عشر ساعات، لأنتظر الطائرة المتجهة إلى مطار سانتياجو الدولي بالعاصمة التشيلية، ومنه إلى منزلى هذا بالتاكسى لا يصحبنى سوى حقيبة صغيرة تكفى ليومين ريثما تصل الحقائب والصناديق عبر شركة الشحن.
تقتصر ضاحية سانتا ماريا على فيلات من دور واحد أو دورين على الأكثر تحيط بها حدائق بعضها صغيرة وبعضها كبيرة؛ بحسب مساحة المنزل تكون الحديقة، يمكننى القول أننى أقيم في حديقة كبيرة نُثرت فيها بعض الفيلات؛ تقسمها الشوارع النظيفة طولاً وعرضا، منطقة تناسب راغبى الهدوء. وصلتها والشمس في نهايات ساعة الأصيل، حوالى السادسة مساءً بتوقيت سانتياجو، منتصف الليل بتوقيت بيروت والقاهرة، أى تعب هذا الذى حل بى، كنت أشعث الشعر مكدودًا، سفرٌ طويل، من مقعد طائرة إلى أخرى، هدنى التعب عدة مرات فغلبنى شيء من نوم أُفيق بعده والجريدة ملقاة تحت قدمي مرة، والفيلم يوشك على نهايته مرة أخرى، والوجبة التى تركتها المضيفة المهذبة أثناء غفوي باردة؛ اكتفيت بالفواكه تجنبا لانتفاخ بطن يلازمنى متى تناولت طعام الطائرات، أُجهدت خلايا جسدى كلها؛ لا أطيق السفر مساءً ولكن ما الحيلة إذا استغرقت الرحلة أكثر من يوم ونصف اليوم؛ يتعاقب عليك الليل والنهار تكافح خلالها اضطرابات القولون، فلا تملك إلا أن ترد الطعام شاكرًا وتطلب ماءً ساخنًا مع بعض الفواكه أو تكتفى بكوب زبادى مع شاى أخضر.
وصلت شقتى فوجدت أليخاندرو في انتظارى، حدثنى بإنجليزية ركيكة يغلب عليها لهجة إسبانية اضافت للأولى حروفًا جديدة أهمها الخاء. سلمنى الفيلا الصغيرة والمفاتيح ومضى بعد ما ترك بعض الفواكه الطازجة وعلبتى شاى وسكر، وكيس قهوة، فشكرته على كرمه،
-    شكرًا جزيلاً، هذا كثير
-    أنت غريب وتحتاج لبعض الوقت حتى تتأقلم
-    أشكرك
-    أتركك الآن لترتاح وسوف أمر عليك غدًا لتتعرف على الحى وترى المدينة
-    لا تتعب نفسك، أعرف كيف أتعامل مع مثل هذه الظروف
-    من الأفضل أن يكون معك دليل في المرة الأولى، 
ثم غمز بعينه اليمنى وأكمل،
-    وبعدها يمكنك التحرك وحدك دون قلق
أجبت مبتسمًا،
-    اتفقنا 
-    سوف اتصل بك قبل تحركى من بيتى، اسكن على بعد نصف ساعة من هنا
-    ممتاز !!
ثم قال بالعربية،
-    سلام 
سألته مندهشا
-    أنت تتحدث العربية ؟، هذا جميل !! 
-    شوية شوية، سلام
-    سلام 
ولم تكن هذه (الشوية شوية) إلا رماد ماض يمتد عبر سنوات طويلة اكتشفت خلفه خزان آلام وتاريخٌ طويلٌ للشتات ومحاولات مستميته لتعويضه عبر أجيال متعاقبة.
بدا متينًا كملاكم أو لاعب رفع أثقال معتزل عريض الكتفين ممتليء الجسم يمشى فيتحرك نصفه الأعلى في الجانبين وتتأرجح ذراعاه حوله، كثيف الشعر تنسدل خصلاته الرمادية على جبهته من حين لآخر، فتدارى عينى ذئب، فيرفعها بعفوية، يرتدى سروالاً من الجينز على قميص خفيف أصفر اللون يرتفع عند البطن؛ تكشف أكمامه القصيرة عن ساعدين قويين، لسبب غير معروف ارتسم أمامى وجه ألفونسو، رئيس مايا في العمل بملامحه اللاتينية أتذكر كرهي له أول معرفتي به ثم حياديتي بعد ذلك فأمط شفتاي ساخرًا من سذاجتي وغبائي. 
استسلمت لدش دافيء أكلت بعده بعض الفاكهة وشربت شايا أخضر بنكهة النعناع، ثم خلدت للنوم، لم أدر كم ساعة نمت؛ كل ما أتذكره أننى نهضت للحمام وأنا نصف نائم، مرة أو مرتين، عاودت بعدهما النوم بتلقائية أُحسد عليها حتى استيقظت وقد شبعت خلاياى واستعادت بعضًا من عافيتها، تناولت فطورًا خفيفًا ورحت أتنقل بين قنوات التلفاز فوجدت أغلبها باللغة الإسبانية إلا من قناة واحدة للأخبار، CNN، باللغة الإنجليزية، ستصير فيما بعد القناة الوحيدة، تقريبا، التى أشاهدها، وربما كنت المشاهد الوحيد الذى يتابعها في هذه الناحية؛ حيث لا يكاد أحد يعرف الإنجليزية، بحسب قول أليخاندرو وتعقيبه "تستحق أن تحصل على كأس المشاهد الوحيد لهذه القناة".
بعد عدة أيام، رتب لي أليخاندرو مع سائق تاكسى، فرناندو، كى يمر على صباحًا ليقلنى إلى عملى في شارع داج همرشولد، أو همرسكيولد كما ينطقها السكان المحليون؛ حيث مقر الأمم المتحدة، وحيث يستقر مكتبى في أحد غرف الطابق الثالث، نمشى بمحاذاة نهر مابوتشو ثم نعبر إلى الضفة الأخرى عبر كوبرى لوكورو لنعاود السير مرة أخرى بمحاذاة النهر ولكن في الاتجاه المعاكس ثم ننحدر يسارًا عبر عدة طرق جانبية ورئيسية حتى نصل إلى مبنى المنظمة، والعكس صحيح، اتصل عليه قبل موعد انصرافى بنحو ساعة ويتصل على بمجرد قدومه، فأعود معه إلى بيتى الصغير محترفًا لغة الصمت.
"بونجورنو، بوناسيرا"، كلمتان خفيفتان لا اتبادل سواهما مع فرناندو، الأولى محييا في الصباح والثانية في العودة، وفى نهاية كل أسبوع أنقده أجره. طويل القامة نحيل الجسم ذو بشرة لوحتها الشمس يرتدى نظارة طبية بإطار أسود عريض لامع ذو شارب متوسط، يحافظ على نظافته وأناقة ملابسه. مع الوقت ذاب ما بينا من تكلف واعتاد أن يفضفض معى، أنظر إليه مبتسما معتذرًا محركًا كفىّْ في اتجاهين أفقيين متعاكسين بما يعنى "لا أفهم"، بينما يحرك هو رأسه ويقول "سي سي"، أى أنه يعرف ويفهم أني لا اتحدث الإسبانية، ثم يمضى في حديثه كأننى أتابعه وأناقشه، ترن على قارعة أذنى تلك الحروف الإسبانية بجرسها المميز وبعض من حروفها العربية مع حرف الثاء دون فهم.
فى أحد المرات ابتسمت ثم أخرجت هاتفى واتصلت بأليخاندروا، شرحت له الموقف فطلب أن يحدثه، فانطلق يتكلم بصوت مرتفع قليلا ويحرك يديه بشيء من عصبية، ثم أعاد الهاتف لى، فقال لى أليخاندرو وهو يضحك، أنه اعتاد تبادل الحديث مع زبائنه سواء كان المشوار قصيرًا أو طويلا، واختلف الأمر معى، فأنا لا اتحدث الإسبانية وهو لا يتحدث الإنجليزية، يقضى معى نحو ساعة يوميا مقسمة بين الذهاب والعودة، ووجد أنه لا يطيق صبرًا على عدم الكلام، فقرر المحافظة على عادته حتى وإن لم أفهمه، بل شجعه ذلك على قول ما يخجل منه للآخرين مطمئنا إلى عدم فهمى ما يقوله، فعقبت ضاحكا،
-    إذًا فقد جعل مني قِس اعترافات
ثم أردفت،
-    سوف ابدأ من ناحيتى تعلم الإسبانية دون أن أخبره لأطلع على أسراره
فبادلنى ضحكًا بضحك. لكننى لم أمض في تعلم تلك اللغة ولا اعتزمت ذلك ولو في المستقبل، حتى وإن نويت البقاء في هذا البلد.
رغم مرور عدة شهور على إقامتي بسانتياجو، فضلت الاستمرار مع فرناندو عن شراء سيارة؛ لا زالت تنقلاتى محدودة، ونادرًا ما أخرج وحدى، إما معه أو مع أليخاندرو للتسوق بعد انتهاء مواعيد عملى لأعود إلى شرنقتى ووحدتى إلا من بعض رسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعى، أو مهاتفا والدىّ أو أحد إخوتى، أعود بعدها للقراءة أو الكتابة.
أعدت قراءة روايتى العجوز والبحر لهيمنجواى والخيميائى لباولو كويللو، فخلاف قربهما منى وتعاطفى مع بطلى القصتين وأسلوبى الكاتبين العظيمين؛ فإن البطل في كلاهما يدعى سانتياجو، ذات اسم المدينة التى أقيم فيها الآن، تفيض الروايتان بالجوانب الإنسانية مع غناهما وثرائهما بالمعانى والتعبيرات الفريدة، قضى الأول من حياته في البحر أكثر مما قضى على اليابسة، وقضاها الثانى في ترحال دائم في الصحراء وعبور قصير للبحر، تناقضات !.
عاش سانتياجو هيمنجواى يحلم بصيد سمكة الماندرين العملاقة، أكثر من ثمانين يوم يستقل مركبه إلى عرض البحر ويعود خالى الوفاض، فلما اصطادها فقدها، عجز عن حمايتها من أسماك القرش العملاقة، ما أصعب أن تفقد حلمك في لحظة تحقيقه. فيما كان سانتياجو باولو كويللو مثالاً لمن لا يعرف ما يملك من كنوز حتى يهيم في الدنيا سائحًا باحثًا معذبًا فإذا ما أوغل في البعد فهم واستوعب فيأفل عائدًا إلى حيث كان. 
إيه، احترفت ثنائية الترحال والهزيمة، من بلد إلى بلد تصحبنى جراحاتى وانكساراتى، ممزقة راياتى، تجاوزت الأربعين ولم أنجح في بناء حياة اجتماعية مستقرة؛ خسرت كل جولاتى باحترافية، أحببت وهجرت، تزوجت وطلقت، حتى ؟، حتى ماذا ؟، حتى هى؛ مايا، صارت خنجرًا في الخاصرة وتحولت بسببها إلى سيزيف جديد؛ ما تصورته ذات يوم أسطورة يونانية نتسلى بها في ليالى السمر والسفسطة الثقافية نغالب بها برودة ليالي الشتاء صار حقيقة، أحمل صخرة ذنوبى فوق كتفى كل صباح وأصعد بها جبل التوبة حتى إذا ما بلغت منتهاه واطمأننت إلى نقائى تدحرجت ذنوبى إلى السفح ثانية، ارتد هابطًا خاسرًا لأحملها مرة أخرى وأصعد بها، اتحامل على آلامى وعذاباتى وانكساراتى أملا في توبة بلا رجعة، ولكن هيهات هيهات.
ها هى صورتنا معًا -أنا ومايا- تُشع بهجةً وحبًا ونحن في مدينة جُبيل بلبنان، أضعها على يمين حرف المكتب، واحتفظ في هاتفى وحاسبى بمئات الصور التى لا تقل تعبيرًا عن حب لم أتخيل تحوله إلى ماض حارق. يا إلهى، إن ما نفعله الآن يتحول لماض في لحظة، بأيدينا نصنع من الذكريات أكثر مما نصنع من المستقبل.
حفاة، نمشى على حد سكين الممكن والمباح، نخطو بحذر وخجل؛ مجروحة أقدامنا؛ تُدميها شفرة مرهفة حادة لا تميز بين غث وسمين ولا بين صالح وطالح. ممزقة قلوبنا؛ فما عاد لسهام الشامتين بقعة تَعْلَقُ فيها، فراحوا يرشون الملح، خلسة، في الجراح. ترتبك خطواتنا، فنفرد ذراعينا حذر السقوط، محظور أن تتلامس أيادينا ولو صدفة، أو تلتقى عيوننا ولو بغتة، أو تتماس أكتافنا ولو لحظة، تمشى فأتبع ظلها، أمشى فتتباعد المسافات، (يصير الوراء أماما) كما قال نزار قبانى من قبل، اتلفت حَوَالىّْ، تتداخل المحطات، أتوه في عناوينها، تتشابه المدن، أفقد خريطتى وبوصلتى ومسارى. في الاتجاه الـمُعاكس، ينزف جُرح عشقى ليل نهار، استحال جُرحى قنديلاً ينير طريق إيابى مدحورًا مكسورًا تجاه مدن لا تعترف بالحب. مُدن ترى في كل أنثى مشروع خطيئة، وفى كل نظرة دليل إدانة، وفى كل لمسة برهان تجاوز. 
فى مجتمع يستمتع بقهوته على وقع آهات رجم العاشقين، يصبح التفكير في الآخر جُرماً نُعتقل بسببه، وإثماً نُلقى به في نار جهنم، وجريرة تلوث ماضينا وكافة أزمنة المضارع والمستقبل وما لم يكتشفه ويثبته أبو الأسود الدؤلي ومن تبعوه في علوم اللغة وأصول البلاغة وكل ما ليس له أصول. تعشش في سقوف عقولنا عناكب البصاصين وعيون المفتشين وتجوس في صدورنا أيادي النَبْاشين؛ يفحصون ذكرياتنا، يُقلبون أوراقنا، يهملون الحروف ويقرأون ما بين السطور. ينفذون من عيوننا، وأنوفنا، وشفاهنا، ومن مسام جلدنا، يتشممون رائحة عرقنا، يراقبون دقات قلوبنا، ويتنصتون حتى على همساتنا وخشخشات مناجاتنا الداخلية.  
وحدنا، أنا وهى، يشنقنا حبنا على بوابات الصمت وجدران الممنوع، فإذا ما تجاوزنا الخطوط قتلتنا العادات والتقاليد. نتهامس حينًا، ونصخب حينًا. تتجمع الكلمات كقطرات الندى على حواف أوراق الشجر، تنزلق إلى سن الورقة، تسقط على سطح البلاط المضلع البارد. تتجمع سحب الكلمات في فضاء الخجل وشغف اللمسة الأولى. رذاذٌ خفيفٌ من عبق الكلمات، يتساقط على رؤوسنا، يغمر جباهنا ووجوهنا. نبتسم، فتنزلق القطرات على الشفتين. أمسح شفتى بلسانى لأرتوى، صرت كلما أضنانى العطش ضربت غيمة الصمت بسيفى فينهمر مطر الكلمات الخجلى في فمى رطبًا نديا، أتجشأ رِيًا وشبعا ورضًا حتى ثقُلت بطنى وسمنت.
تتخلل حديثنا توابل الحياة والعمل، مناغشات من حولنا، وربما مضايقاتهم، ويتخلله أيضاً لحظات صمت. عالم جديد، تُدهشنا تفاصيله، رائحته، ألوانه، صوته، وحتى عَرقُه. مازالت، رغم القرب، تُذكرنى بتفاصيل لقائنا الأول؛ توجس وترقب مشوب بالحذر، 
-    ربما، أنا لا أتذكر
أُجيبها في اقتضاب فتصر على خَمش ذاكرتى بحكاياتها، ثم تنفجر ضاحكة وتعقب، 
-    لا يهمنى ما مضى، المهم أين أنا منك الآن
 تقولها فيما لا تزال ضحكتها معلقة بشفتيها كعادتها، فإذا ما آن أوان افتراقنا وجدنا أنفسنا نودع بعضنا البعض مرددين،
-    أراك أمس
وكثيرًا ما نطقناها معًا، فنضحك، ونقول معًا أيضًا،
-    بصرة
نقولها أيضًا معًا. كنا إذا التقينا توحد الزمان؛ ما عاد الأمس يختلف عن الغد. معًا، نترقب أول شعاع شمس يولد من عين الأفق المحمرة سهدًا وأرقا، وأول خيط من خيوط ضوء القمر المشغول بعشاقه المتيمين والحيارى. ومن رحم الماضي يأتى الغد.
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved