
امتدادًا لمقال الأسبوع الماضي، (البيانات .. من الدردشة إلى قيادة العالم)، وتأكيدًا على ما تلقيت من تعقيبات قراء كرام بذلوا الوقت والجهد للقراءة والتعقيب، نستطرد اليوم ببعض من خواطر حول البيانات.
من نافذة التاريخ: روى المؤرخ الصحفي الكبير عادل درويش، السكندري المولد الإنجليزي الجنسية، في أحد مقالاته، أن بريطانيا أطلقت في عام 1937 المشروع القومي لتوثيق الحياة اليومية، بهدف تدوين ملاحظات المواطنين وتعليقاتهم على الأحداث، وحددت 12 مايو من كل عام لتدوين المذكرات على مدى 24 ساعة. ورغم تعرض المشروع لانتقادات وتوقفه لفترات، وانخفاض عدد المتحمسين له مع تطور تكنولوجيا الاتصالات، إلا أنه يصفه قائلاً (هذا الأرشيف بالغ الأهمية لنا كمؤرخين، تماماً مثل حجر رشيد، في إيجاد مصادر موازية لتوثيق التاريخ). ليس التاريخ ما نقرأه فقط على صفحات الجرائد، إنما ما يعيشه المواطنون.
بحث علمي: لم يكن أمامنا -في أوائل التسعينات- سوى جهاز كمبيوتر مركزي Main Frame بأكاديمية البحث العلمي، يقصده الباحثون من أنحاء المحروسة، ليحجز كل منهم وقتًا محددًا لا يزيد عن ساعة لقاء مبلغ معين. نجلس إلى جوار موظف نملي عليه الكلمات المفتاحية Key Words، فما أن تظهر النتائج على الشاشة مكتوبة بخط أخضر فاقع اللون، إذ لم تكن الشاشات الملونة قد ظهرت بعد، حتى نستعرضها على عجل، تطاردنا عقارب الساعة وطابور المنتظرين في ضجر، وأمام خيار نطبع أم نتجاهل، كم عدنا بأوراقٍ مُثقبة من الجانبين لا تمت لما نبحث عنه بصلة، فقط كلمات مشتركة. ومع ذلك، رأيناها بمقاييس وقتها، إمكانات هائلة، واليوم تبدو ضئيلة محدودة القيمة.
الزمن والنسبية: لم تكن الإنترنت قد دخلت بعد، والأجهزة الشخصية تستخدم على استحياء. أتذكر أول حاسب محمول عملت عليه، كان بحجم حقيبة سفر متوسطة الحجم ثبت في جانبه الأيسر شاشة بقطر ثلاث بوصات، أحادية اللون، مع قرص صلب Hard Disk، كم فتحنا أفواهنا مشدوهين من ضخامة سعته التخزينية، 10 ميجابايت، ثم نعقب بأننا لا شك نحتاج سنوات من العمل المتصل حتى تمتلئ. اليوم تفوق سعة ذاكرة بحجم عقلة الأصبع آلافًا منه. حقًا، إنها النسبية.
تطور: بتطور أجهزة الحاسب الشخصية وعلوم شبكاتها بمعدلات متسارعة، زاد من وتيرتها اندماج العلوم مع بعضها البعض وتقلصت المساحات الفاصلة فيما بينها، وبدلا من الجلوس مكتوفي الأيدي إلى جوار مُشغل الكمبيوتر المركزي، صار بإمكاننا الوصول بحواسبنا الشخصية إلى البيانات الضخمة Big Data.
التعلم الذاتي: البيانات هي المستقبل، بحسب نتائج دراسة أجراها مكتب Research and Market، تجاوزت قيمة السوق العالمية لتحليل البيانات الضخمة 37 مليار دولار عام 2018، وتنمو سنويًا بأكثر من 12%، ويتوقع أن تتجاوز المائة مليار بحلول عام 2027 مع زيادة الاعتماد على الأنظمة السحابية Cloud Computing وإنترنت الأشياء Internet of Things والذكاء الاصطناعي Artificial Intelligent ، وصولاً إلى استشراف المستقبل وظهور أجيال من الروبوتات قادرة على التعلم الذاتي.
البيانات للغد: تضمن البيانات الدقيقة إصدار قرارات حكيمة من قبيل استهداف فئات بعينها لتلقي الدعم، تحديد أكثر الفئات تأثرًا بفيروس كورونا، وأيها أعلى استجابة للقاحات، ومتابعة آثارها الجانبية مُصنفة طبقًا للحالات وظواهرها. هيكلة منظومتي الضرائب والجمارك اتساقًا مع أهداف جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتنمية الصناعات المحلية، وغيرها الكثير.
إن قرارًا يصدر اليوم اعتمادًا على بيانات الأمس إنما هو قرار منتهي الصلاحية. لا تصدر القرارات للماضي، إنما لنعيش بها في المستقبل وقودها بيانات دقيقة وأدواتها نظم معالجة متطورة، عندها نرى المستقبل حاضرًا لا لبس فيه.