
لسنوات طويلة كانت السبرتاية (موقد صغير من النحاس الأصفر تشعل ناره بالكحول الأحمر النفاذ) بلهبها الهادئ، والكنكة الصفراء إلى جوار فناجين صغيرة على صينية نحاس من ملامح البيوت المصرية. تعد عليها ست البيت قهوة الصباح والمساء، وتتهادى إلى جوارها حكايات ونس ودفء الجيران والأقارب.
كانت القهوة أحد دلالات مهارة العروس أمام حماتها المنتظرة، صاحبة قرار قبولها ورفضها، تختبر بالقهوة جملة مهارات، أولها ضبط المقادير، وثانيها الشطارة بأن يعلوها "وش" كثيف متصل كقرص متماسك لا تختبئ به حبيبات جافة تعلق باللسان، وذوقها ونظافتها في تقديمها إلى جوار كوب ماء بارد معطر بقطرات ماء الورد، وأخيرًا اختبار أعصابها واتزانها بألا يهتز ما على الصينية اللامعة أثناء دخولها بها ولا الفنجان وهي تقدمه إلى الضيفة العزيزة غير مبالية بعينيها المتفحصتين.
تغير الوضع الآن، وصارت الحماة ترضخ لاختيار ابنها فتاة أحلام أقصى ما تعرفه عن المطبخ أن تتصل بالمطعم لطلب وجبات جاهزة، ترتمي بعدها على الفوتيه من شدة الإرهاق!. فطلب محشي ورق عنب مع بط بلدي بالخلطة مجهد إذا قورن بطلب سمك مشوي بالزيت والليمون، زمن!!.
دخلت القهوة مصر مع الطلبة الوافدين من اليمن للدراسة بالأزهر أوائل القرن السادس عشر، ويُروى أن جدلاً فقهيًا دار بشأنها آنذاك. وبمرور الوقت اعتادها المصريون. بظهور القهوة السريعة أوائل الثمانينات، تنوعت طعومها وطقوسها، فمنذ سنوات قليلة حول البعض سياراتهم الخاصة إلى مقاهٍ متحركة تقدم القهوة بنكهاتها المختلفة، كراميل، بندق، لوز، فانيلا.
لم تترك التكنولوجيا شيئًا على حالة، ظهرت الماكينات الكهربائية لإعداد كافة الأنواع بما فيها القهوة التركية بنكهة تشابه مثيلتها المعدة في الصحراء على وهج الرمل.
حاليًا، يبلغ استهلاك مصر من القهوة حوالي 39 ألف طن سنويًا، أى أقل من نصف استهلاكها من الشاي. ارتفع متوسط استهلاك الفرد من 150 جرام سنويًا، إلى 400 جرام، في دلالة على انتشارها، وإن عُدَّت أرقامًا زهيدة أمام استهلاكات الدول الأوربية؛ نحو ثمانية كيلوجرامات للفرد في هولندا، وستة في الدنمارك، ومثلها في البرازيل أحد معاقل انتاج البن عالميًا، أكثر من 30%.
يحتل بن أرابيكا الصدارة باحتوائه على 1,5% من الكافيين، لذا فهو أقل مرارة من حبوب الروبوستا، تحتوى على 2,7% من الكافيين. وتعد القهوة التركية الأشهر في مصر وتوصف بحسب مقدار السكر المضاف إليها؛ زيادة، مضبوط، ع الريحة، وأخيرًا سادة؛ أي بدون. ومؤخرًا ظهر فنجان بين المضبوط وع الريحة، يطلق عليه (مانو)، وإذا أضيف إليها بعض الحبهان والقرنفل والزعفران سميت محوجة.
وهناك القهوة العربية وتشرب مغلية بالهيل ويختلف لونها بحسب درجة تحميص الحبوب. ولها تقاليد عريقة في إعدادها وتقديمها مع التمر المجفف. ويفضل القهوة الخضراء الراغبون في رفع معدلات حرق الدهون. وتختلف الفرنسية باللبن عن نظيرتها الإيطالية –الكابتشينو- في القوام والرغوة. والأمريكان، أو القهوة السوداء. أضف إلى ذلك، الإسبريسو الإيطالية، وهي مركزة وقوية النكهة، وتقدم مع قطع الشوكولاتة، وتذكرنا بكتاب عمر طاهر (قهوة وشيكولاتة)، في حين اختار الراحل أحمد خالد توفيق عنوانًا مغايرًا (قهوة باليورانيوم)، وكتب نزار قباني رائعته (قارئة الفنجان)، وحَزِنا مع عبد الحليم حافظ وهو يشدو منتحبًا على حبيبة (ليس لها عنوان)، هذا خلاف روايات وكتب كثيرة تشترك كلمة (قهوة) في عنوانها.
بخلاف الشاي، ارتبطت عدة مهن بالقهوة؛ الطحان، والبنان، والقهوجي، والفناجيلي –وكان اسم لاعب كرة مصري شهير في الخمسينات-وقارئة الفنجان، حتى كلمة مقهي، اشتُقت منها. حظوظ!.
وفي النهاية أتركك عزيزي القارئ مع فنجان قهوة محوج مضبوط. بالصحة.